تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة
المؤلف : السيوطي
مصدر الكتاب : موقع الوراق
http://www.alwarraq.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

ابن أبي الإصلغ عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر البغدادي ثم المصري. أحد الشعراء المجيدين، وصاحب التصانيف المفيدة في الأدب. توفي سنة أربع وخمسين وستمائة.
الهاء زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن الأزدي المصري الشاعر الكاتب صاحب الديوان المشهور. ولد بمكة ونشأ بقوص، وقدم القاهرة، وخدم الملك الصالح. مات بمصر في ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة.
سيف الدين أبو الحسن علي بن عمر بن قزل المعروف بالمشد الشاعر المشهور. ولد بمصر في شوال سنة عشرين وستمائة، وتولى شد الدواوين، وله ديوان شعر مشهور. مات يوم عاشوراء سنة ست وخمسين وستمائة.
أمين الدولة علي بن عمار السليماني. أحد الشعراء. ولد سنة اثنتين وخمسين وستمائة، ومات بالفيوم سنة خمس وسبعين.
أحمد بن موسى بن يغمور بن جلدك الأمير شهاب الدين. ذكره ابن فضل الله في شعراء مصر. مات بالمحلة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
أبو الحسين الجزار الأديب جمال الدين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد المصري الشاعر المشهور. مدح الملوك والأمراء والوزراء والكبراء. مات في شوال سنة تسع وسبعين وستمائة وله ست وسبعون سنة.
ومن شعره:
سقى الله أكتاف الكنانة بالقطر ... وجاد عليها سكر دائم الذر
وتبا لأوقات المخلل إنها ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
أهيم غراماً كلما ذكر الحمى ... وليس الحمى إلا العطارة بالسعر
وأشتاق أن هبت نسيم قطائف السحور سحيراً وهي عاطرة النشر
ولي زوجة إن تشتهي قاهرية ... أقول لها: ما القاهرية في مصر
الشرف النساج بن غنوم الإسكندري. نزيل مصر. كان شاعراً أديباً، له معرفة تامة، وفضائل عامة.
البدر يوسف بن لؤلؤ الشاعر. المشهور من كبار شعراء الدولة الناصرية. مات في شعبان سنة ثمانين وستمائة وقد نيف على السبعين.
المعين ابن لؤلؤ الشاعر المشهور عثمان بن سعيد الفهري المصري. مات بالقاهرة في ربيع الأول سنة خمس وثمانين وستمائة، وله ثمانون سنة وبه تخرج الحكيم بن دانيال، وتأدب.
ابن الخيمي شهاب الدين أبو الفضل محمد بن عبد المنعم الأنصاري اليمني. ثم المصري. قال ابن فضل الله: قدوة في الطريقة، وأسوة في علم الحقيقة؛ إلا أن صناعة الأدب عليه أغلب، وعلم الشعر فيه أرجح.
وقال في العبر: صوفي شاعر محسن، حامل لواء النظم في وقته، سمع الترمذي من علي ابن البنا، وأجاز له عبد الوهاب بن سكينة. مات في رجب سنة خمس وثمانين وستمائة عن نيف وثمانين سنة.
مجاهد بن أبي الربيع سليمان بن مرهف بن أبي الفتح التميمي المصري. قال ابن فضل الله: من أعلام أدباء مصر المشاهير. مات في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
نصير الحمامي. كان حجة في الأدب، ماهراً في الشعر. له تصانيف عديدة في فن الآداب المفيدة، وله معرفة كبيرة، وفضائل كثيرة.
يوسف بن سيف الدولة أبي المعالي بن رباح بدر الدين أبو الفضل بن الهمندار. شاعر له معرفة بالنسب، مدح الظاهر بيبرس، وأقام بمصر مدة، وله فضل مشهور وشعر مأثور.
ابن النقيب محمد بن الحسن بن شاور الكناني ناصر الدين. من مشاهير الشعراء. مات في ربيع الأول سنة سبع وثمانين وستمائة، عن تسع وسبعين سنة.
محمد بن باخل الأمير شمس الدين أبو عبد الله الأموي.
علم الدين الصوابي عبد الله. والي البحر، قال ابن فضل الله: جندي متأدب، له شعر بديع.
أبو بكر محمد بن عمار بن إسماعيل التلمساني. قال ابن فضل الله: من شعراء مصر.
الجمال التلمساني.
الشرف البوصيري صاحب البردة محمد بن سعيد بن حماد الدلاصي المولد المغربي الأصل البوصيري المنشأ. ولد بناحية دلاص في يوم الثلاثاء أول شوال سنة ثمان وستمائة، وبرع في النظم. قال فيه الحافظ فتح الدين بن سيد الناس: هو أحسن شعراً من الجزار والوراق. مات سنة خمس وتسعين وستمائة.
محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان المصري الأديب. كاتب الإنشاء بالديار المصرية، وأحد البلغاء المذكورين، له النظم الفائق والنثر الرائق، ومصنفات، منها سيرة الملك الظاهر. ولد سنة عشرين وستمائة، ومات بمصر في رجب سنة اثنتين وتسعين ودفن بالقرافة.

(1/190)


ولده فتح الدين محمد صاحب ديوان الإنشاء، وأول من سمي بكاتب السر. ولد بالقاهرة سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث من ابن الجميزي، وتفقه مهر في الإنشاء وساد، وتقدم على والده. مات في رمضان سنة إحدى عشرة وستمائة قبل والده.
تاج الدين أحمد بن شرف الدين سعيد بن محمد، ابن الأثير الحلبي الكاتب المنشئ. باشر كتابة الإنشاء بدمشق ثم بمصر بعد موت فتح الدين بن عبد الظاهر، وكان فاضلاً نبيلاً؛ له يد في النظم والنثر. مات سنة إحدى وتسعين وستمائة.
شهاب الدين أحمد بن عبد الملك العزازي الشاعر المحسن. ديوانه في مجلدين مات بمصر سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله بن مجلي العدوي كاتب السر بمصر، وأحد أرباب الإنشاء والخط الحسن. روى عن ابن عبد الدائم. مات في رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة عن أربع وتسعين سنة.
علاء الدين علي بن الصاحب فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر الأديب. من كبار المنشيئن وعلمائهم. مات بمصر سنة سبع عشرة وسبعمائة.
ناصر الدين شافع بن علي بن عباس الكناني، سبط محيي الدين بن عبد الظاهر. الكاتب المنشئ الشاعر الأديب الفاضل. ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، ومات سنة ثلاثين وسبعمائة.
شهاب الدين أحمد بن محيي الدين بن فضل الله كاتب السر بالديار المصرية. الأديب البليغ الناظم، الناثر، صاحب مسالك الأنصار في ممالك الأمصار وغيره. ولد في شوال سنة سبعمائة، ومات في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
المعمار الأديب إبراهيم المصري المشهور. مات سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
المشهور جمال الدين أبو بكر محمد بن محمد بن محمد بن محمد ابن الحسن الجذامي المصري. ولد بمصر سنة ست وثمانين وستمائة، وفاق أهل زمانه في انظم والنثر؛ وهو أحد من حذا بحذو القاضي الفاضل وسلك طريقه. مات بالقاهرة في صفر سنة ثمان وستين وسبعمائة.
علاء الدين علي بن القاضي محيي الدين بن فضل الله العمري. كاتب السر بالديار المصري أكثر من ثلاثين سنة، كان أوحد عصره في الكتابة. مات سنة تسع وستين وسبعمائة.
ابن أبي حجلة شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي بكر بن عبد الواحد التلمساني، نزيل القاهرة. ولد سنة خمس وعشرين وسبعمائة ومهر في الأدب والنظم الكثير، ونثر فأجاد، وترسل فأفاق، وعمل المقامات وغيرها. وله مجاميع كثيرة؛ منها السكردان، وحاطب ليل، وديوان الصبابة وغير ذلك. مات في ذي الحجة ست وسبعين وسبعمائة.
القيراطي برهان الدين إبراهيم بن شرف الدين، بن عبد الله بن محمد البارع المفنن. ولد في صفر سنة ست وعشرين وسبعمائة، ولازم علماء عصره وبرع في الفنون ودرس بعدة أماكن وفاق في النظم والشعر له ديوان مشهور. مات بمكة في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين.
ابن العطار الأديب شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي الدنيسري. شاعر مشهور، مات في ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وسبعمائة.
ابن مكانس الوزير فخر الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عبد الرزاق القبطي، وزير دمشق، وناظر الدولة بمصر. الشاعر المشهور، أحد فحول الشعراء، وله ديوان إنشاء. مات في ذي الحجة سنة أربع وستين وثمانمائة.
ولده مجد الدين فضل الله. ولد في شعبان سنة تسع وستين وسبعمائة وتعاني الأدبيات ومهر. مات بالطاعون في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة.
البارزي ناصر الدين محمد بن محمد بن الفخر عثمان بن الكمال محمد بن عبد الرحيم ابن عد الله بن المسلم. ولد في شوال سنة تسع وستين وسبعمائة، وبرع في الأدب وتنقلت به الأحوال إلى أن ولي كتابة السر بالديار المصرية. مات في شوال سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة.
ولده مجد الدين محمد. ولد في ذي الحجة سنة ست وتسعين وسبعمائة، ومات سنة خمس وثمانمائة.
البدر البشتكي محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الأصل الأديب الفاضل المشهور. ولد سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ومات في جمادى الآخرة سنة ثلاثين وثمانمائة.
ابن حجة رأس أدباء العصر تقي الدين أبو بكر بن علي الحموي نزيل القاهرة. صاحب البديعية المشهورة وشرحها، وثمار الأوراق، وغير ذلك من التصانيف الأدبية. مات في شعبان سنة سبع وثلاثين وثمانمائة.

(1/191)


ابن كميل القاضي شمس الدين محمد بن أحمد بن عمر امنصوري. ولد في صفر سنة خمس وسبعين وسبعمائة وعني بالأدب كثيراً، وتقدم على أقرانه. مات في شعبان سنة سبع وأربعين وثمانمائة.
النواحي أديب العصر شمس الدين محمد بن حسن بن علي بن عثمان. ولد سنة بضع وثمانين وسبعمائة، وأمعن النظر في علوم الأدب حتى فاق أهل العصر، وألف كتباً منها تأهيل الأديب والشفاء في بديع الاكتفاء، وروضة المجالسة في بديع المحاسبة، وحلبة الكميت في وصف الخمر وغير ذلك. مات في يوم الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثمانمائة.
الشهاب الحجازي أبو الطيب أحمد بن محمد بن علي بن حسن بن إبراهيم الأنصاري الخزرجي. الفاضل الأديب الشاعر البارع. ولد في شعبان سنة تسعين، وسبعمائة، وسمع على المجد الحنفي والبرهان الأبناسي، وأجاز له العراقي والخيثمي، وعني بالأدب كثيراً حتى صار أحد أعيانه، وصنف كتباً أدبية، منها: روض الآداب والقواعد والمقامات من شرح المقامات والتذكرة وغير ذلك. مات في رمضان سنة خمس وسبعين وثمانمائة.
وقال الشهاب المنصوري يرثيه:
لهف قلبي على أفول الشهاب ... تحفة القوم نزهة الأصحاب
كان في مطلع البلاغة يسرى ... فتواري من الثرى بحجاب
فقدت بره أيامي المعاني ... ويتامى جواهر الآداب
هطلت أدمع السحاب عليه ... وقليل فيه دموع السحاب
وذوو الجمع أصبحوا حين ولي ... كلهم جامعاً بلا محراب
ربع بلواي آهل منذ أخلى ... كتبي من سؤاله والجواب
يا شهاباً طلوعه في سما الفضل ولكن أقوله في التراب
لك فيما ألفت تذكرة مما انتقى دره أولو الألباب
روضة أينعت بفاكهة من ... حسن لفظ كثيرة وشراب
فسقى تربها الرباب لتهتز وتربو على سماع الرباب
ورأى كسره فقابله الله تعالى بالجبر يوم الحساب
الشهاب المنصوري أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الدائم السلمي المعروف بالهائم. الأديب البارع. ولد سنة تسع وتسعين وسبعمائة واشتغل، وفهم شيئاً من العلم وبرع في الشعر وفنونه وتفرد به في آخر عمره، وله ديوان كبير. مات في جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثمانمائة.
القادري الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن عمر بن عمران بن نجيب الأنصاري السعدي الدنجاوي، شاعر العصر. ولد سنة خمس عشرة وثمانمائة، واشتغل بالعلم على جماعة من الشيوخ مع ذكاء مفرط، وقال الشعر فأكثر، وبرع في فنون الأدب نظماً ونثراً وهو الآن شاعر الدنيا على الإطلاق، لا يشاركه في طبقته أحد. مات في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعمائة.
ومن نظمه وأنشده عندي في الإملاء:
شجاك بربع العامرية معهد ... به أنكرت عيناك ما كنت تعهد
ترحل عنه أهله بأهلة ... بأحداجها غيد من العين خرد
كواعب أتراب حسان كأنها ... بدور بأغصان النقا يتأود
ومما شجاني فوق عودٍ حمامة ... ترجع ألحاناً لها وتغرد
كأن بدمعي الكف منها مخضب ... نأت وبقلبي حرها يتوفد
ولو هددت رضوي بتبريج هجرها ... لأمسى من التهديد وهو مهدد
خفيفة أعطاف نشاوي من الصبا ... ثقيلة أردافٍ تقيم وتقعد
من النافثات السحر في عقد النهى ... بنجلاء عنها سحر هاروت يسند
وعيني تروي عن معين دموعها ... وسمعي عن عذل العذول مسدد
وأعجب من جسم حكى الماء رقةً ... يقل بلطفٍ قلبها وهو جلمد
محيا كبدر النم في جنحٍ طرةٍ ... يظل به غصن النقا يتأود
وجنّات وجناتٍ بماء نعيمها ... على النور نار أصبحت تتوقد
مهاة إذا استنت بعود أراكةٍ ... على متن سمطي لؤلؤ يتردد
تربك ثنيات العقيق ببارق ... جلالي النقا منه العذيب المبرد
كأن بفيها سنا العلم جوهراً ... جلاه جلال الدين فهو منضد
إمام اجتهاد عالم العصر عامل ... بجامع فضل ناسك متهجد
ويحسد طرف النجم بالعلم طرفه ... إذا بات ليلاً فيه وهو مسهد
ويقدح زند العز زند ذكائه ... فيصبح منه فكره يتوقد
ومن مدد المولى وعين عنايةٍ ... وتوفيقه يحيا ويحمي ويحمد
ومجتهد قد طال في العلم مدركا ... وباعاً ففي كل العلوم له يد

(1/192)


ومستنبط من آية بعد آية ... تلي آية الكرسي معنى يخلد
فوائد أشتات البديع التي بها ... تفرد فيها جمعه فهو مفرد
وأنواعها عشرون مع مائة وقد ... توحد فيها بالذكا فهو أوحد
ولم يك للماضين في الجمع مثلها ... فسحقاً لمن للفضل في الناس يجحد
فحق له دعوى اجتهاد لأنه ... هو البحر علماً زاخر اللج مزبد
عليم بآلات اجتهاد أولى النهى ... أئمة دين الله من حيث تقصد
فمن ذاك علم بالكتاب وسنةٍ ... تبين ما في بحره فهو مورد
وما كان فيها مجملاً ومفصلاً ... ومن مطلق ينفك عنه المقيد
وفحوى خطاب ثم مفهوم ما به ... يدل على مفهومه حيث يوجد
ومعرفة الإجماع فهي لديننا ... ثلاث عليها بالخناصر يعقد
وباللغة الفصحى من العرب التي ... بها نزل الذكر العزيز الممجد
ومعرفة الأخبار ثم رواتها ... عدولاً ومن بالطعن فيه تردد
وبالعلم بالفرق الذي بين واجب ... وندب وما فيه الإباحة تقصد
وما بين حظر موبق وكراهةٍ ... وتقييدها والعلم نعم المقيد
وفي النحو والتصريف للمرء عصمة ... من اللحن فاللحان باللحن مكمد
ومعرفة الإعراب أرفع مرتقى ... فطوبى لمن يرقى إليه ويصعد
وعلم المعاني والبيان كلاهما ... مراق إلى علم البديع ومصعد
وسلطان منقول الفقيه متى يجد ... وزيرا من المعقول فهو مؤيد
وإن الجلالي السيوطي للهدى ... لكوكب علم بالضيا يتوقد
وقد جاد صيب العلم روضة أصله ... فطاب له بالعلم فرع ومحتد
وذى حسد مغرى ببغداد فضله ... على نفسه يبكي أسى ويعدد
فلو أبصر الكفار في العلم درسه ... وقد شاهدوا تقريره لتشهدوا
فخذها جلال الدين في المدح كاعبا ... لها جيد حسن بالنجوم مقلد
ولا تبتئس من قول واش وحاسد ... فما برحت أهل الفضائل تحسد
ومن لحظت مسعاه عين عناية ... فطرف أعاديه مدى الدهر أرمد
وبالعلم، من يأمن وعيد إلهه ... فإن بوعد الفوز موعده غد
وحيث وهى ثوب اجتهاد فذو العلا ... يقيض في الدنيا له من يجدد
بمن أخبر المختار عنهم وإنهم ... لطائفة بالحق للدين تعضد
بإخلاصهم لا الهجو يوما يسوءهم ... ولا سرهم مدح الذي راح يحمد
وهذا اعتقاد المؤمنين أولي النهى ... فلا يك في هذا لديك تردد
وإن جلال الدين منهم فإنه ... بيمنى علوم من تصانيف فليست مجرد
وإن القوافي ضقن ذرعا عن الذي ... له من نصانيف فليست تعدد
وإن الفقير القادري لعاجز ... عن المدح في علياه إذ يتقصد
وقاه إله العرش من كل محنة ... وما أضمرت يوما عداه وحسد
بجاه رسول الله أحمد مرسل ... بأمداحه جاء الكتاب الممجد
عليه مع الآل الكرام وصحبه ... صلاة على طول المدى تتجدد
ذكر أمراء مصر
من حين فتحت إلى أن ملكها بنو عبيد
أول أمير عمرو بن العاص رضي الله عنه، ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الفسطاط وأسفل الأرض، وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح على الصعيد إلى الفيوم.
أخرج ابن عبد الحكم، عن أنس، قال: أتى رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين! فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. ثم قال للمصري: ضعه على صلعة عمرو، قال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني وقد أشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتيني.
وأخرج ابن عبد الحكم عن نافع مولى ابن عمر، أن صبيغا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر ابن الخطاب، فضربه ونفاه إلى الكوفة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن ألا يجالسه أحد من المسلمين.

(1/193)


وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتابه: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطي من قبط مصر لأنه استقر عنده أنه كان يظهر الروم على عورات المسلمين إليهم بذلك، فاستخرج منه بضعا وخمسين إردبا دنانير. قال أبو صالح: والإردب ست ويبات وعيرنا الويبة، فوجدناها تسعا وثلاثين ألف دينار.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: فعلى هذا يكون مبلغ ما أخذ من هذا القبطي يقارب ثلاثة عشر ألف ألف دينار.
قال ابن عبد الحكم: توفي عمر، وعلى مصر أميران: عمرو بن العاص بأسفل الأرض وعبد الله بن سعد على الصعيد. فلما استخلف عثمان بن عفان عزل عمرو بن العاص وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أميرا على مصر كلها؛ وذلك في سنة خمس وعشرين.
وقال الواقدي وأبو معشر: في سنة سبع وعشرين.
فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة، وفي نفسه من عثمان أمر كبير؛ وجعل عمرو بن العاص يؤلب الناس على عثمان؛ وكره أهل مصر عبد الله بن سعد بعد عمرو بن العاص؛ واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب وفتحه بلاد البربر والأندلس وإفريقية، ونشأ بمصر ناس من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حرب عثمان، والإنكار عليه في عزل عمرو، وتولية من دونهم؛ وكان عظم ذلك مسندا إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة، حتى استنفر نحوا من ستمائة راكب يذهبون إلى المدينة لينكروا على عثمان، فساروا إليها، وسألوه أن يعزل عنهم ابن أبي سرح، ويولي محمد بن أبي بكر أميرا، فأجابهم إلى ذلك، فلما رجعوا إذا هم براكب، فأخذوه وفتشوه، فإذا في إداوته كتاب إلى ابن سرح على لسان عثمان على ذلك، فحلف: ماله علم بذلك، وثبت أنه زوره على السانه مروان بن الحكم، وزوره على خاتمه، فكان ذلك سبب تحريض المصريين على قتل عثمان حتى حصروه وقتلوه. وكان الذي باشر قتله رجلا من أهل مصر من كندة يسمى أسود بن حمران، ويكنى أبا رومان، ويلقب حمارا، وقيل: اسمه رومان، وقيل أشقر أزرق، وقتل هو أيضا في الحال - لعنه الله ورضي عن عثمان أمير المؤمنين - وفعل المصريون في المدينة من الشر ما لا يفعله فارس والروم، ونهبوا دار عثمان، وعدلوا إلى بيت المال فأخذوا ما فيه، وكان فيه شيء كثير جدا، وذلك في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
وأخرج الواقدي عن عبد الرحمن بن الحارث، قال: الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن غياث التجيبي، حتى قال القائل:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصرا
وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب، قال: كانت المرأة تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال، فتحمل وقرها، وتقول: اللهم بدل، اللهم غير. فلما قتل عثمان، قال حسان بن ثابت:
قلتم بدل فقد بدلكم ... سنة حرى وحربا كاللهب
ما نقمتم من ثياب خلفة ... وعبيد وإماء وذهب
وروى محمد بن عائذ، عن إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير، قال: سمع عبد الله بن سلام رجلا يقول لآخر: قتل عثمان بن عفان فلم ينتطح فيها عنزان. فقال ابن سلام: أجل إن البقر والغنم لا تنتطح في قتل الخليفة، ولكن تنتطح فيه الرجال بالسلاح؛ والله ليقتلن به أقوام إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد. وبقيت المدينة خمسة أيام بلا خليفة، والمصريون يلحون على علي أن يبايعوه وهو يهرب منهم؛ ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم: لا نولي أحدا من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فلم يقلب منهم، ثم جاءوا إلى ابن عمر، فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم، وقالوا: إن نحن رجعنا بقتل عثمان عن غير إمرة، اختلف الناس، فرجعوا إلى علي فألحوا عليه فبايعوه، فأشار عليه ابن عباس باستمرار نواب عثمان في البلاد إلى حين آخر، فأبى عليه، وعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن مصر وولى عليها قيس بن سعد بن عبادة.

(1/194)


وكان محمد بن أبي حذيفة لما بلغه حصر عثمان تغلب على الديار المصرية، وأخرج منها ابن أبي سرح، فجاءه الخبر في الطريق بقتل عثمان، فذهب إلى الشام، فأخبر معاوية بما كان في أمره بديار مصر، وأن محمد بن أبي حذيفة قد استحوذ عليها، فسار معاوية وعمرو بن العاص ليخرجاه منها، فعالجا دخول مصر، فلم يقدرا، فلم يزالا به حتى خرج إلى العريش في ألف رجل، فتحصن بها. وجاء عمرو بن العاص، فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوا؛ ذكره ابن جرير.
ثم سار إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بولاية من علي، فدخل مصر في سبعة نفر، فرقي المنبر، وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين علي، ثم قام قيس فخطب الناس، ودعاهم إلى البيعة لعلي، فبايعوا، واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها خربتا، فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان، وكانوا سادة الناس ووجوههم، وكانوا في نحو من عشرة آلاف، منهم بشر بن أرطاة، ومسملة بن مخلد، ومعاوية بن حديج وجماعة من الأكابر، وعليهم رجل يقال له يزيد بن الحارث المدجلي، وبعثوا إلى قيس ابن سعد فوادعهم وضبط مصر، وسار فيها سيرة حسنة.
قال ابن عبد الحكم: لما ولي قيس مصر اختط بها دارا قبلي الجامع، فلما عزل كان الناس يقولون: إنها له، حتى ذكرت له، فقال: وأي دار لي بمصر؟ فذكروها له فقال: إنما تلك بنيتها من مال المسلمين، لا حق لي فيها.
ويقال: إن قيسا أوصى لما حضرته الوفاة: إني كنت بنيت بمصر دارا وأنا واليها، واستعنت فيها بمعونة المسلمين؛ فهي للمسلمين ينزلها ولاتهم.
وكان ولاية قيس مصر في صفر سنة ست وثلاثين. فكتب معاوية إلى قيس يدعوه إلى القيان بطلب دم عثمان، وأن يكون هو أزرا له على ما هو بصدده في ذلك، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تم له الأمر. فلما بلغه الكتاب - وكان قيس رجلا حازما - لم يخالفه ولم يوافقه، بل بعث يلاطف معه الأمر؛ وذلك لبعده من علي، وقربه من بلاد الشام؛ وما مع معاوية من الجنود، فسالمه قيس وتاركه؛ فأشاع بعض أهل الشام أن قيس بن سعد يكاتبهم في الباطن، ويمالئهم على أهل العراق.
وروى ابن جرير أنه جاء من جهته كتاب مزور بمبايعته معاوية، فلما بلغ ذلك عليا اتهمه، وكتب إليه يغزو أهل خربتا الذين تخلفوا عن البيعة، فبعث يعتذر إليه بأنهم كثير عددهم، وهم وجوه الناس، وكتب إليه: إن كنت إنما أمرتني بهذا لتختبرني لأنك اتهمتني، فابعث على عملك بمصر غيري.
فولى على مصر محمد بن أبي بكر، وارتحل قيس إلى المدينة، ثم ركب إلى علي، واعتذر إليه، وشهد معه صفين، فلم يزل محمد بن أبي بكر بمصر قائم الأمر، مهيبا بالديار المصري، حتى كانت وقعة صفين، وبلغ أهل مصر خبر معاوية ومن معه من أهل الشام على قتال أهل العراق، وصاروا إلى التحكيم. فطمع أهل مصر في محمد بن أبي بكر، واجترءوا عليه، وبارزوه بالعداوة، وندم علي بن أبي طالب على عزل قيس من مصر لأنه كان كفؤا لمعاوية وعمرو. فلما بلغ علي من صفين، وبلغه أن أهل مصر استخفوا بمحمد بن أبي بكر لكونه شابا ابن ست وعشرين سنة أو نحو ذلك، عزم على رد مصر إلى قيس بن سعد.
ثم إنه ولى عليها الأشتر النخعي، فلما بلغ معاوية تولية الأشتر ديار مصر، عظم ذلك عليه؛ لأنه كان طمع في استنزاعها من يد محمد بن أبي بكر، وعلم أن الأشتر سيمنعها منه لحزمه وشجاعته. فلما سار الأشتر إليها وانتهى إلى القلزم، استقبله الجايسار - وهو مقدم على الخراج - فقدم إليه طعاما، وسقاه شرابا من عسل، فمات منه. فلما بلغ ذلك معاوية وأهل الشام قالوا: إن لله جندا من عسل. وقيل: إن معاوية كان تقدم إلى هذا الرجل في أن يحتال على الأشتر ليقتله ففعل ذلك، ذكره ابن جرير.

(1/195)


فلما بلغ عليا وفاة الأشتر تأسف عليه لشجاعته، وكتب إلى محمد بن أبي بكر باستقراره واستمراره بديار مصر، وكان ضعف جأشه مع ما فيه من الخلاف عليه من العثمانية الذين ببلد خربتا، وقد كانوا استفحل أمرهم؛ وكان أهل الشام حين انقضت الحكومة سلموا على معاوية بالخلافة، وقوى أمرهم جدا، فعند ذلك جمع معاوية أمراءه، واستشارهم في المسير إلى مصر، فاستجابوا له؛ وعين نيابتها لعمرو بن العاص إذا فتحها، ففرح بذلك عمرو، فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد ومعاوية بن خديج - وهما رؤساء العثمانية ببلاد مصر - يخبرهم بقدوم الجيش إليهم سريعا، فأجابوه، فجهز معاوية عمرو بن العاص في ستة آلاف، فسار إليها، واجتمعت عليه العثمانية وهم عشرة آلاف. فكتب عمرو إلى محمد بن أبي بكر: أن تنح عني بدمك، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، وإن الناس قد اجتمعوا بهذه البلاد على خلافك. فأغلظ محمد بن أبي بكر لعمرو في الجواب، وركب في ألفي فارس من المصريين، فأقبل عليه الشاميون، فأحاطوا به من كل جانب، وتفرق عنه المصريون، وهرب هو فاختفى في خربة، ودخل عمرو بن العاص فسطاط مصر، ثم دل على محمد بن أبي بكر، فجيء به؛ وقد كاد يموت عطشا، فقدمه معاوية بن حديج فقتله، ثم جعله في جيفة حمار، فأحرقه بالنار؛ وذلك في صفر سنة ثمان وثلاثين.
وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية يخبره بما كان من الأمر، وأن الله قد فتح عليه بلاد مصر، فأقام عمرو أميرا بمصر إلى أن مات بها ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين على المشهور، ودفن بالمقطم، من ناحية الفج؛ وكان طريق الناس يومئذ إلى الحجاز، فأحب أن يدعو له من مر به؛ وهو أول أمير مات بمصر.
وفي ذلك يقول عبد الله بن الزبير:
ألم تر أن الدهر أخنت ريوبه ... على عمر السهمي تجبى له مصر
فأضحى نبيذا بالعراء وضللت ... مكائده عنه وأمواله الدثر
ولم يغن عنه جمعه المال برهة ... ولا كيده حتى أتيح له الدهر
فلما مات عمرو بن العاص ولى معاوية على ديار مصر ولده عبد الله بن عمرو.
قال الواقدي: فعمل له عليها سنتين. وقال غيره: بل أشهرا. ثم عزله وولى عتبة ابن أبي سفيان.
ثم عزله وولى عقبة بن عامر سنة أربع وأربعين، فأقام إلى سنة سبع وأربعين فعزله.
وولى معاوية بن حديج، فأقام إلى سنة خمسين، فعزله.
وولى مسلمة بن مخلد وجمعت له مصر والمغرب؛ وهو أول وال جمع له ذلك.
قال ابن عبد الحكم: حدثنا عبد الملك بن مسملة، عن ابن لهيعة عن بعض شيوخ أهل مصر، قال: أول كنيسة بنيت بفسطاط مصر الكنيسة التي خلف القنطرة أيام مسلمة بن مخلد، فأنكر ذلك الجند على مسلمة، وقالوا له: أتقر لهم أن يبنوا الكنائس! حتى كاد يقع بينهم وبينه شر، فاحتج عليهم مسلمة يومئذ، فقال: إنها ليست في قيروانكم، وإنما هي خارجة في أرضهم، فسكتوا عند ذلك.
فأقام مسلمة أميرا إلى سنة تسع وخمسين.
وكان عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي المشهور بابن أم الحكم - وأم الحكم هي أخت معاوية - أميرا على الكوفة، فأساء السيرة في أهلها، فأخرجوه من بين أظهرهم طريدا، فرجع إلى خاله معاوية، فقال: لأوليتك مصر خيرا منها، فولاه مصر، فلما سار إليها تلقاه معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر، فقال: ارجع إلى خالك، فلعمري لا تسير فينا سيرتك في أهل الكوفة، فرجع ابن أم الحكم ولحقه معاوية بن حديج وافدا على معاوية. فلما دخل عليه وجده عند أخته أم الحكم - وهي أن عبد الرحمن الذي طرده عن مصر - فلما رآه معاوية، قال: بخ بخ! هذا معاوية بن حديج؛ فقالت أم الحكم: لا مرحبا! تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال معاوية بن حديج: على رسلك يا أم الحكم، أما والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت؛ أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا، فيسير فينا كما سار في أهل الكوفة، فما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل لضربنا ابنك ضربا يطأطئ منه - وإن كره هذا الجالس - فالتفت إليها معاوية، فقال: كفى، فاستمر مسلمة على إمرة مصر إلى أن مات في خلافة يزيد في ذي الحجة سنة اثنتين وستين.
فولى بعده سعيد بن يزيد بن علقمة الأزدي.

(1/196)


فلما ولى الزبير الخلافة بعد موت يزيد، وذلك في سنة أربع وستين، استناب على مصر عبد الرحمن بن قحزم القرشي الفهري، فقصد مروان مصر ومعه عمرو بن سعيد الأشدق فقاتل عبد الرحمن، فهزم عبد الرحمن وهرب.
ودخل مروان إلى مصر، فتملكها، وجعل عليها ولده عبد العزيز، وذلك في سنة خمس وستين، فلم يزل أميرا بها عشرين سنة. وكان أبوه جعل إليه عهد الخلافة بعد عبد الملك، فكتب إليه عبد الملك يستنزله عن العهد الذي من بعده لولده الوليد فأبى عليه. ثم إنه مات من عامه. قال ابن عبد الحكم: وقع الطاعون بالفسطاط، فخرج عبد العزيز إلى حلوان، وكان ابن حديج يرسل إليه في كل يوم بخبر ما يحدث في البلد من موت وغيره، فأرسل إليه ذات يوم رسولا فأتاه، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال: أبو طالب، فثقل ذلك على عبد العزيز وغاظه، فقال: أسألك عن اسمك فتقول: أبو طالب! ما اسمك؟ قال: مدرك فتفاءل عبد العزيز بذلك فمرض، فدخل نصيب الشاعر فأنشأ يقول:
ونزور سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعواد
لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طار في وتلادي
فأمر له بألف دينار، ثم مات عبد العزيز بحلوان، فحمل في البحر إلى الفسطاط، ودفن بمقبرتها.
وكانت وفاته ليلة الاثنين ثاني عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين. وكتب على قصره بحلوان:
أين رب القصر الذي شيد القصر، وأين العبيد والأجناد!
أين تلك الجموع والأمر والنهى وأعوانهم، وأين السواد!
وقال عمر بن أبي الجدير العجلاني يرثي عبد العزيز بن مروان وابنه أبا زبان:
أبعدك يا عبد العزيز لحجة ... وبعد أبي زبان يستعتب الدهر
فلا صلحت مصر لحي سواكما ... ولا سقيت بالنيل بعدكما مصر
فأمر بعده عبد الملك، فأقام شهرا إلا ليلة، ثم صرف وولي بعده ابنه عبد الله بن أمير المؤمنين عبد الملك. قال الليث بن سعد: وكان حدثا، وكان أهل مصر يسمونه نكيس، وهو أول من نقل الدواوين إلى العربية؛ وإنما كانت بالعجمية، وهو أول من نهى الناس عن لباس البرانس، فأقام إلى التسعين، فعزله أخوه الوليد.
وولى قرة بن شريك العبسي، فقدمها يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول، وفي ذلك يقول الشاعر:
عجبا ما عجبت حين أتانا ... أن قد أمرت قرة بن شريك
وعزلت الفتى المبارك عنا ... ثم فيلت فيه رأى أبيك
وكان قرة ظلوما عسوفا، قيل كان يدعو بالخمر والملاهي في جامع مصر؛ أخرج أبو نعيم في الحلية، قال: قال عمر بن عبد العزيز: الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وقرة بمصر، وعثمان بن حيان بالحجاز. امتلأت والله الأرض جورا! وقال ابن عبد الحكم: أنبأنا سعيد بن عفير، أن عمال الوليد بن عبد الملك كتبوا إليه أن بيوت الأموال قد ضاقت من مال الخمس؛ فكتب إليهم: أن ابنوا المساجد، فأول مسجد بني بفسطاط مصر المسجد الذي في أصل حصن الروم عند باب الريحان قبالة الموضع الذي يعرف بالقالوس يعرف بمسجد العيلة، فأقام قرة واليا بمصر إلى أن مات سنة ست وتسعين.
فولي بعده عبد الملك بن رفاعة القيني، فاقام سنة تسع وتسعين.
ثم ولي أيوب بن شرحبيل الأصبحي فأقام إلى سنة إحدى ومائة.
ثم ولي بشر بن صفوان الكلبي فأقام إلى سنة ثلاث ومائة.
ثم ولي أخوه حنظلة فأقام إلى سنة خمس ومائة.
ثم ولي محمد بن عبد الملك أخو هشام بن عبد الملك الخليفة.
ثم ولي الحر بن يوسف.
ثم ولي حفص بن الوليد، فأقام إلى آخر سنة ثمان ومائة.
وولي بعده سنة تسع ومائة عبد الملك بن رفاعة، وصرف في السنة.
وولي أخوه الوليد، فأقام إلى أن توفي سنة تسع عشرة.
وولي بعده عبد الرحمن بن خالد الفهمي، فأقام سبعة أشهر، وصرف، وأعيد حنظلة ابن صفوان في سنة عشرين، ثم صرف وأعيد حفص بن الوليد، فأقام ثلاث سنين ثم صرف.
وولي بعده سنة سبع وعشرين حسان بن عتاهية التجيبي.
ثم أعيد حفص بن الوليد، وعزل عنها سنة ثمان وعشرين.
وولي الحوثرة بن سهيل الباهلي.
ثم ولي المغيرة بن عبيد الفزاري سنة إحدى وثلاثين.
ثم ولي عبد الملك بن مروان مولى لخم سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

(1/197)


ثم لما قامت الدولة العباسية، وقام السفاح، وانهزم مروان الحمار، وهرب إلى الديار المصرية، ولي السفاح نيابة الشام ومصر صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، فسار صالح حتى قتل مروان ببوصير في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ثم رجع إلى الشام واستخلف على مصر أبا عون عبد الملك بن أبي يزيد الأزدي، فأقام إلى سنة ست وثلاثين.
ثم أعيد صالح بن علي ثم صرف، وأعيد أبو عون سنة سبع وثلاثين، فأقام إلى سنة إحدى وأربعين.
ثم ولي بعده موسى بن كعب التميمي، فأقام سبعة أشهر ومات.
وولي محمد بن الأشعث الخزاعي، ثم عزل سنة اثنتين وأربعين.
وللي نوفل بن الفرات، ثم عزل نوفل.
وولي حميد بن قحطبة الطائي، ثم صرف سنة أربع وأربعين.
وولي يزيد بن حاتم المهلبي، فأقام إلى سنة اثنتين وخمسين فعزل.
وولي محمد بن سعيد، فأقام إلى أن استخلف المهدي، فعزله في سنة تسع وخمسين. وولي أبا ضمرة محمد بن سليمان، كذا في تاريخ ابن كثير؛ وأما الجزار فقال: إنه ولي بعد يزيد بن حاتم عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج التجيبي.
ثم ولي بعده أخوه فأقام سنة وشهرين.
ثم ولي بعده موسى بن علي اللخمي سنة خمس وخمسين، فأقام إلى سنة إحدى وستين.
ثم ولي عيسى بن لقمان اللخمي.
ثم ولي واضح مولى المنصور سنة اثنتين وستين.
ثم صرف من عامه وولي منصور بن يزيد الحميري.
ثم ولي بعده يحيى بن داود أبو صالح الخرسي.
ثم ولي سالم بن سوادة التميمي سنة أربع وستين.
ثم ولي إبراهيم بن صالح العباسي سنة خمس وستين.
ثم ولي موسى بن مصعب مولى خثعم.
ثم ولي الفضل بن صالح العباسي سنة تسع وستين.
ثم ولي علي بن سليمان العباسي من السنة.
ثم ولي موسى بن عيسى العباسي.
ثم عزل سنة اثنتين وسبعين. وولي مسلمة بن يحيى الأزدي.
ثم ولي محمد بن زهير الأزدي سنة ثلاث وسبعين.
ثم ولي داود بن يزيد المهلبي سنة أربع وسبعين.
ثم أعيد موسى بن عيسى سنة خمس وسبعين، ثم عزله الرشيد سنة ست وسبعين. وولي عليها جعفر بن يحيى البرمكي، فاستناب عليها عمر بن مهران - وكان شيعياً زري الشكل أحول - وكان سبب ذلك أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى عزم على خلعه، فقال: والله لأولين عليها أخس الناس، فاستدعى عمر بن مهران، ولاه عليها نيابة عن جعفر، فسار عمر إليها على بغل، وغلامه أبو درة على بغل آخر، فدخلها كذلك، فانتهى إلى مجلس موسى بن عيسى، فجلس في أخريات الناس، حتى انفضوا فأقبل عليه موسى بن عيسى، وهو لا يعرف من هو، فقال: ألك حاجة يا شيخ؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! ثم مال بالكتب، فدفعها إليه، فلما قرأها قال:: أنت عمر بن مهران؟ قال: نعم، قال: لعن الله فرعون حين قال: )أليس لي ملك مصر(، ثم سلم إليه العمل وارتحل منها.
ثم في سنة سبع وسبعين عزل الرشيد جعفرا عن مصر، وولي عليها إسحاق بن سليمان، كذا في تاريخ ابن كثير وغيره. وذكر الأديب أبو الحسين الجزار في أرجوزته في أمراء مصر خلاف ذلك؛ فإنه قال: أعيد موسى بن عيسى سنة خمس وسبعين.
ثم أعيد إبراهيم بن صالح العباسي سنة ست وسبعين، ثم ولي عبد الله بن المسيب الضبي.
ثم ولي إسحاق بن سليمان العباسي سنة سبع وسبعين. كذا قال والله أعلم.
ثم عزل إسحاق سنة ثمان وسبعين وولي هرثمة بن أعين، فأقام نحوا من شهر.
ثم عزل وولي عبد الملك بن صالح العباسي، فأقام إلى سلخ سنة ثمان وسبعين.
وولي عبيد الله بن مهدي العباسي سنة تسع وسبعين.
ثم أعيد موسى بن عيسى سنة ثمانين.
ثم أعيد عبيد الله المهدي، وصرف في رمضان سنة إحدى وثمانين.
وولي إسماعيل بن صالح العباسي.
ثم ولي إسماعيل بن عيسى سنة اثنتين وثمانين، ثم صرف وولي الليث بن الفضل البيرودذي.
ثم ولي أحمد بن إسماعيل العباسي سنة سبع وثمانين.
ثم ولي عبد الله بن محمد العباسي.
ثم ولي الحسين بن حمل الأزدي سنة تسعين.
ثم ولي مالك بن دلهم الكلبي سنة اثنتين وتسعين.
ثم ولي الحسن بن التختاخ سنة ثلاث وتسعين.
ثم ولي حاتم بن هرثمة بن أعين.
ثم صرف في سنة خمس وتسعين. وولي جابر بن الأشعث الطائي.
ثم ولي عباد بن نصر الكندي سنة ست وتسعين.
ثم ولي المطلب بن عبد الله الخزاعي سنة ثمان وتسعين.
ثم ولي العباس بن موسى في السنة.

(1/198)


ثم أعيد المطلب سنة تسع وتسعين.
ثم ولي السري بن الحكم سنة مائتين.
ثم ولي سليمان بن غالب سنة إحدى.
ثم أعيد السري بن الحكم في السنة، فمات في سنة خمس ومائتين، فولي بعده أبو نصر محمد بن السري.
ثم تغلب عليها عبيد الله بن السري في سنة ست فأقام إلى سنة عشر، فوجه إليه المأمون عبد الله بن طاهر فاستنقذها منه بعد حروب يطول ذكرها.
وقد ذكر الوزير أبو القاسم المغربي: أن البطيخ العبدلاوي الذي بمصر منسوب إلى عبد الله بن طاهر هذا، قال ابن خلكان: إما لأنه كان يستطيبه، أو لأنه أول من زرعه بها.
ثم ولي بعده عيسى بن يزيد الجلودي.
ثم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين ثار رجلان بمصر، وهما عبد السلام وابن حليس، فخلعا المأمون، واستحوذا على الديار المصري، وتابعهما طائفة من القيسية واليمانية فولى المأمون أخا أبا إسحاق بن الرشيد نيابة مصر مضافة إلى الشام، فقدمها سنة أربع عشرة، وافتتحها، وقتل عبد السلام وابن حليس، وأقام بمصر.
ثم ولي عليها عمير بن الوليد التميمي.
ثم صرف وأعيد عيسى بن يزيد الجلودي.
ثم ولي عبدويه بن جبلة سنة خمس عشرة.
ثم ولي عيسى بن منصور مولى بني نصر، وفي أيامه قدم المأمون مصر في سنة ست عشرة.
ثم ولي نصر بن كيدر السعيدي سنة تسع عشرة.
ثم ولي المظفر بن كيدر.
ثم ولي موسى بن أبي العباس الحنفي.
ثم ولي مالك بن كيدر سنة أربع وعشرين ومائتين.
ثم أعيد بن منصور ثانية سنة تسع وعشرين.
ثم ولي هزيمة بن النضر الجبلي سنة ثلاث وثلاثين.
ثم ولي ابنه حاتم في السنة، فأقام شهرا.
ثم ولي علي بن يحيى سنة أربع وثلاثين.
ثم ولي أخوه إسحاق بن يحيى الجبلي سنة خمس وثلاثين.
ثم ولي عبد الواحد بن يحيى، مولى خزاعة سنة ست وثلاثين.
ثم ولي عنبسة بن إسحاق الضبي سنة ثمان وثلاثين، ثم عزل وولي يزيد بن عبد الله من الموالي سنة اثنتين وأربعين.
ثم ولي مزاحم بن خاقان سنة ثلاث وخمسين.
ثم ولي ابنه أحمد في السنة.
ثم ولي أزجور التركي في السنة، ثم صرف فيها أيضاً.
وولي أحمد بن طولون التركي، ثم أضيفت إليه نيابة الشام والعواصم والثغور وإفريقية، فأقام مدة طويلة، وفتح مدينة أنطاكية، وبنى بمصر جامعه المشهور، وكان أبوه طولون من الأتراك الذين أهداهم نوح بن أسد الساماني عامل بخاري إلى المأمون في سنة مائتين - ويقال إلى الرشيد في سنة تسعين ومائة - وولد ابنه أحمد في سنة أربع عشرة - وقيل عشرين ومائتين - ومات طولون سنة ثلاثين، وقيل سنة أربعين.
وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر أن طولون لم يكن أبا أحمد؛ وإنما تبناه وأمه جارية، تركية أسمها هاشم، وكان الأتراك طلبوا منه أن يقتل المستعين، ويعطوه واسِطّا فأبى وقال: والله لا تجرأت على قتل أولاد الخلفاء، فلما ولي مصر، قال: لقد وعدني الأتراك إن قتلت المستعين أن يولوني واسطاً، فخفت الله ولم أفعل، فعوضني ولاية مصر والشام وسعة الأحوال.
قال محمد بن عبد الملك الهمداني في كتاب عنوان السير: قال بعض أهل مصر: جلسنا دكان، ومعنا أعمى يدعى علم الملاحم - وذلك قبل دخول أحمد بن طولون بساعة - فسألناه عما يجده في الكتب لأجله، فقال: هذا رجل من صفته كذا وكذا، يتقلد هو وولده قريباً من أربعين سنة؛ فما تم كلامه حتى اجتاز أحمد، فكانت صفته وولايته وولاية ولده كما قال.
وقال بعض أصحابه: ألزمني ابن طولون صدقاته، وكانت كثيرة، فقلت له يوماً: ربما امتدت إلى اليد المطوقة بالجوهر، وامعصم ذو السوار، والكم الناعم، أفأمنع هذه الطبقة! فقال: هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، أحذر أن ترد يداً امتدت إليك، وأعط من استعطاك، فعلى الله تعالى أجره؛ وكان يتصدق في كل أسبوع بثلاثة آلاف دينار سادة سوى الراتب، ويجري على أهل المساجد في كل شهر ألف دينار، وحمل إلى بغداد في مدة أيامه، وما فرق على العلماء والصحالين ألفي ألف دينار ومائتي ألف دينار، وكان خراج مصر في أيامه أربعة آلاف دينار وثلثمائة ألف دينار، وكان لابن طولون ما بين رحبة مالك بن طوق إلى أقصى المغرب.

(1/199)


واستمر ابن طولون أميراً بمصر إلى أن مات بها ليلة الأحد لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين، وخلف سبعة عشر ابناً. قال بعض الصوفية: ورأيته في المنام بعد وفاته بحال حسنة، فقال: ما ينبغي لمن سكن الدنيا أن يحقر حسنة فيدعها ولا سيئة فيأتها، عدل بي عن النار إلى الجنة بتثبتي على متظلم عيي اللسان شديد التهيب، فسمعت منه وصبرت عليه حتى قامت حجته، وتقدمت بإنصافه، وما في الآخرة أشد على رؤساء الدنيا من الحجاب لملتمس الإنصاف.
وولي بعده ابنه أبو الجيش خماوريه، وأقام أيضاً مدة طويلة، ثم في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين قدم البريد فأخبر المعتضد بالله أن خماوريه ذبحه بعض خدمه على فراشه وولوا بعده ولده جيش فأقام تسعة أشهر، ثم قتلوه ونهبوا داره، وولوا هارون بن خماوريه، وقد التزم في كل سنة بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، تحمل إلى باب الخليفة، فأقره المعتضد على ذلك، فلم يزل إلى صفر سنة اثنتين وتسعين، فدخل عليه عماه شيبان وعدي ابنا أحمد بن طولون، وهو ثمل في مجلسه، فقتلاه، وولي عمه أبو المغانم شيبان، فورد بعد اثنتي عشر يوماً من ولايته من قبل المكتفي ولاية محمد بن سليمان الواثقي، فسلم إليه شيبان الأمر، واستصفى أموال آل طولون، وانقضت دولة الطولونية عن الديار المصرية.
وأقام محمد بن سليمان بمصر أربعة أشهر، وولي عليها بعده عيسى بن محمد الوشري فأقام والياً عليها سنين وشهرين ونصفا، ومات سنة سبع وتسعين، ومائتين، فولي المقتدر أبا منصور تكين الخاصة ثم صرف في سنة ثلاث وثلثمائة، وولي دكاء أبو الحسن، ثم صرف وأعيد تكين ثم صرف سنة تسع.
وولي هلال بن بدر في سنة إحدى عشرة.
وولي أحمد بن كيغلغ صم صرف من عامه، وأعيد تكين الخاصة، فأقام إلى أن مات سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وورد الخبر بموته إلى بغداد، وأن ابنه محمداً، قد قام بالأمر من بعده، فسير إليه القاهر الخلع بتنفيذ الولاية واستقرارها، ثم صرف.
وولي أبو بكر محمر بن طغج الملقب بالأخشيد، ثم صرف من عامه، وأعيد أحمد بن كيغلغ، ثم صرف ثلاث وعشرين.
وأعيد محمد بن طغج الإخشيدي، وفي هذا الوقت كان تغلب أصحاب الأطراف عليها لضعف أمر الخلافة وبطل معنى الوزارة، وصارت الدواوين تحت حكم أمير الأمراء محمد بن رائق، وصارت الدنيا في أيدي عمالها؛ فكانت مصر والشام في يد الإخشيد والموصل وديار بكر وديار ربيعة، ومضر في أيدي بني حمدان، وفارس في يد على بن بويه، وخراسان في يد نصر بن أحمد، وواسط والبصرة والأهواز في يد اليزيدي، وكرمان في يد محمد بن الياس، والري وأصفهان والجبل في يد الحسن بن بويه، والمغرب وإفريقية في يد أبي عمرو الغساني، وطبرستا وجرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة وهجر في يد أبي طاهر القرمطي؛ فأقام محمد بن طغج في مصر إلى أن مات في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة.
وقام ابنه أبو القاسم أنوجوز - قال الذهبي في العبر: ومعناه بالعربية محمود مقامه - وكان صغيراً، فأقيم كافور الإخشيد الخادم الأسود أتابكاً، فكان يدبر المملكة فاستمر إلى سنة تسع وأربعين.
فمات أنوجور، وقام بعده أخوه علي، فاستمر إلى أن مات سنة خمس وخمسين؛ فاستقرت المملكة باسم كافور، يدعى له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية والحجاز، فأقام سنتين وأربعة أشهر، ومات بمصر في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين. قال الذهبي: كان كافور خصياً حبشياً، اشتراه الإخشيد من بعض أهل مصر بثمانية عشر دينار ثم تقدم عنده لعقله ورأيه إلى أن صار من كبار القواد، ثم لما مات أستاذه كان أتابك ولده أنوجور، وكان صبياً فغلب كافور على الأمور، وصار الاسم للولد، والدست لكافور، ثم استقل بالأمر، ولم يبلغ أحد من الخصيان ما بلغ كافور ومؤنس المظفري الذي ولي سلطنة العراق، ومدحه المتنبي بقوله:
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
وهجاه بقوله:
من علم الأسود المخصي مكرمةً ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد
وذاك أن الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل، فكيف الخصية السود

(1/200)


وقال محمد بن عبد الملك الهمداني: كان بمصر واعظ على الناس، فقال يوماً في قصصه: انظروا إلى هوان الدنيا على الله تعالى، فإنه أعطاها لمقصوصين ضعيفين: ابن بويه ببغداد وهو أشل، وكافور عندنا بمصر وهو خصي، فرفعوا إليه قوله وظنوا أنه يعاقبه، فتقدم له بخلعة ومائة دينار، وقال: لم يقل هذا إلا لجفائي له، فكان الواعظ يقول بعد ذلك في قصصه: ما أنجب من ولد حامٍ إلا ثلاثة: لقمان، وبلال المؤذن، وكافور.
وقال أبو جعفر مسلم بن عبد الله بن طاهر العلوي: كنت أساير كافور يوماً، وهو في موكب خفيف، فسقطت مقرعته من يده، فبادرت النزول، وأخذتها من الأرض ودفعتها إليه، ايها الشريف، أعود بالله من بلوغ الغاية، ما ظننت أن الزمان يبلغني حتى يفعل بي هذا - وكاد يبكي - أنا صنيعة الأستاذ، ووليه، فلما بلغ باب داره ودعته وسرت، فإذا أنا بالبغال والجنائب بمراكبها، وقال أصحابه: أمر الأستاذ بحمل هذا إليك، وكان ثمنها يزيد على خمسة عشر ألف دينار.
ولما مات كافور ولي المصريون مكانه أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، فأقام شهوراً حتى أتى جوهر القائد من المغرب فانتزعها منه.
ذكر أمراء مصر من بني عبيد
لما توفي كافور الإخشيدي لم يبق بمصر من يجتمع القلوب عليه، وأصابهم غلاء شديد أضعفهم؛ فلما بلغ ذلك المعز أبا تميم معد بن المنصور إسماعيل، وهو ببلاد إفريقية بعث مولى أبيه جوهر؛ وهو القائد الرومي، في مائة ألف مقاتل، فدخلوا مصر في يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، فهرب أصحاب كافور، وأخذ جوهر مصر بلا ضربةٍ ولا طعنةٍ ولا ممانعةٍ، فخطب جوهر للمعز يوم الجمعة على منابر الديار المصرية وسائر أعمالها، وأمر المؤذنين بجامع عمرو وبجامع ابن طولون أن يؤذنوا بحيّ علي خير العمل؛ فشق ذلك على الناس، وما استطاعوا له رداً، وصبروا لحكم الله، وشرع في بناء القاهرة والقصرين والجامع الأزهر، وأرسل بشيراً إلى المعز يبشره بفتح الديار المصرية وإقامة الدعوة له بها، وطلبه إليها. ففرح المعز بذلك، وامتدحه شاعره محمد بن هانئ بقصيدة أولها:
يقول بنو العباس: هل فتحت مصر؟ ... فقل لبني العباس: قد قضي الأمر
وابن هانئ هذا قد كفره غير واحد من العلماء، منهم القاضي عياض في الشفاء لمبالغته في مدائحه، من ذلك قوله في المعز:
ما شئت لاما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
. . . لطالما زاحمت تحت ركابه جبريلا
ثم توجه المعز من المغرب في شوال سنة إحدى وستين، فوصل الإسكندرية في شعبان سنة اثنتين وستين، وتلقاه أعيان مصر إليها، فخطب هناك خطبةً بليغة، وجلس قاضي مصر أبو الطاهر الذهلي إلى جنبه، فسأله: هل رأيت هليفةً أفضل مني؟ فقال: لم أر أحداً من الخلائف سوى أمير المؤمنين؛ فقال له: أحججت؟ قال: نعم، قال: وزرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: وقبر أبي بكر وعمر؟ قال: فتحيرت ماذا أقول! ثم نظرت فإذا ابنه قائم مع كبار الأمراء، فقلت: شغلني عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد، ونهضت إليه فسلمت عليه، فانفسح المجلس إلى غيره، ثم صار من الإسكندرية إلى مصر، فدخلها في خامس رمضان، فنزل بالقصرين، فكان أول حكومة انتهت إليه أن امرأة كافور الإخشيدي تقدمت إليه، فذكرت له أنها كانت أودعت رجلاً من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوج بالذهب، وأنه جحد ذلك، فاستحضره وقرره، فأنكر اليهودي، فأمر أن تفتش داراه، فوجد القباء قد جعله في جرة، ودفنها فيها. فدفعه المعز إليها، فقدمته إليه، وعرضته عليه، فأبى أن يقبله منها، ورده عليها. فاستحسن ذلك منه الحاضرون من مؤمن وكافر، وسار إليه الحسن بن أحمد القرمطي في جيش كشيف، وأنشد يقول:
زعمت رجال الغرب أنى هبتهم ... فدمى إذن ما بينهم مطلول
يا مصر إن لم أسق أرضك من دمٍ ... يروي ثراك فلا سقاني النيل

(1/201)


والتفت معه أمير العرب ببلاد الشام، وهو حسان بن الجراح الطائي في عرب الشام، لينزعوا مصر منه، وضعف جيش المعز عن مقاومتهم. فراسل حسان، ووعده بمائة ألف دينار، إن هو خذل بين الناس، فأرسل إليه: أن بعث إليّ بما التزمت، وتعال بمن معك، فإذا التقينا انهزمت بمن معي. فأرسل إليه المعز مائة ألف دينار في أكياس أكثرها زغل ضرب النحاس، ولبسه الذهب، وجعله في أسفل الأكياس ووضع في رؤوس الأكياس الدنانير الخالصة، وركب في أثرها بجيشه، فالتقى الناس، فلما نشبت الحرب بينهم، انهزم حسان بالعرب، فضعف جانب القرمطي، وقوى عليه المعز فكسره، واستمر المعز بالقاهرة إلى أن مات في ربيع الآخر سنة خمس وستين. وكان منجمة قال له في السنة التي قبلها: إن عليك قطعاً في هذه السنة فتوار عن وجه الأرض حتى تنقضي هذه المدة، فعمل له سرداباً، ودعا الأمراء وأوصاهم بولده نزار، ولقبه العزيز، وفوض إليه الأمر حتى يعود، فبايعوه على ذلك، ودخل ذلك السرداب، فتوارى فيه سنة، فكانت المغاربة إذا رأى الفارس منهم سحاباً سارياً ترجل عن فرسه، وأومى إليه بالسلام، ظانين أن المعز في ذلك الغمام. ثم برز إلى الناس بعد مضي سنة، وجلس للحكم على عادته، فعاجله الله في هذه السنة. وولي بعده ابنه العزيز أبو منصور نزار، فأقام إلى أن مات سنة ست وثمانين.
ومن غرائبه أنه استوزر رجلاً نصرانياً يقال له عيسى بن نسطورس، وآخر يهودياً اسمه ميشا، فعز بسببهما اليهود والنصارى على المسلمين في ذلك الزمان، حتى كتبت إليه امرأة في قصة في حاجة لها تقول: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بميشا، وأذل المسلمين بك؛ لما كشفت عن ظلامتي! فعند ذلك أمر بالقبض على هذين، وأخذ من النصراني ثلثمائة ألف دينار، وولي بعده ابنه الحاكم، فكان شر الخليقة، لم يل مصر بعد فرعون شر منه؛ رام أن يدعي الإلهية كما ادعاها فرعون، فأمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إعظاماً لذكره، واحتراماً لاسمه؛ فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين. وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجداً؛ حتى أنه يسجد بسجودهم في الأسواق الرعاع وغيرهم. وكان جباراً عنيداً، وشيطاناً مريداً، كثير التلون في أقواله وأفعاله، هدم كنائس مصر ثم أعادها، وخرب قمامة ثم أعادها، ولم يعهد في ملة الإسلام بناء كنيسة في بلد الإسلام قبله ولا بعده إلا ما سنذكره.
وقد نقل السبكي الإجماع على أن الكنيسة إذا هدمت ولو بغير وجه لا تجوز إعادتها.
ومن قبائح الحاكم أنه ابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وخربها، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهاراً وفتحها ليلاً؛ فامتثلوا ذلك دهراً طويلاً حتى اجتاز مرة بشيخ يعمل النجارة في أثناء النهار، فوقف عليه، وقال: ألم ننهكم عن هذا! فقال: يا سيدي، أما كان الناس يسهرون لما كانوا يتعيشون بالنهار! فهذا من جملة السهر. فتبسم وتركه، وأعاد الناس إلى أمرهم الأول. وكان يعمل الحسبة بنفسه يدور في الأسواق على حمار له، وكان لا يركب إلا حماراً، فمن وجده قد غش في معيشته أمر عبداً أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى، وكان منع النساء من الخروج من منازلهن، ومنعهن من دخول الحمامات، وقتل خلقاً من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، ومنع من طبخ الملوخيا. وله رعونات كثيرة لا تنضبط، فأبغضه الخلق، وكتبوا له الأوراق بالشتم له ولأسلافه في صورة قصص، حتى عملوا صورة امرأة من ورق بخفها وإزارها، وفي يدها قصة فيها من الشتم شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها، فلما رأى ما فيها غضب، وأمر بقتلها؛ فلما تحققها من ورق، ازداد غضباً إلى غضبه، وأمر العبيد من السود أن يحرقوا مصر وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم، ففعلوا، وقاتلهم أهل مصر قتالاً عظيماً ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم. واجتمع الناس في الجوامع، ورفعوا المصاحف، وجأروا إلى الله واستغاثوا به، وما انجلى الحال حتى اخترق من مصر نحو ثلثها، ونهب نحو نصفها، وسبي حريم كثير وفعل بهن الفواحش. واشترى الرجال من سبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد.

(1/202)


قال ابن الجوزي: ثم زاد ظلم الحكم، وعن له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد، يا أحد، يا محيي يا مميت! قلت: كان في عصرنا أمير يقال له أزدمر الطويل، اعتقاده قريب من اعتقاد الحاكم هذا، وكان يروم أن يتولى المملكة، فلو قدر الله له بذلك فعل نحو ما فعله الحاكم وقد أطلعني على ما في ضميره، وطلب مني أن أكون معه على هذا الاعتقاد في الباطن إلى أن يؤول إلى السلطنة، فيقوم في الخلق بالسيف حتى يوافقوه على اعتقاده. فضقت بذلك ذرعاً، وما زلت أتضرع إلى الله تعالى في هلاكه، وألا يوليه على المسلمين، واستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلمن وأسأل فيه أرباب الأحوال حتى قتله الله فلله الحمد على ذلك! ثم كان من أمر الحاكم أن تعدى شره إلى أخته يتهمها بالفاحشة، ويسمعها أغلظ الكلام، فعملت على قتله، فركب ليلة إلى جبل المقطم ينظر في النجوم، فأتاه عبدان فقتلاه، وحملاه إلى أخته ليلاً فدفنته في دارها، وذلك سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
وولي بعده ابنه أبو الحسن علي، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله فأقام إلى أن توفي في سبع وعشرين وأربعمائة، وكانت سيرته جيدة.
فإنه أقام ستين سنة، ولم يقم هذه المدة خليفة ولا ملك في الإسلام قبله ولا يعده، وكانت وفاته سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
وولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد، ولقب المستعلي، فأقام إلى أن توفي في ذي الحجة سنة خمس وتسعين وأربعمائة.
وولي بعده ابنه أبو علي منصور، ولقب الآمر بأحكام الله. قال ابن ميسر في تاريخه: ولما توفي المستعلى أحضر الأفضل أبا علي، وبايعه بالخلافة، ونصبه مكان أبيه، ولقبه بالآمر بأحكام الله، وكان له من العمر خمس سنين وشهر وأيام، فكتب ابن الصيرفي الكاتب السجل بانتقال المستعلى وولاية الأمر، وقرئ على رؤوس كافة الأجناد والأمراء، وأوله: من عبد الله ووليه أبي علي الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بن الإمام المستعلى بالله، إلى كافة أولياء الدولة وأمرائها وقوادها وأجنادها ورعاياها، شريفهم ومشروفهم، وآمرهم ومأمورهم، مغربيهم ومشرقيهم، أحمرهم وأسودهم، كبيرهم وصغيرهم؛ بارك الله فيهم. سلام عليكم فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، يسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين الأئمة المهديين، وسلم تسليماً، أما بعد، فالحمد لله المنفرد بالثبات والدوام الباقي على تصرم الليالي والأيام، القاضي على أعمار خلقه بالتقصي والإنصرام، الجاعل نقض الأمور معقوداً بكمال الإتمام، جاعل الموت حكماً يستوي فيه جميع الأنام، ومنهلاً لا يعتصم من ورده كرامة نبي ولا إمام، والقائل معزياً لنبيه ولكافة أمته: )كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام(، الذي استرعى الأئمة هذه الأمة، ولم تخل الأرض من أنوارهم لطفاً بعباده ونعمة، وجعلهم مصابيح الشبه إذا غدت داجية مدلهمة، لتضيء للمؤمنين سبل الهداية، ولا يكون أمرهم عليهم غمة يحمده أمير المؤمنين حمد شاكر على ما نقله فيه من درج الإنافة، ونقله إليه من ميراث الخلافة، صابر على الرزية التي أطار هجومها الباب، والفجيعة التي أطال طروقها الأسف والاكتئاب، ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم أنبيائه وسيد رسله وأمنائه، ومجلي غياهيب الكفر ومكشف عمائه، الذي قام بما استودعه الله من أمانته، وحمله من أعباء رسالته، ولم يزل هادياً إلى الإيمان، داعياً إلى الرحمن؛ حتى أذعن المعاندون وأقر الجاحدون، وجاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون؛ فحينئذ أنزل الله عليه إتماماً لحكمته التي لا يعترضها المعترضون: )ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الذي أكرمه الله بالمنزلة العلية، وانتخبه للإمامة رأفة بالبرية، وخصه بغوامض علم التنزيل، وجعل له مبرة التعظيم ومزية التفضيل، وقطع بسيفه دابر من زل عن القصد، وضل عن سواء السبيل، وعلى الأئمة من دريتها العترة الهادية من سلالتهما آبائنا الأبرار المصطفين الأخيار، ما تصرفت الأقدار، وتوالى الليل والنهار.

(1/203)


وإن الإمام المستعلى بالله أمير المؤمنين قدس الله روحه، كان ممن أكرمه الله بالاصطفاء، وخصه بشرف الاجتباء، ومكن له في بلاده، فامتدت أفياء عدله، واستخلفه في أرضه، كما استخلف أباه من قبله، وأيده بما استرعاه إياه بهدايته وإرشاده، وأمده بما استحفظه عليه بمواد توفيقه وإسعاده، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. فلم يزل لأعلام الدين رافعاً، ولشبه المضلين دافعاً، ولراية العدل ناشراً، وبالندى غامراً وللعدو قاهراً. إلى أن استوفى المدة المحسوبة، وبلغ الغاية الموهوبة؛ فلو كانت الفضائل تزيد في الأعمار، أو تحمي من ضروب الأقدار، أو تؤخر ما سبق تقديمه في علم الواحد القهار، لحمى نفسه النفيسة كريم مجدها وشريف سمها، وكفاها خطير منصبها، وعظيم هيبتها، ووقتها أفعالها التي تستقي من منبع الرسالة، وصانتها خلالها التي ترتقي إلى مطلع الجلالة؛ لكن الأعمار محررة مقسومة، والآجال مقدرة معلومة، والله تعالى يقول، وبقوله يهتدي المهتدون: )ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون( فأمير المؤمنين يحتسب عند الله هذه الرزية التي عظم أمرها وفدح، وجرح خطبها وقدح، وغدت لها القلوب واجفة، والآمال كاسفة، ومضاجع السكون منقضة، ومدامع العيون مرفضة، فإن لله وإنا إليه راجعون! صبراً على بلائه، وتسليماً لأمره وقضائه، واقتداء بمن أثنى عليه في الكتاب )إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب(.
وقد كان الإمام المستعلي بالله قدس الله روحه عند نقلته، جعل لي عقد الخلافة من بعده، وأودعني ما حازه من أبيه عن جده، وعهد إلي أن أخلفه في العالم، وأجرى الكافة في العدل والإحسان على منهجه المتعالم، وأطلعني من العلوم على السر المكنون، أفضى إلي من الحكمة بالغامض المصون، وأوصاني بالعطف على البرية، والعمل فيهم بسيرتهم المرضية، على علمي بما جبلني الله عليه من الفضل، وخصني به من إيثار العدل، وإنني فيما استرعيته سالك منهاجه، عامل بموجب الشرف الذي عصب الله لي تاجه، وكان ممن ألقاه إلي، وأوجبه علي، أن أعلى محل السيد الأجل الأفضل، من قلبه الكريم، وما يجب له من التبجيل والتكريم. وإن الإمام المستنصر بالله كان عندما عهد إليه، ونص بالخلافة عليه، أوصاه أن يتخذ هذا السيد الأجل خليفة وخليلا، ويجعله للإمامة زعيما وكفيلا، ويغدق به أمر النظر والتقرير، ويفوض إليه تدبير ما وراء السرير، وإنه عمل بهذه الوصية، وحذى على تلك الأمثلة النبوية، وأسند إليه أحوال العساكر والرعية، وناط أمر الكافة بعزمته الماضية، وهمته العلية؛ فكان قلمه بالسداد يرجف ولا يحف، وسيفه من دماء ذوي العناد يكف ولا يكف، ورأيه في حسم مواد الفساد يرجح لا يخف، فأوصاني أن أجعله لي كما كان له صيفا وظهيرا، وأن لا أستر عنه في الأمور صغيرا ولا كبيرا، وأن أقتدي به في رد الأحوال إلى تكلفه، وإسناد الأسباب إلى تدبيره والناهض بياهظ الخطب ومنتقله، إلى غير ذلك مما استودعني إياه، وألقاه إلي من النص الذي يتضوع نشره ورياه، نعمة من الله قضت لي بالسعد العميم، ومنة شهدت بالفضل المتين والحظ الجسيم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم. فتعزوا معاشر الأولياء والأمراء والقواد والأجناد والرعايا والخدام، حاضركم وغائبكم، ودانيكم وقاصيكم، عن الإمام المنقول إلى جنات الخلود، واستبشروا بإمامكم هذا الإمام الحاضر الموجود؛ وابتهجوا بكريم نظره المطلع لكم كواكب السعود. ولكم من أمير المؤمنين ألا يغمض جفنا عن مصابكم، وأن يتوخى ما عاد بميامنكم ومناجحكم، وأن يحسن السيرة فيكم، ويرفع أذى من يعاديكم، ويتفقد مصلحة حاضركم وباديكم، ولأمير المؤمنين عليكم أن تعتقدوا موالاته بخالص الطوية، وتجمعوا له في الطاعة بين العمل والنية، وتدخلوا في البيعة بصدور منشرحة، وآمال منفسخة، وضمائر يقينية، وبصائر في الولاء قوية، وأن تقوموا بشروط بيعته، وتنهضوا بفروض نعمته، وتبذلوا الطارف والتالد في حقوق خدمته، وتتقربوا إلى الله سبحانه بالمناصحة لدولته. وأمير المؤمنين يسأله الله أن تكون خلافته كافلة بالإقبال، ضامنة ببلوغ الأماني والآمال، وأن يجعل ديمها دائمة بالخيرات، وقسمتها نامية على الأوقات إن شاء الله تعالى.

(1/204)


وأقام الآمر بأحكام الله خليفة إلى أن قتل في ذي الحجة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، عدي إلى الروضة في فئة قليلة، فخرج عليه منها قوم بالسيوف فأثخنوه.
ولما قتل تغلب على الديار المصرية غلام أرمني من غلمانه، فاستحوذ على الأمور ثلاثة أيام ورام أن يتأمر، فحضر الوزير أبو علي أحمد بن الأفضل بدر الجمالي، فأقام الخليفة الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله، واستحوذ على الأمور دونه، وحصره في مجلس لا يدخل إليه أحد إلا من يريده، وخطب لنفسه على المنابر، ونقل الأموال من القصر إلى داره، ولم يبق للحافظ سوى الاسم فقط، فلم يزل كذلك حتى قتل الوزير، فعظم أمر الحافظ من حينئذ، وجدد له ألقاب لم يسبق إليها، وخطب له بها على المنابر، فكان يقول: أصلح الله من شيدت به الدين بعد دثوره، وأعززت به الإسلام بأن جعلته سببا لظهوره، مولانا وسيدنا إمام العصر والزمان أبا الميمون عبد المجيد الحافظ لدين الله! قال ابن خلكان: وكان الحافظ كثير المرض بعلة القولنج، فعمل له سرماه الديلمي طبل القولنج ركبة من المعادن السبعة والكواكب السبعة في أشرافها كل واحد منها في وقته، فكان من خاصته أنه إذا ضرب به أحد خرج الريح من مخرجه، فكان هذا الطبل في خزائنهم إلى أن ملك السلطان صلاح الدين بن أيوب أخذ الطبل المذكور كردي ولا يدري ما هو! فضرب به فضرط فخجل، فألقى الطبل من يده فانكسر.
واستمر الحافظ على الولاية إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
وولي بعده ولده الظافر أبو المنصور إسماعيل، فأقام إلى أن قتل في المحرم سنة تسع وأربعين.
وولي بعده ولده الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى، وهو صبي صغير ابن خمس سنين؛ فإن مولده في المحرم سنة أربع وأربعين، فأقام إلى أن توفي في صفر سنة خمس وخمسين؛ وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة، وكان مدبر دولته أبو الغارات طلائع ابن رزيك.
وولي بعده العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ، وهو آخر العبيديين. ومات في عاشوراء سنة سبع وستين، وزالت دولتهم على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ رحمه الله تعالى.
قال ابن كثير: ومن الغريب أن العاضد في اللغة، القاطع، ومنه الحديث: " لا يعضد شجرها " ، فبالعاضد قطعت دولة بني عبيد.
وقال ابن خلكان: سمعت جماعة من المصريين يقولون: إن هؤلاء القوم أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء: اكتب لنا ألقابا في ورقة؛ تصلح للخلفاء؛ حتى إذا تولى واحد لقبوه ببعض تلك الألقاب، فكتب لهم ألقابا، وآخر ما كتب في الورقة " العاضد " . فاتفق أن آخر من ولي منهم العاضد. ولم يكن بعده من الخلافة سوى الاسم فقط؛ لاستيلاء وزرائهم على الأمور وحجرهم عليهم، وتلقبهم بألقاب الملوك؛ فكانوا معهم كخلفاء عصرنا مع ملوكهم، وكخلفاء بغداد مع بني بويه، وأشباههم.
ومن قصيدة ابن فضل الله التي سماها: حسن الوفاء لمشاهير الخلفاء:
والخلفاء من بني فاطمة ... إلى عبيد الله در فاخر
أبناء إسماعيل في بحل جعفر الصادق في القول أبوه الباتر
بالغرب مهدي تلاه قائم ... والثالث المنصور وهو الآخر
ثم المعز قائد الجيش الذي ... سار إلى مصر، ونعم السائر
ثم ابنه العزيز عز مشبها ... والحاكم المعروف ثم الظاهر
وبعده المستنصر النائي الذي ... تلاه مستعل وجاء الآمر
وحافظ وظافر وفائز ... وعاضد ثم المليك الناصر
قالوا لقد ساء لهم معتقد ... والله عند علمه السرائر
لكنما الحاكم ممن لج في ... طغيانه فكافر أو فاجر
تم الجزء الأول من كتاب حسن المحاضرة، ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوله: " ذكر أمراء مصر من حين ملكها بنو أيوب إلى أن اتخذها الخلفاء العباسية دار الخلافة " .
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر أمراء مصر من حين ملكها بنو أيوب
إلى أن اتخذها الخلفاء العباسيون دار الخلافة

(1/205)


لما قتل صاحب مصر الظافر، وصلت الأخبار إلى بغداد، بأن مصر قتل صاحبها، ولم يبق فيهم إلا صبي صغير، أبن خمس سنين، قد ولوه عليهم، ولقبوه الفائز، فكتب الخليفة المقتفي عهداً للملك نور الدين محمود زنكي على البلاد الشامية والمصرية، وأرسله إليه، فسار حتى أتى دمشق، فحاصرها وانتزعها من يد ملكها مجير الدين بن طغتكين، وشرع في فتح بلاد الشام بلدا بلدا، وأخذها من أيدي من استولى عليها من الفرنج.
فلما كان في سنة اثنتين وستين أقبلت الفرنج في محافل كثيرة إلى الديار المصرية، فأرسل نور الدين محمود أسد الدين شيركوه بن شادي، ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، فسار إليها في ربيع الآخر، وقد وقع في النفوس أن صلاح الدين سيملك الديار المصرية، وفي ذلك يقول عرقلة الشاعر:
أقول والأتراك قد أزمعت ... مصر إلى حرب الأعاريب
رب كما ملكتها يوسف الصديق من أولاد يعقوب
يملكها في عصرنا يوسف الصادق من أولاد أيوب
من لم يزل ضراب هام العدا ... حقاً وضراب العراقيب
وسار إلى الفرنج، فاقتتلوا قتالا عظيما، فهزم الفرنج ولله الحمد، وسار أسد الدين بعد كسر الفرنج إلى الإسكندرية، فملكها، واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين، وعاد إلى الصعيد، فملكه.
ثم إن الفرنج والمصريين اجتمعوا على حصار الإسكندرية، فصالح شاور وزير العاضد أسد الدين عن الإسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجاب إلى ذلك، وخرج صلاح الدين منها، وسلمها إلى المصريين، وعاد إلى الشام في ذي القعدة، وقرر شاور للفرنج على مصر في كل عام مائة ألف دينار، وأن يكون لهم شحنة بالقاهرة. وسكن القاهرة أكثر شجعان الفرنج، وتحكموا فيها بحيث كادوا يستحوذون عليها، ويخرجون المسلمين منها. فلما كانت سنة أربع وستين، قدم إمداد الفرنج في محافل هائلة، فأخذوا مدينة نلبيس، فقتلوا وأسروا ونزلوا بها، وتركوا فيها أثقالهم، وجعلوها موئلاً ومعقلا. ثم جاءوا فنزلوا على القاهرة من ناحية باب الشرقية، فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر، وأن ينتقلوا إلى القاهرة. فنهب البلد، وذهب للناس أموال كثيرة، وبقيت النار في مصر أربعة وخمسين يوما؛ فعند ذلك أرسل الخليفة العاضد يستغيث بالملك نور الدين، وبعث إليه بشعور نسائه يقول: أدركني؛ واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج. وألتزم له بثلث خراج مصر على أن يكون أسد الدين مقيماً عندهم، ولهم إقطاعات زائدة على الثلث.
فجهز نور الدين الجيوش وعليهم أسد الدين ومعه صلاح الدين، فدخلوا القاهرة وقد رجع الفرنج لما سمعوا بوصولهم. وعظم أمر أسد الدين بالديار المصرية، وقتل الوزير شاور، قتله صلاح الدين. وفرح المسلمون بقتله، لأنه الذي كان يمالئ الفرنج على المسلمين، وأقيم أسد الدين مكانه في الوزارة، ولقب الملك المنصور؛ فلم يلبث إلا شهرين وخمسة أيام، ومات في السادس والعشرين من جمادى الآخرة.
فأقام العاضد مكانه في الوزارة صلاح الدين يوسف، ولقبه الملك الناصر. قال أبو شامة: وصفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين يومئذ عمامة بيضاء تنيسي بطرف ذهب، وثوب دبيقي بطراز ذهب، وجبة بطراز ذهب، وطيلسان بطراز ذهب، وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار، وسيف محلي بخمسة آلاف دينار، وحجره بثمانية آلاف دينار، وعليها سرج ذهب وسريسار ذهب مجوهر، وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وفي قوائمها أربعة عقود جوهر، وفي رأسها قصبة بذهب، وفيها شدة بيضاء بأعلام بيض، ومع الخلعة عدة بقج، وخيل وأشياء آخر، ومنشور الوزارة مكتوب في ثوب أطلس أبيض؛ وكل ذلك يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين؛ وكان يوماً مشهوداً، وارتفع قدر صلاح الدين بالديار المصرية، وائتلفت عليه القلوب، وخضعت له النفوس، واضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد.

(1/206)


فلما كان سنة خمس وستين حاصرت الفرنج دمياط خمسين يوما، فقاتلهم صلاح الدين حتى أجلاهم، وأرسل نور الدين إلى صلاح الدين يأمره أن يخطب للخليفة المستنجد العباسي بمصر؛ لان الخليفة بعث يعاتبه في ذلك؛ فلما كان سنة ست وستين، أتفق موت المستنجد، وقام المستضيئ، وشرع صلاح الدين في تمهيد الخطبة لبني العباس، وقطع الأذان بحبّ على خير العمل من ديار مصر كلها، وعزل قضاة مصر لأنهم كلهم كانوا شيعة، وولى أقضي القضاة بها صدر الدين بن درباس الشافعي، واستناب في سائر الأعمال شافعية.
فلما دخل سنة سبع وستين أمر الملك صلاح الدين بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر في أول جمعة من المحرم وبالقاهرة في الجمعة الثانية، وكان ذلك يوما مشهودا؛ والعجب أن أول من خطب للمعز حين أخذت مصر عمر بن عبد السميع العباسي الخطيب بجامع عمرو وبجامع ابن طولون؛ فكان أول من خطب لبني العباس هذه النوبة شريف علوي، يقال له محمد بن الحسن بن أبي الضياء البعلبكي. ولما بلغ الخبر نور الدين أرسل إلى الخليفة المستضيئ يعلمه بذلك، فزينت بغداد، وغلقت الأسواق وعملت القباب، وفرح المسلمون فرحا شديدا، قال ابن الجوزي: وقد ألفت في ذلك كتابا سميته: " النصر على مصر " . وكتب العماد الكاتب عن السلطان صلاح الدين إلى الملك نور الدين يبشره بذلك:
قد خطبنا للمستضيئ بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر
في أبيات ذكرتها في تاريخ الخلفاء.
وقال بعض شعراء بغداد في ذلك:
ليهنك يا مولاي فتح تتابعت ... إليك به خوص الركائب توجف
أخذت به مصراً وقد حال دونها ... من الشرك ناس في لها الحق تقذف
فعادت بحمد الله باسم إمامنا ... تتيه على كل البلاد وتشرف
ولا غرق أن ذلت ليوسف مصره ... وكانت إلى عليائه تتشوف
تملكها من قبضة الكفر يوسف ... وخلصها من عصبة الرفض يوسف
كشفت بها عن آل هاشم سيئاً ... وعاراً أبى إلا بسيفك يكشف
وهي طويلة.
قال أبو شامة: أنشدت هذه القصيدة للخليفة قبل موته، عند تأويل منام رئي في هذا المعنى، وأراد بيوسف الثاني الخليفة المستنجد، فلم يخطب إلا لولده المستضيئ، فجرى الفأل باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأرسل الخليفة المستضيئ بأمر الله إلى الملك صلاح الدين خلعة سنية، ومعها أعلام سود، ولواء معقود، ففرقت على الجوامع بالشام وبلاد مصر، وكتب له تقليداً؛ وهذه صورته: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يبدأ بحمد الله الذي يكون لكل خطبة قيادا، ولكل أمر مهادا، ويستزيده من نعمه التي جعلت التقوى لها زادا، وحملته أعباء الخلافة فلم يضعف عنه طوقاً ولم يأل فيه اجتهادا، وصغرت لديه أمر الدنيا فما تسورت له محرابا ولا عرضت عليه جياداً، وحققت فيه قوله تعالى: )تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا(.
ثم يصلى على من أنزلت الملائكة لنصره إمدادا، وأسرى به إلى السماء حتى ارتقى سبعاً شدادا، وتجلى له ربه فلم يزغ منه بصر ولا كذب فؤادا.
ثم من بعده على أسرته الطاهرة التي زكت أوراقاً وأعوادا، وورثت النور المبين بلادا، ووصفت بأنها أحد الثقلين هداية وإرشادا؛ وخصوصاً عمه العباس المدعو له بأن يحفظ نفسا وأولادا، وان تبقى كلمة الخلافة فيهم خالدة لا تخاف دركا ولا تخشى نفادا.
وإذا استوفى العلم مراده من هذه الحمدلة، وأسند القول فيها عن فصاحته المرسلة فإنه يأخذ في إنشاء هذا التقليد الذي جعله حليفاً لقرطاسيه، واستدام سجوده على صفحته حتى لم يكد يرفع من رأسه؛ وليس ذلك غلا قاضية في وصف المناقب التي كثرت فحسن لها مقام الإكثار، واشتبه التطويل فيها بالاختصار، وهي التي لا يفتقر واضعها إلى القول المعاد، ولم يستوعر سلوك أطوادها؛ ومن العجب وجود السهل في سلوك الأطواد.
وتلك هي مناقبك أيها الملك الناصر السيد الأجل الكبير، العالم العادل المجاهد المرابط صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب.

(1/207)


والديوان العزيز يتلوها عليك تحدثاً بشكرك، ويباهي أولياء تنويهاً بذكرك، ويقول: أنت الذي نستكفي فتكون للدولة سهمها الصائب، وشهابها الثاقب، وكنزها الذي تذهب الكنوز وليس بذاهب. وما ضرها وقد حضرت في نصرتها إذا كان غيرك هو الغالب؛ فاشكر إذن مساعيك التي أهلتك لما أهلتك، وفضلتك على الأولياء بما فضلتك. ولئن شوركت في الولاء بعقيدة الإضمار، فلم تشارك في عزمك الذي أنتصر للدولة فكان له بسطة الانتصار. وفرق بين من أمد بقلبه وبين من أمد بيده في درجات الإمداد، وما جعل الله القاعد كالذي قال: لو أمرتنا لضربنا أكبادها إلى برك الغماد.
وقد كفاك من المساعي أنك كفيت الخلافة أمر منازعيها، وطمست على الدعوة الكاذبة التي كانت تدعيها. ولقد مضى عليها زمن ومحراب حقها محفوف من الباطل بمحرابين، ورأت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السوارين اللذين أولهما كذابين؛ فبمصر منهما واحد تجري أنهارها من تحته؛ ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته، ولعب بالدين حتى لم يدر يوم جمعته من يوم أحده ولا سبته.
وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمي والصمم، واتخذوه صنماً ولم تكن الضلالة هناك إلا بعجل أو صنم؛ فقمت أنت في وجه باطله حتى قعد، وجعلت في جيده حبلاً من مسد؛ وقلت ليده: تبت، فأصبح ولا يسعى بقدم ولا يبطش بيد. وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن ناجمته، وسامت فيه سائمته؛ فوضع بيته موضع الكعبة اليمانية، وقال هذا هو الخلصة الثانية. فأي مقامك يعترف الإسلام بسبقه، أم أيهما يقوم بأداء حقه.
وها هنا فليصبح القلم للسيف من الحساد، وليقصر مكانته عن مكانته وقد كان له من الأنداد، ولم يحط بهذه المزية إلا أنه أصبح لك صاحبا، وفخر بك حتى طال فخرا كما عز جانباً، وقضى بولايتك فكان بها قاضيا، لما كان حده ماضياً.
وقد قلدك أمير المؤمنين البلاد المصرية واليمنية غوراً ونجداً، وما اشتملت عليه رعية وجندا، وما انتهت إليه أطرافها براً وبحرا، وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرا. وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدنة، والمراكز المحصنة مستثنيا منها ما هو بيد نور الدين إسماعيل بن نور الدين محمود رحمه الله وهو حلب وأعمالها؛ فقد مضى أبوه عن آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين، وتخلفه في عقبه في الغابرين، وولده هذا قد هذبته الفطرة في القول والعمل، وليست هذه الربوة إلا من ذلك الجبل؛ فليكن له منك جار يدنو منه وداداً كما دنا أرضا، وتصبح وهو له كالبنيان يشد بعضه بعضا؛ والذي قدمناه من الثناء عليك ربما تجاوزتك درجة الاقتصاد وألقتك عن فضيلة الازدياد. فإياك أن تنظر إلى سعيك نظر الإعجاب، فتقول: هذه بلادنا افتتحتها بعد أن أضرب عنها كثير من الإضراب. ولكن أعلم إن الأرض لله ولرسوله، ثم لخليفته من بعده، ولا منة للعبد بإسلامه، بل المنة لله بهداية عبده. وكم سلف قبلك ممن لو رام ما رمته لدنا شاسعه وأجاب مانعه؛ لكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازة، وفي الدنيا برقم طرازه. فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التسليم، وقل )لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم(.
وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الإسلام شعارا، وفي الرسم فخارا، وتناسب محل قلبك وبصرك؛ وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوباً وأبصارا، ومن جملتها طوق يوضع في عنقه موضع العهد والميثاق، ويشير إليك بأن الإنعام قد أطاق بك إطاقة الأطواق بالأعناق.
ثم إنك خوطبت بالملك وذلك خطاب يقضي لصدرك بالانشراح، ولأملك بالانفساح، وتؤمر معه بمد يدك العليا لا تضمها إلى الجناح.
وهذه الثلاثة المشار إليها هي التي تكمل بها أقسام السيادة، وهي التي لا مزيد عليها في الإحسان فيقال إنها الحسنى وزيادة؛ فإذا صارت إليك فأنصب لها يوما يكون في الأيام كريم الأنساب، واجعله لها عيداً وقل هذا عيد الخلعة والتقليد والخطاب.
هذا ولك عند أمير المؤمنين مكانة بجعلك إليه حاضرا وأنت ناء عن الحضور، وتضن أن تكون مشتركة بينك وبين غيرك والضنة من شيم الغيوب؛ وهذه المكانة قد عرفتك نفسها وما كنت تعرفها؛ وما نقول إلا إنها لك صاحبة وأنت يوسفها، فأحرسها عليك حراسة تقضي بتقديمها، وأعمل بها فأن الأعمال بخواتيمها.

(1/208)


وأعلم أنك تقلدت أمرا يفتن به تقي الحلوم، ولا ينفك صاحبه عن عهدة الملوم، وكثيرا ما ترى حسناته يوم القيامة وهي مقسومة بأيدي الخصوم؛ ولا ينجو من ذلك إلا من أخذ أهبة الحذار، وأشفق من شهادة الأسماع والأبصار. واعلم أن الولاية ميزان إحدى كفتيه في الجنة والأخرى في النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر إني احب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم " . فأنظر إلى هذا القول النبوي نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال، ومثل الدنيا وقد سيقت إليك بحذافيرها، أليس مصيرها إلى زوال! والسعيد من إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم، واتخذ منها وهي السم دواء وقد تتخذ الأدوية من السموم.
وما الاغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصباح، وهو كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح.
والله يعصم أمير المؤمنين وولاة أمره من تبعاتها التي لابستهم ولابسوها، وأحصاها الله ونسوها، ولك أنت من الله هذا الدعاء حظ على قدر محلك من العناية التي حدثت بصنعك، ومحلك من الولاية التي بسطت من ذرعك.
فخذ هذا الأمر الذي تقلدته أخذ من لم يتعقبه بالنسيان، وكن في رعايته ممن إذا نامت عيناه كان قلبه يقظان؛ وملاك ذلك كله في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب، وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب؛ وقدر يوما منه بعبادة ستين عاما في الحساب، ولم يأمر به آمر إلا زيد قوة في أمره، وتحصن به من عدوه ومن دهره. ثم يجاء به يوم القيامة وفي يداه كتاب أمان، ويجلس على منبر من نور عن يمين الرحمن؛ ومع هذا فإن مركبه صعب لا يستوي على ظهره إلا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه، وغلبت لمة ملكه على لمة شيطانه. ومن آكد فروضه أن تمحي السير السيئة التي طالت مدد أيامها، ويئس الرعايا من رفع ظلاماتها فلم يجعلوا أمداً لانحسار ظلامها؛ تلك السير هي المكوس التي أنشأتها الهمم الحقيرة، ولا غنى للأيدي الغنية إذا كانت ذا نفوس فقيرة؛ وكلما زيدت الأموال الحاصلة منها قدراً، زادها الله محقا؛ وقد استمرت عليها العوائد حتى ألحقها الظالمون بالحقوق الموجبة فسموها حقاً، ولو أن صاحبها أعظم الناس جرما لما أغلظ في عقابه، ومثلت توبة المرأة الغامدية بمتابه؛ وهي أشقى ممن يكون السواد الأعظم له خصما، ويصبح وهو مطالب بما يعلم وبما لم يحط به علما؛ وأنت مأمور بان تأبى هذه الظلامات فتنهى عن إجراءها، وتلحق أسماءها في المحو بإهمالها؛ حتى لا يبقى لها في العيان صورة منظورة، ولا في الألسنة أحاديث مذكورة.
وإذا فعلت ذلك كنت أزلت عن الماضي سنة سوء سنتها يداه، وعن الآتي متابعة ظلم وجده طريقا مسلوكا فجرى على بداه، فبادر إلى ما أمرت به مبادرة من يضيق به ذرعا، ونظر إلى الحياة الدنيا بعينها فرآها في الآخرة متاعا. وأحمد الله على أن قيض لك إمام هدى يقف بك على هداك، ويأخذ بحجزتك عن خطوات الشيطان الذي هو أعدى عداك؛ وهذه البلاد المنوطة بنظرك تشتمل على أطراف متباعدة، وتفتقر في سياستها إلى أيد متساعدة؛ ولهذا يكثر بها قضاة الأحكام، وأولوا تدابيرات السيوف والأقلام؛ وكل من هؤلاء ينبغي أن يفتن على نار الاختبار، ويسلط عليه شاهد عدل من أمانة الدرهم والدينار، فما أضل الناس شيء كحب المال الذي فورقت من أجله الأديان، وهجرت بسببه الأولاد والإخوان؛ وكثيرا ما يرى الرجل الصائم القائم وهو عابد له عبادة الأوثان؛ فإذا استعنت بأحد منهم على شيء من أمرك، فأضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدأ حاله فإن الأحوال تنقل بنقل الأجساد. وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد.

(1/209)


وكذلك نأمر هؤلاء على اختلاف طبقاتهم بان يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر محاسبين؛ ويعلموا أن ذلك من داب حزب الله الذين جعلهم الغالبين، وليبدءوا أولاً بأنفسهم فيعدلوا عن هواها، ويأمروها بما يأمرون به سواها، ولا يكونوا ممن هدى إلى طريق البر وهو عنها حائد، وانتصب لطب المرضى وهو محتاج إلى طبيب وعائد؛ فما تنزل بركات السماء إلا على من خاف مقام ربه، وألزم التقوى أعمال يده ولسانه وقلبه؛ فإذا صلحت الولاة صلحت الرعية بصلاحهم؛ وهو لهم بمنزلة المصابيح ولا يستضيء كل قوم إلا بمصباحهم. ومما يؤمرون به أن يكونوا لمن تحت أيديهم إخوانا في الأصحاب، وجيرانا في الاقتراب، وأعوانا في توزع الحمل الذي يثقل على الرقاب؛ فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميرا، وأولى الناس باستعمال الرفق من كان فضل الله عليه كثيراً؛ وليست الولاية لمن يستجد بها كثرة اللفيف، ويتولاها بالوطء العنيف؛ ولكنها لمن يمال عن جوانبه، ويؤكل من أطايبه، ولمن إذا غضب لم ير للغضب عنده أثر، وإذا ألحف في سؤاله تخلق بخلق الضجر، وإذا حضر الخصوم بين يديه عدل بينهم في قسمة القول والنظر؛ فذلك الذي يكون لصاحبه في أصحاب اليمين، والذي يدعى بالحفيظ العليم والقوى الأمين.
ومن سعادة المرء أن تكون ولاته متأدبين بآدابه، وجارين على نهج صوابه؛ وإذا تطايرت الكتب يوم القيامة كانوا حسنات مثبتة في كتابه.
وبعد هذه الوصية، فإن هاهنا حسنة هي للحسنات كالأم الولود؛ ولطالما أغنت عن صاحبها إغناء الجود، وتيقظت لنصره والعيون رقود؛ وهي التي تسبغ لها الآلاء، ولا يتخطاها البلاء، ولأمير المؤمنين عناية تبعثها الرحمة الموضوعة في قلبه، والرغبة في المغفرة والرحمة لما تقدم وتأخر من ذنبه. وتلك هي الصدقة التي فضل الله بعض عباده بمزية إفضالها، وجعلها سببا إلى التعويض عنها بعشر أمثالها؛ وهو يأمرك أن تفقد أحوال الفقراء الذين قدرت عليهم مادة الأرزاق، وألبسهم التعفف ثوب الغنى وهم في ضيق من الإملاق؛ فأولئك أولياء الله الذين مستهم الضراء فصبروا، وكثرت الدنيا في يد غيرهم فما نظروا إليها إذا نظروا. وينبغي لك أن تهيئ لهم من أمرهم مرفقاً، وتضرب بينهم وبين الفقر موبقا.

(1/210)


وما أطلنا لك القول في هذه الوصية إلا إعلاما بأنها من المهم الذي يستقبل ولا يستدبر، ويستكثر منه ولا يستكبر؛ وهذا يعد من جهاد النفس في بذل المال، ويتوله جهاد الكافر في مواقف القتال؛ وأمير المؤمنين يعرفك من ثوابه ما يجعل السيف في ملازمته أخا، وتسخو له بنفسك إن كان أحد بنفسه سخا. ومن صفاته أن العمل المحبوب بفضل الكرامة، الذي ينمو أجره بعد صاحبه إلى يوم القيامة، وبه يمتحن طاعة الخالق على المخلوق، وكل الأعمال عاطلة لا خلوق لها وهي المختص دونها بزينة الخلوق، ولولا فضله لما كان محسوباً بشطر الإيمان؛ ولما جعل الله الجنة له ثمنا وليست لغيره من الأثمان، وقد علمت أن العدو هو جارك الأدنى؛ والذي يبلغك وتبلغه عيناً وأذنا، ولا تكون للإسلام نعم الجار؛ حتى تكون له بئس الجار. ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار. وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاء مصافحاً، أو تطرق أرضه مماسياً أو مصابحا، بل يريد أن تقصد البلاد التي في يد قصد المستغير لا قصد المغير، وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعد في بني قريظة والنضير، وعلى الخصوص البيت المقدس فإنه بلاد الإسلام القديم، وأخو البيت الحرام في رف التعظيم، والذي توجهت إليه الوجوه من قبل بالسجود والتسليم. وقد أصبح وهو يشكر طول المدة في أسر ربته، وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته. فأنهض إليه نهضة متوغل في فرحه، وتبدل صعب قيادة بسمحه؛ وإن كان له عام حديبية فاتبعه بعام فتحه. وهذه الاستزادة بعد سداد ما في اليد من ثغر كان مهملاً فحميت موارده، أو مستهدماً فرفعت قواعده، ومن أهمها ما كان حاضر البحر كأنه أعمه عورته مكشوفة، وخطة مخوفة، والعدو قريب منه على بعده. وكثيرا ما يأتيه فجاءة حتى يشق برقه برعده؛ فينبغي أن ترتب بهذه الثغور رابطة يكثر شجعانها، ويقل أقرانها، ويكون قتالا لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لان يرى مكانها، وحينئذ يصبح كل منها وله من الرجال أسوار، ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار؛ ومه هذا فلا بد له من أسطول يكثر عدده، ويقوي مدده، فإنه العمدة التي يستعين بها كشف العماء، والاستكثار من سبايا العبيد والإماء، وجيشه أخو الجيش السليماني، فذاك يسري على متن الريح وهذا يجري على متن الماء.
ومن صفات خيله أنها جمعت بين العوم والمطار، وتساوت أقدار خلقها على اختلاف مدة الأعمار، فإذا أشرعت قيل جبال متلفعة بقطع من الغيوم، وإذا نظر إلى أشكالها قيل أهلة غير أنها تهتدي في مسيرها بالنجوم، ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالي من جيادها، ويستكثر من قيادها، وليؤمر عليها أمير يلقى البحر بمثله من سعة صدره، ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها، ولكن قتلها بخبره؛ وكذلك فليكن ممن أفنت الأيام تجاربه، ورحمتها منا كبه، وممن بذل الصعب إذا هو ساسه وإن سيس لأن جانبه، وهذا هو الرجل الذي يرأس على القوم فلا يجد هذه بالرياسة، فأن كان في الساقة ففي الساقة أو كان في الحراسة ففي الحراسة. ولقد أفلحت عصابة اعتصمت من ورائه، وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنجح من رأيه.
وأعلم أنه قد أخل من الجهاد بركن يقدح في علمه، وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أن صدق النية تأتي في أوله؛ وذلك هو قسم الغنائم فإن الأيدي قد تتناوله بالإجحاف، وخلطت جهادها فيه بفلولها فلم ترجع بالكفاف. والله قد جعل الظلم في تعدي حدوده المحدودة، وجعل الاستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة؛ ونحن نعوذ به أن يكون زماننا هذا شر زمان وناسه شر ناس، ولم يستخلفنا على حفظ أركان دينه ثم نهمله إهمال مضيع ولا إهمال ناس.
والذي نأمرك به أن تجري هذا الأمر على المنصوص من حكمه، وتبرئ ذمتك مما يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بإثمه، وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية والشامية ما يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غداً نكالا وجحيما، وطعاماً ذا غصة وعذابا أليما.

(1/211)


فتصفح ما سطرناه لك من هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات، بل آيات محكمات، وتحبب إلى الله وإلى أمير المؤمنين باقتفاء كتابها، وابن لك بها مجداً يبقى في عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها؛ وهذا الذي ينطق عليك بأنه لم يأل في الوصايا التي أوصاها، فإنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ثم إنه قد ختم بدعوات دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه، وسأل فيها خيرة الله التي تتنزل من كل أمر منزلة نظامه. ثم قال: إني أشهدك على من قلدته شهادة تكون عليه رقيبة وله حسيبة، فإني لم آمره إلا بأوامر الحق التي فيها موعظة وذكرى، ولمن تبعها هدى ورحمة وبشرى، وإذا أخذ بها فلج بحجته يوماً يسأل فيه عن الحجج، ولم يختلج دون رسوله على الحوض في جملة من يختلج، وقيل له: لا حرج عليك ولا إثم إذ نجوت من ورطات الإثم والحرج. والسلام.
قال الفقيه عمارة اليمني يرثي العاضد - وكان من خواصهم:
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي
بالله زر ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفين والجمل
وقال بعض الشعراء يمدح بني أيوب على ما فعلوه:
ألستم مزيلي دولة الكفر من بني ... عبيد بمصر، إن هذا هو الفضل
زنادقة شيعية باطنية ... مجوس وما في الصالحين لهم أصل
يسرون كفرا، يظهرون تشيعاً ... ليستروا شيئاً، وعمهم الجهل
وقال حسان عرقلة:
أصبح الملك بعد آل عبيد ... مشرفاً بالملوك من آل شاذي
وغدا الشرق يحسد الغرب للقو ... م ومصر تزهو على بغداذ
ما حووها إلا بعزم وحزم ... وصليل الفؤاد في الفولاذ
لا كفرعون والعزيز ومن كا ... ن بها كالخطيب والأستاذ قال أبو شامة: يعني بالأستاذ كافور الإخشيدي.
قال: وقد أفردت كتابا سميته: " كشف ما كان عليه بنو عبيد، من الكفر والكذب والمكر والكيد " . وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة من أجلها كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني الذي سماه " كشف الأسرار وهتك الأستار " .
ولما استقل السلطان صلاح الدين بأرض مصر، أسقط عن أهلها المكوس والضرائب، وقرأ المنشور بذلك على رءوس الأشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر سنة سبع وستمائة. واستولى على القصر وخزائنه وفيها من الأموال مالا يحصى؛ من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر، وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الإبهام، وعقد من ياقوت، وإبريق عظيم من الحجر المائع إلى غير ذلك من التحف، ووجد خزانة كتب ليس في الإسلام لها نظير، تشتمل على نحو ألفي مجلد منها بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، فأعطاها القاضي الفاضل. وأخذ السلطان صلاح الدين في نصر السنة وإشاعة الحق، وإهانة المبتدعة والانتقام من الروافض، وكانوا بمصر كثيرين.
ثم تجردت همته إلى الفرنج وغزوهم؛ فكان من أمره معهم ما ضاقت به التواريخ، واسترد منهم ما كانوا استولوا عليه من بلاد الإسلام بالشام. ن ذلك القدس الشريف فتحه، بعد أن كان في يد الفرنج . . . وأجلى ما بين الشام ومصر من الفرنج. ثم افتتح الحجاز واليمن من يد متغلبيها وتسلم دمشق بعد موت نور الدين، فصار سلطان مصر والشام واليمن والحجاز.
قال ابن السبكي في الطبقات الكبرى: له من الفتوحات التي خلصها من أيدي الفرنج قلعة أيلة، طبرية، عكا، القدس، الخليل، الكرك، الشوبك، نابلس، عسقلان، بيوت، صيدا، بيسان، غزة، لد، حيفا، صفورية، معليا، الفولة، الطور، إسكندرونة، هفوس، يافا، أرسوف، قيسارية، جبل، نبل، معليكه، عفر بلا، اللجون، لستمة، ياقون، مجدل يابا، تل الصافية، بيت نوبا، الطرون، الجيب البيرة، بيت لحم، ريحاء، قرا، واحصر الدير، دمرا، قلقيلية، صرير الزيت، الوعر، الهرمس، تفليسا، العازرية، تفرع، الكرك، مجدل، الحارغير في جبل عاملة، الشقيف، سبسطية ويقال بها قبر زكريا، وجبيل، وكوكب، وأنطرطوس واللاذقية، وبكسرائيل، صهيون، جبلة، قلعة العبد، قلعة الجماهرية، بلاطنس، الشغر، بكاس، وسمر سامية، بزرية، ودربساك، وبغراس، وصفد.
وله مصافات يطول شرحها.

(1/212)


وافتتح كثيرا من بلاد النوبة من يد النصارى، وكانت مملكته من المغرب إلى تخوم العراق ومعها اليمن والحجاز، فملك ديار مصر بأسرها مع ما انضم إليها من بلاد المغرب والشام بأسرها مع حلب وما والاها، وأكثرها ديار ربيعة وبكر والحجاز بأسره واليمن بأسره، ونشر العدل في الرعية، وحكم بالقسط بين البرية، وبنى المدارس والخوانق، وأجرى الأرزاق على العلماء والصلحاء، مع الدين المتين والروع والزهد والعلم، وكان يحفظ القرآن والتنبيه والحماسة. وهو الذي ابتنى قلعة القاهرة على جبل المقطم التي هي الآن دار السلاطين، ولم يكن السلاطين قبلها غلا دار الوزارة بالقاهرة. وفتح بلاد المسلمين حران، وسروج، والرها والرقة، والبيرة، وسنجار، ونصيبين، وآمد. وملك حلب، والمواريخ وشهرز. وحاصر الموصل إلى أن دخل صاحبها تحت طاعته، وفتح عسكره طرابلس الغرب وبرقة من بلاد المغرب، وكسر عسكر تونس، وخطب بها لبني العباس. ولو لم يقع الخلف بين عسكره الذين جهزهم إلى المغرب لملك الغرب بأسره، ولم يختلف عليه مع طول مدته أحد من عسكره على كثرتهم. وكان الناس يأمنون ظلمه لعدله، ويرجون رفده لكثرته، ولم يكن لمبطل ولا لصاحب هزل عنده نصيب. وكان إذا قال صدق، وإذا وعد وفى، وإذا عاهد لم يخن.
وكان رقيق القلب جداً، ورحل إلى الإسكندرية بولديه الأفضل والعزيز لسماع الحديث من السلفى، ولم يعهد ذلك لملك بعد هارون الرشيد، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون إلى الإمام مالك لسماع الموطأ. هذا كله كلام السبكي في الطبقات.
قال: ومن الكتب والمراسيم عنه في النهى عن الخوض في الحرف والصوت؛ وهو من إنشاء القاضي الفاضل: )لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض . . .( الآية خرج أمرنا إلى كل قائم في صف، أو قاعد في إمام وخلف؛ ألا نتكلم في الحرف بصوت، ولا في الصوت بحرف، ومن تكلم بعدها كان الجدير بالتكليم، )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(، ويسأل النواب القبض على مخالفي هذا الخطاب، وبسط العذاب، ولا يسمع لمتفقه في ذلك تحرير جواب، ولا يقبل عن هذا الذنب متاب. ومن رجع إلى هذا الإيراد بعد الإعلان؛ وليس الخبر كالعيان، رجع أخسر من صفقة أبي غبشان، وليعلن بقراءة هذا الأمر على المنابر، وليعلم به الحاضر والبادي ليستوي فيه البادي والحاضر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ومن صنائع السلطان صلاح الدين أنه أسقط المكوس والضرائب عن الحجاج بمكة، وقد كان يؤخذ منهم شيء كثير، ومن عجز عن أدائه حبس، فربما فاته الوقوف بعرفة، وعوض أميرها ثمال إقطاعا بديار مصر، يحمل إليه منه في كل سنة ثمانية آلاف إردب غلة، لتكون عوناً له ولأتباعه، وقرر للمجاورين أيضا غلات تحمل إليهم وصلات، فرحمة الله عليه في سائر الأوقات، فلقد كان إمامً عادلا، وسلطانا كاملا لم يل مصر بعد الصحابة مثله، لا قبله ولا بعده! وقد كان الخليفة المستضيئ أرسل إليه في سنة أربع وسبعين خلعاً سنية جداً، وزاد في ألقابه " معز أمير المؤمنين " . ثم لما ولي الخليفة الناصر في سنة ست وسبعين أرسل إليه خلعة الاستمرار، ثم أرسل إليه في سنة اثنتين وثمانين يعاتبه في تلقيبه بالملك الناصر، مع أنه لقب أمير المؤمنين، فأرسل يعتذر إليه بان ذلك كان من أيام الخليفة المستضيئ، وأنه إن لقبه أمير المؤمنين بلقب، فهو لا يعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب.
قال العماد: وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون، فاتفق أن بعضهم أخذ صبياً رضيعاً من مهده ابن ثلاثة أشهر، فوجدت عليه أمه وجداً شديداً، واشتكت إلى ملوكهم؛ فقالوا لها: إن سلطان المسلمين رحيم القلب، فأذهبي إليه، فجاءت إلى السلطان صلاح الدين فبكت، وشكت أمر ولدها، فرق لها رقة شديدة، ودمعت عيناه، فأمر بإحضار ولدها، فإذا هو بيع في السوق، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري، ولم يزل واقفا حتى جيء بالغلام، فدفعه إلى أمه، وحملها على فرس إلى قومها مكرمة.

(1/213)


واستمر السلطان صلاح الدين على طريقته العظيمة؛ من مثابرة الجهاد للكفار، ونشر العدل، وإبطال المكوس والمظالم، وإجراء البر والمعروف إلى أن أصيب به المسلمون، وانتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى ليلة الأربعاء سادس عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وله من العمر سبع وخمسون سنة، وعمل الشعراء فيه مراثي كثيرة، من ذلك قصيدة للعماد الكاتب، مائتان وثلاثون بيتا أولها:
شمل الهدى والملك عم شتاته ... والدهر ساء وأقلعت حسناته
بالله أين الناصر الملك الذي ... لله خالصة صفت نياته
أين الذي ما زال سلطاناً لنا ... يرجى نداه وتتقي سطواته
أين الذي شرف الزمان بفضله ... وسمت على الفضلاء تشريفاته
أين الذي عنت الفرنج لبأسه ... ذلا ومنها أدركت ثاراته
أغلال أعناق العدا أسيافه ... أطواق أجياد الورى مناته
قال العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى دينار واحد صورى وستة وثلاثين درهما، ولم يترك داراً ولا عقاراً ولا مزرعة، ولا شيئاً من أنواع الأملاك، وترك سبعة عشر ولدا ذكرا وابنة واحدة.
وكان متدنياً في مأكله ومشربه ومركبه وملبسه، فلا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، وكان يواظب الصلاة في الجماعة، ويواظب سماع الحديث، حتى أنه سمع في بعض المصافات جزءا وهو بين الصفين ويتبجح بذلك، وقال: هذا موقف لم يسمع فيه أحد حديثاً.
وبالجملة بمناقبه الحميدة كثيرة لا تستقصي إلا في مجلدات، وقد أفرد سيرته بالتصنيف جماعة من العلماء والزهاد والأدباء، وكان به عرج في رجله، فقال فيه ابن عنين الشاعر:
سلطاننا أعرج وكاتبه ... ذو عمش والوزير منحدب قال ابن فضل الله في المسالك، ومن غرائب الاتفاق ان الشيخ علم الدين السخاوي مدح السلطان صلاح الدين، ومدحه الأديب رشيد الدين الفارق، وبين وفاتيهما مائة سنة.
وذكر اليافعي في روض الرياحين أن السلطان صلاح الدين كان من الأولياء الثلمائة، وأن السلطان محموداً كان من الأولياء الأربعين.
وقام بمصر من بعده ولده الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، وكان نائب أبيه بها في حياته مدة اشتغاله بفتح البلاد الشامية، فاستقل بها بعد وفاته، فسار سيرة حسنة بعفة عن الفرج والأموال، حتى إنه ضاق ما بيده، ولم يبق في الخزانة لا درهم ولا دينار، فجاءه رجل يسعى في قضاء الصعيد بمال فامتنع، وقال: والله لا بعت دماء المسلمين وأموالهم بملك الأرض. وسعى آخر قضاء الإسكندرية بأربعين ألف دينار، وحملها إليه فلم يقبلها، ولم يزل إلى أن مات في المحرم سنة خمس وتسعين، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ودفن في قبة الإمام الشافعي.
فأقيم ولده ناصر الدين محمد، ولقب المنصور فاستمر إلى رمضان سنة ست وسبعين، ثم استفتى عم أبيه الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شاذي الفقهاء في عدم صحة مملكته لكونه صغيراً ابن عشر سنين، فأفتوا بأن ولايته لا تصح، فنزع وأقيم الملك العادل. وقيل إن العادل أخذها من الأفضل علي بن السلطان صلاح الدين، وكان الأفضل غلب عليها، وانتزعها من المنصور، وأرسل العادل إلى الخليفة يطلب التقليد بمصر والشام، فأرسله إليه مع الشهاب السهر وردي، فكان يصيف بالشام ويشتي بمصر، وينتقل في البلاد إلى أن مات يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.
ومن قول ابن عنين فيه:
إن سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيق الإنفاق
هو سيف كما يقال ولكن ... قاطع للرسوم والأرزاق
والعادل أول من سكن قلعة الجبل بمصر من الملوك، سكنها في سنة أربعين وستمائة، ونقل إليها أولاد العاضد وأقاربه في بيت في صورة حبس، وكان ابنه الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد ينوب عنه بمصر في أيام غيبته، فاستقل بها بعد وفاته.

(1/214)


وفي هذه السنة نزلت الفرنج على دمياط، وأخذوا برج السلسلة، وكان حصناً منيعا، وهو قفل بلاد مصر، وصفته أنه في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر؛ ومن هذا البرج إلى دمياط وهي على شاطئ البحر وحافة النيل سلسلة، ومنه إلى الجانب الآخر، وعليه الجسر سلسلة أخرى، ليمنع دخول المراكب من البحر إلى النيل؛ فلا يتمكن من البلاد، فلما ملكت الفرنج هذا البرج شق ذلك على المسلمين بديار مصر وغيرها، ووصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرح الصفراء، فتأوه تأوها شديداً، ودق بيده على صدره أسفا وحزنا، ومرض من ساعته مرض الموت.
ثم في سنة ست عشرة استحوذ الفرنج على دمياط، وجعلوا الجامع كنيسة لهم، وبعثوا بمنبره وبالربعات ورءوس القتلى إلى الجزائر، فأنا لله وأنا إليه راجعون! واستمرت بأيديهم إلى سنة سبع عشرة.
وكان الكامل عرض عليهم أن يرد إليهم بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد السواحل ويتركوا دمياط؛ فامتنعوا من ذلك؛ فقدر الله أنه ضاقت عليهم الأقوات، فقدمت عليهم مراكب فيها ميرة، فأخذها الأسطول البحري، وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية، فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في أنفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى؛ حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن، فعند ذلك أنابوا إلى المصلحة بلا معارضة، وكان يوماً مشهوداً، ووقع الصلح على ما أراد الكامل، ومد سماطا عظيما، وقام راجح الحلي فأنشد:
هنيئاً فإن السعد أضحى مخلداً ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحاً بدا لنا ... مبيناً وإنعاما وعزاً مؤيدا
إلى أن قال:
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعاً يخدمون محمدا
وكان حاضرا حينئذا الملك المعظم عيسى والملك الأشرف موسى ابنا الملك العادل.
قال أبو شامة: وبلغني أنه لما أنشد هذا البيت، أشار إلى الملك المعظم عيسى والأشرف موسى والكامل محمد؛ فكان ذلك من احسن شيء اتفق، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها من البلدان. قال الحافظ شرف الدين الدمياطي في معجمه: أنشدنا أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري لنفسه ببغداد، وقد ورد كتاب من ديار مصر إلى الديوان بانتصار المسلمين على الروم وفتح ثغر دمياط:
أتانا كتاب فيه نسخة نصرة ... ألخص معناها لذي فطن جلد
يقول ابن أيوب المعظم حامداً ... لرب السماء الواحد الصمد الفرد
أمرنا بحمد الله جل ثناؤه ... وعز أرى دفريس في طالع السعد
تركنا من الأعلاج بالسيف مطعناً ... ثلاثين ألفا للقشاعم والأسد
ومنهم ألوف أربعون بأسرنا ... فكم ملك في قبضنا صار كالعبد
ودمياط عادت مثل ما بدأت لنا ... ويافا ملكناها، فيالك من جد!
ونحن على أن نملك السيف كله ... على ثقة ممن له خالص الحمد
ألا يا بن أيوب لقد نلت غاية ... من النصر ضاهت ما بلغت من المجد
قهرت فرنج الروم قهراً سماعه ... يقسم ذل الرعب في الترك والسغد
وما نلت أسباب العلا عن كلالة ... ولم يأتك المجد المؤثل من بعد
ولكن ورثت الملك والفضل عن أب ... جليل وعن عم نبيل وعن جد
لجأت إلى ركن شديد ومعقل ... منيع وكنز جامع جوهر المجد
إلى فاتح باب الرشاد ببعثه ... وخاتم ميثاق النبوة والعهد
إلى الشافعي المنجي الوجيه محمد ... فأحسنت في صدق التوجه والقصد
فمهما تجد من كيد ضد مضاغن ... بوجه به تظفر وتنصر على الضد
فلا صد عن عز سوابق مجدكم ... كلال ولا غالى الكلول شبا الحد
إلى أن تذيق الروم في عقر دارهم ... زعافا وتسقى المؤمنين جنى الشهد
ولما تولى المستنصر الخلافة أرسل إلى الكامل محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، ومعه كتاب عظيم فيه تقليده الملك، وفيه أوامر كثيرة مليحة من إنشاء الوزير نصير الدين احمد بن الناقد؛ رأيت بخط قاضي القضاة عز الدين بن جماعة.
قال: وقفت على نسخة تقليد من الخليفة المنصور أبي جعفر المستنصر بالله أمير المؤمنين بخط وزيره أبي الأزهر أحمد بن الناقد في رجب سنة نيف وعشرين وستمائة للملك الكامل.

(1/215)


الحمد لله الذي اطمأنت القلوب بذكره، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره ووسعت كل شيء رحمته، وظهرت في كل أمر حكمته، ودل على وحدانيته بعجائب ما أحكم صنعاً وتدبيراً، وخلق كل شيء فقدره تقديرا، ممد الشاكرين بنعمائه التي لا تحصى عددا، وعالم الغيب الذي لا يظهر على غيبه أحداً؛ لا معقب لحكمه في الإبرام والنقض، ولا يئوده حفظ السموات والأرض، تعالى ان يحيط به الضمير، وجل ان يبلغ وصفه البيان والتفسير؛ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأحمد الله الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وابتعثه هادياً للخلق، وأوضح به مناهج الرشد وسبل الحق، فقذف صلى الله عليه وسلم بالحق على الباطل، وحمل الناس بشريعته على المحجة البيضاء والسنن العادل؛ حتى استقام اعوجاج كل زائغ، ورجع إلى الخلق كل حائد عنه ومائل، وسجد لله كل شيء تتفيأ ظلاله على اليمين والشمائل؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام الأفاضل، صلاة مستمرة بالغدوات والأصائل، خصوصا على عمه وصنو أبيه العباس بن عبد المطلب الذي اشتهرت مناقبه في المجامع والمحافل، ودرت ببركة استسقائه أخلاف السحب الهواطل، وفاز من تنصيص الرسول صلى الله عليه وسلم في الخلافة المعظمة بما لم يفز به أحد من الأوائل.
والحمد لله الذي حاز مواريث النبوة والإمامة، ووفر من جزيل الأقسام من الفضل والكرامة، لعبده وخليفته، ووارث نبيه ومحيي شريعته وسنته.
ولما وفق الله نصير الدين محمد بن سيف الدين أبي بكر بن أيوب من الطاعة المشهورة، والخدم المشكورة، انعم عليه بتقليد شريف إمامي، فقلده على خيرة الله الرعاية والصلاة وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والضياع والصدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات، والقرض والعطاء، والنفقة في الأولياء، والمظالم والحسبة في بلاده، وما يفتتحه ويستولي عليه من بلاد الفرنج الملاعين، وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده من المارقين عن الإجماع المنعقد بين علماء المسلمين. ومنه أمره بتقوى الله تعالى التي هي الجنة الواقية؛ والنعمة الباقية، والملجأ المنيع، والعماد الرفيع، والذخيرة النافعة في السر والنجوى، والجذوة المقتبسة من قوله تعالى: )وتزودوا فإن خير الزاد التقوى(؛ وأن يدرع شعارها في جميع الأقوال، ويهتدي بأنوارها من مشكلات الأمور والأحوال، وان يعمل بها سراً وجهرا، ويشرع للقيام بحدودها الواجبة صدراً، قال الله تعالى: )ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا(، وأمره بتلاوة كتاب الله تعالى، متدبراً غوامض عجائبه، سالكاً سبيل الرشاد، والهداية في العمل به، وأن يجعله مثالا يتبعه ويقتفيه، ودليلا يهتدي بمراشده الواضحة في أوامره ونواهيه؛ فإنه النفل الأعظم، وسبب الله المحكم، والدليل الذي يهدي للتي هي أقوم؛ ضرب الله لعباده جوامع الأمثال، وبين لهم بهداه مسالك الرشد والضلال، وفرق بدلائله الواضحة ونواهيه الصادقة بين الحرام والحلال، فقال عز من قائل: )هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين(، وقال تعالى: )كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب(.
وأمره بالمحافظة على مفروض الصلوات والدخول فيها على اكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات، وأن يكون نظره في موضع نجواه من الأرض، وأن يمثل لنفسه في ذلك موقفه بين يدي الله تعالى يوم العرض، قال تعالى: )والذين هم في صلاتهم خاشعون(، وقال سبحانه: )إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا( وألا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها الواجبة، ولا يلهو بسبب عن إقامة سنتها الراتبة، فإنها عماد الدين التي سمت أعاليه، ومهاد الشرع الذي رست قواعده ومبانيه، قال تعالى: )حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين(، وقال تعالى: )إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر(.
وأمره أن يسعى إلى صلاة الجمع والأعياد، ويقوم في ذلك بما فرضه الله عليه وعلى العباد، وأن يتوجه إلى المساجد والجوامع متواضعاً، ويبرز إلى المصليات الضاحية في الأعياد خاشعا، وأن يحافظ في تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب، ويعظم باعتماده ذلك شعائر الله التي هي من تقوى القلوب.

(1/216)


وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه، وكما نظره وإرعائه، بيوت الله التي هي محال البركات، وموطن العبادات، والمساجد التي تأكد في تعظيمها وإجلالها حكمه، والبيوت التي أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه، وان يرتب لها من الخدم من يتبتل بما يحتاج غليه من أسباب الصلاح والعمارات، ويحضر إليها ما يليق من الدهن والكسوات.
وأمره باتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوضح جددها، وثقف عليه السلام أودها، وأن يعتمد فيها على الأسانيد التي نقلتها الثقات، والأحاديث التي صحت بالطرق السليمة والروايات، وان يقتدي بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بسببها، ورغب أمته في الأخذ بها والعمل بأدبها، قال الله تعالى: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهو(، وقال سبحانه وتعالى: )من يطع الرسول فقد أطاع الله(.
وأمره بمجالسة أهل العلم والدين، وأولى الإخلاص في طاعة الله واليقين، والاستشارة بهم في عوارض الشك والالتباس، والعمل بآرائهم في التمثيل والقياس؛ فان في الاستشارة بهم عين الهداية، وامناً من الضلال والغواية، وألا يلقح عقم الإفهام والألباب، ويقتدح زناد الرشد والصواب، قال الله تعالى في الإرشاد إلى فضلها، والأمر في التمسك بحبلها: )وشاورهم في الأمر(.
وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر في ثغوره، وأن يشملهم بحسن نظره وجميل تدبيره، مستصلحاً شانهم بإدامة التلطف والتعهد، مستوضحاً أحوالهم بمواصلة التفحص عنها والتفقد، وأن يسومهم بسياسة تبعثهم على سلوك المنهج السليم، ويهيديهم في انتظامها واتساقها إلى الصراط المستقيم، ويحملهم على القيام بشرائط الخدم، والتمسك منها بأقوى الأسباب وأمتن العصم، ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والائتلاف، ويصدهم عن موجبات التخاذل والاختلاف، وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم في الإعطاء والمنع، وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أسباب الخفض والرفع؛ وأن يثيب المحسن وامتنانه، وأن يأخذ برأي ذوي التجارب منهم والحنكة، ويجتني بمشاورتهم ثمر البركة؛ إذ في ذلك أمن من خطأ الانفراد، وتزحزح عن مقام الزيغ والاستبداد.
وأمره بالتبتل لما يليه من البلاد، ويتصل بنواحيه من ثغور أولى الشرك والعناد؛ وان يصرف مجامع الالتفات إليها، ويخصها بوفور الاهتمام بها والتطلع عليه، وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل والأحكام والإتقان، وينتهي في أسباب مصالحها إلى غاية الوسع والإمكان، وأن يشحنها بالميرة الكثيرة والذخائر، ويمدها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر، وأن يتخير لحراستها من الأمناء الثقات، ويسدها بمن ينتخبه من الشجعان الكماة، وأن يؤكد عليهم في استعمال أسباب الحيطة والاستظهار، ويوقظهم إلى الاحتراس من غوائل الغفلة والغترار، وأن يكون المشار إليهم ممن تربوا في ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد، وتدربوا في نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد، وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد، وكثرة العدد، والتوسعة في النفقة والعطاء، والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم في التقصير والعناء، إذ في ذلك حسم لمادة الأطماع في بلاد الإسلام، ورد لكيد المعاندين من عبدة الأصنام؛ فمعلوم أن هذا الفرض أولى ما وجهت إليه العنايات وصرفت، وأحق ما قصرت عليه الهمم ووقفت؛ فإن الله تعالى جعله من أهم الفروض التي لزم القيام فيها بحقه، وأكبر الواجبات التي كتب العمل بها على خلقه، فقال سبحانه وتعالى هاديا في ذلك إلى سبيل الرشاد، ومحرضاً لعباده على قيامهم له بفرض الجهاد: )ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب . . .(، إلى قوله تعالى: )ليجزيهم الله احسن ما كانوا يعملون(، وقال تعالى: )واقتلوهم حيث ثقفتموهم(، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من نزل منزلا لا يخيف فيه المشركين ويخيفونه، كان له كأجر ساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، واجر قائم لا يقعد إلى يوم القيامة، وأجر صائم لا يفطر " . وقال صلى الله عليه وسلم: " غدوه في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس " ، هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من سمع هذه المقالة فوقف لديها، فكيف بمن كان قال عليه السلام: " ألا أخبركم بخير الناس! ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيمة طار إليها " .

(1/217)


وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى في رعاياه، والاهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه؛ وان يسلك في السياسة بهم سبيل الصلاح، ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح، ويمد ظل رعايتهم على مسلمهم ومعاهدهم، ويزحزح الأقذاء والشوائب عن مناهلهم في العدل ومواردهم، وينظر في مصالحهم نظراً يساوي فيه بين الضعيف والقوي، ويقوم بأودهم قياماً تهتدي به ويهديهم إلى الصراط السوي؛ قال الله تعالى: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان . . .( الآية.
وأمره باعتماد أسباب الاستظهار والأمنة واستقصاء الطاقة المستطاعة والقدرة الممكنة، في المساعدة على قضاء تفث حجاج بيت الله الحرام، وزوار نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن يمدهم بالإعانة في ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام، ويحرسهم من التخطف والأذى في حالتي الظعن والمقام؛ فإن الحج أحد أركان الدين المشتدة، وفروضه الواجبة المؤكدة، قال تعالى: )ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا(.
وأمره بتقوية أيدي العاملين بحكم الشرع في الرعايا، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا، والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوي الاستحقاق، والشد على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق، وأنه متى تأخر أحد الخصمين عن إجابة داعي الحكم، أو تقاعس في ذلك لما يلزم من الأداء والغرم، جذبه بعنان القسر إلى مجلس الشرع، واضطره بقوة الأنصار إلى الأداء بعد المنع، وأن يتوخى عمال الوقوف التي تقرب المتقربون بها، واستمسكوا في ظل ثواب الله بمتين سببها، وان يمدهم بجميل المعاونة والمساعدة، وحسن المؤازرة والمعاضدة، في الأسباب التي تؤذن بالعمارة والاستنماء، ويعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء، قال تعالى: )وتعاونوا على البر والتقوى(.
وأمره أن يتخير من أولى الكفاية والنزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال، والقيام بالواجب؛ من أداء الأمانة والحراسة والتمييز لبيت المال، وأن يكونوا من ذوي الإطلاع بشرائط الخدم المعينة وأمورها، والمهتدين إلى مسالك صلاحها.
قال الصلاح الصفدي في تاريخه: حكى صاحب كتاب الإشعار بما للملوك من النوادر والأشعار، قال: كان الملك الكامل ليلة جالسا فدخل عليه مظفر الأعمى، فقال له أجزيا مظفر:
قد بلغ الشوق منتهاه
فقال مظفر:
وما درى العاذلون ما هو
فقال السلطان:
ولي حبيب رأى هواني
فقال مظفر:
وما تغيرت عن هواه
فقال السلطان:
رياضة النفس في احتمال
فال مظفر:
وروضة الحسن في حلاه فقال السلطان:
اسمر لدن القوام ألمى
فقال مظفر:
يعشقه كل من يراه
فقال السلطان:
وريقه كله مدام
فقال مظفر:
ختامه المسك من لماه
فقال السلطان:
ليلته كلها رقاد
فقال مظفر:
وليلتي كلها انتباه
فقال السلطان:
وما يرى أن أكون عبداً
فقام مظفر على قدميه، وقال:
بالملك الكامل احتماه
العالم العامل الذي في ... كل صلاة ترى إياه
ليث وغيث وبدر تم ... ومنصب جل مرتقاه
قال الحافظ عبد العظيم المنذري: أنشأ الملك الكامل دار الحديث بالقاهرة، وعمر القبة على ضريح الشافعي، وأجرى الماء من بركة الحبش إلى حوض السبيل والسقاية على باب القبة المذكورة، ووقف غير ذلك من الوقوف على أنواع البر، وله المواقف المشهودة بدمياط، وكان معظماً للسنة وأهلها، قال الذهبي: وكانت له إجازة من السلفي، وخرج له أبو القاسم بن الصفراوي أربعين حديثاً سمعها من جماعة.
وقال ابن خلكان: اتسعت المملكة للملك الكامل، حتى قال خطيب مكة مرة عند الدعاء له: سلطان مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العلامتين، وخادم الحرمين الشريفين، الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين.
وكانت وفاته بدمشق يوم الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة.

(1/218)


وأقيم بعده ولده الملك العادل أبو بكر، وكان نائب أبيه بمصر مدة غيبته، فبلغ ذلك أخاه الأكبر الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل صاحب حصن كيفا، فقدمن وبرز العادل إلى بلبيس قاصداً للقتال، فاختلفت عليه الأمراء، فقيدوه، واعتقلوه، وأرسلوا إلى الصالح أيوب فوصل إليهم، فملكوه، وذلك في صفر سنة سبع وثلاثين. فأقام في الملك عشر سنين إلا أربعة أشهر. وكان مهيباً جداً، دبر المملكة على أحسن وجه، وبنى المدارس الأربعة بين القصرين، وعمر قلعة بالروضة، واشترى ألف مملوك وأسكنهم بها، وسماهم البحرية، وهو الذي أكثر من شراء الترك وعتقهم وتأميرهم، ولم يكن ذلك قبله، فقام الشيخ عز الدين بن عبد السلام القومة الكبرى في بيع أولئك الأمراء، وصرف ثمنهم في مصالح المسلمين، وقال بعض الشعراء:
الصالح المرتضى أيوب أكثر من ... ترك بدولته، يا شر مجلوب!
قد آخذ الله أيوباً بفعلته ... فالناس كلهم في ضر أيوب
ولما تولى الخليفة المستعصم أنفذ الصالح غليه رسوله، يطلب تقليداً بمصر والشام، فجاءه التشريف والطوق الذهب والمركوب، فلبس التشريف الأسود والعمامة والجبة، وركب الفرس، وكان يوما مشهودا.
فلما كان سنة سبع وأربعين، هجمت الفرنج على دمياط، فهرب من كان فيها، واستحوذوا عليها، والملك الصالح مقيم بالمنصورة لقتالهم، فأدركه أجله ومرض ومات بها ليلة النصف من شعبان. فأخفت جاريته شجر الدر موته، وبقيت تعلم بعلامته سواه، وأعلمت أعيان الأمراء، فأرسلوا إلى ابنة الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا، فقدم في ذي القعدة، وملكوه، فركب في عصائب الملك، وقاتل الفرنج وكسرهم، وقتل منهم ثلاثين ألفا ولله الحمد.
وكان في عسكر المسلمين الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكانت النصرة أولا للفرنج، وقويت الريح على المسلمين، فقال الشيخ عز الدين بأعلى صوته مشيرا بيده إلى الريح: يا ريح خذيهم، عدة مرار، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر الفرنج، وصرخ من المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً سخر له الريح، وكان ذلك في يوم الأربعاء ثالث المحرم. واسر الفرنسيس ملك الفرنج، وحبس مقيداً بدار ابن لقمان، ووكل بحفظه طواشي يقال له صبيح. ثم نفرت قلوب العسكر من المعظم لكونه قرب مماليكه، وابعد مماليك ابيه، فقتلوه في يوم الاثنين سابع عشر المحرم وداسوه بأرجلهم، وكانت مملكته شهرين.
قال ابن كثير وقد رئى أبوه الصالح في النوم بعد قتل ابنه، وهو يقول:
قتلوه شر قتلة ... صار للعالم مثله
لم يراعوا فيه إلا ... لا ولا من كان قبله
ستراهم عن قريب ... لأقل الناس أكله
فكان كذلك، وقع بعد ذلك قتال بين المصريين والشاميين، وعدم من المصريين طائفة كثيرة.
واتفقوا بعد قتل المعظم على تولية شجر الدر أم خليل جارية الملك الصالح، فملكوها، وخطب لها على المنابر، فكان الخطباء يقولون بعد الدعاء للخليفة: واحفظ اللهم الجهة الصالحة ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح. ونقش اسمها على الدينار والدرهم، وكانت تعلم عل المناشير وتكتب: والدة خليل. ولم يل مصر في الإسلام امرأة قبلها.
ولما توليت تكلم الشيخ عز الدين بن عبد السلام في بعض تصانيفه على ما إذا ابتلى المسلمون بولاية امرأة، وأرسل الخليفة المستعصم بعاتب أهل مصر في ذلك ويقول: إن كان ما بقى عندكم رجل تولونه، فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً.
ثم اتفقت شجر الدر والآراء على إطلاق الفرنسيس، بشرط أن يردوا دمياط إلى المسلمين، ويعطوا ثمانمائة ألف دينار عوضاً عما كان بدمياط من الحواصل، ويطلقوا أسراء المسلمين. فأطلق على هذا الشرط، فلما سار إلى بلاده أخذ في الاستعداد والعود إلى دمياط، فندمت الأمراء على إطلاقه؛ وقال الصاحب جمال بن مطروح - وكتب بها إليه:
قل للفرنسيس إذا جثته ... مقال صدق من قؤول نصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح
أتيت مصر تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر بالطبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح

(1/219)


تسعين ألفاً لا ترى منهم ... إلا قتيلاً أو أسيراً جريح
وفقك الله لأمثالها ... لعل عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضياً ... فرب غش قد أتى من نصيح
وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لعقد صحيح:
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
فلم ينشب الفرنسيس أن أهلكه الله، وكفى المسلمين شره، وأقامت شجر الدر في المملكة ثلاثة أشهر، ثم عزلت نفسها. واتفقوا على أن يملكوا الملك الأشرف موسى بن صلاح الدين يوسف بن المسعود بن الملك الكامل، فملكوه وله ثمان سنين، وذلك في يوم الأربعاء ثالث جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين. وجعل عز الدين أيبك التركماني مملوك الصالح أتابكه، وخطب لهما، وضربت السكة باسمهما، وعظم شان الأتراك من يومئذ، ومدوا أيديهم إلى العامة، وأحدث وزيره الأسعد الفائزي ظلامات ومكوسا كثيرة.
ثم إن عز الدين خلع الملك الاشرف واستقل بالسلطنة في سنة اثنتين وخمسين، ولقب الملك المعز؛ وهو أول من ملك مصر من الأتراك، وممن جرى عليه الرف، فلم يرض الناس بذلك حتى أرضى الجند بالعطايا الجزيلة. وأما أهل مصر فلم يرضوا بذلك، ولم يزالوا يسمعونه ما يكره إذا ركب ويقولون: لا نريد إلا سلطانا رئيسا ولد على الفطرة، وكان المعز تزوج شجر الدر.
ثم إنه خطب ابنة صاحب الموصل، فغارت شجر الدر فقتلته في أواخر ربيع الأول سنة خمس وخمسين، وأقيم بعده ولده علي ولقب المنصور، وعمره نحو خمس عشرة سنة، فأقام سنتين وثمانية أشهر، وفي أيامه أخذ التتار بغداد، وقتل الخليفة.
ثم إن الأمير سيف الدين قطر مملوك المعز قبض على المنصور، واعتقله في أواخر ذي القعدة سنة سبع وخمسين؛ وتملك مكانه، ولقب بالملك المظفر بعد أن جمع الأمراء والعلماء والأعيان، وأفتوا بان المنصور صبي لا يصلح للملك، لا سيما في هذا الزمان الصعب الذي يحتاج إلى ملك شهم مطاع لأجل إقامة الجهاد، والتتار قد وصلوا البلاد الشامية، وجاء أهلها إلى مصر يطلبون النجدة؛ وأراد قطز أن يأخذ من الناس شيئاً ليستعين به على قتالهم؛ فجمع العلماء، فحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقال: لا يجوز ان يؤخذ من الرعية شيء حتى لا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص والآلات، ويقتصر كل منهم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك انتم والعامة. وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا. ولم يكن قطز هذا مرقوق الأصل، ولا من أولاد الكفر.
قال الجزري في تاريخه: كان قطزفي رق ابن الزعيم، فضربه أستاذه فبكى، فقبيل له: تبكي من لطمة! فقال: إنما أبكي من لعنة أبي وجدي، وهما خير منه، فقيل: من أبوك! واحد كافر. قال: ما أنا إلا مسلم، أنا محمود بن مودود بن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك.
وخرج المظفر بالجيوش في شعبان سنة ثمان وخمسين متوجهاً إلى الشام لقتال التتار وشاويشه ركن الدين بيبرس البند قدارى، فالتقوا هم والتتار عند عين جالوت، ووقع المصاف يوم الجمعة خامس عشري رمضان، فهزم التتار شر هزيمة، وانتصر المسلمون ولله الحمد، وجاء كتاب المظفر إلى دمشق بالنصر، فطار الناس فرحاً، ثم دخل المظفر إلى دمشق مؤيداً منصورا، فاحبه الخلق غاية المحبة، وقال بعض الشعراء في ذلك:
هلك الكفر في الشام جميعا ... واستنجد الإسلام بعد دحوضه
بالمليك المظفر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه
وقال الغمام أبو شامة رحمه الله في ذلك شعرا:
غلب التتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركي يجود بنفسه
بالشام أهلكهم وبدد شملهم ... ولكل شيء آفة من جنسه
وساق بيبرس وراء التتار إلى حلب، وطردهم عن البلاد، ووعده السلطان بحلب، ثم رجع عن ذلك، فتأثر بيبرس ووقعت الوحشة بينهما، فأضمر كل لصاحبه الشر، فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفر، فقتلوه في الطريق في سادس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين بين العرابي والصالحية، وتسلطن بيبرس، ولقب بالملك القاهر، ودخل مصر وأزال عن أهلها ما كان المظفر أحدثه عليهم من المظالم، وأشار عليه الوزير زين الدين أن يغير هذا اللقب، وقال: ما تلقب به أحد فأفلح؛ فأبطل السلطان هذا اللقب، وتلقب بالملك الظاهر.

(1/220)