تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة |
وفي سنة اثنتين وعشرين أبطل السلطان المكس المتعلق بالمأكول بمكة، وعوض صاحبها ثلثي بلد دمامين، من صعيد مصر. (1/316)
وفي سنة أربع وعشرين رسم السلطان بإبطال الملاهي بالديار المصرية، وحبس جماعة من النساء الزواني، وحصل بالديار المصرية موت كثير.
وفي هذه السنة، نودي على الفلوس أن يتعامل بها بالرطل، كل رطل بدرهمين، ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم.
وفي سنة خمس وعشرين، وقع بالقاهرة مطر كثير، قل أن وقع مثله، وجاء سيل إلى النيل حتى تغير لونه، وزاد نحو أربعة أصابع.
وفي هذه السنة حضر السلطان القاسم بن قلاوون عند قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فسمع عليه عشرين حديثا من تساعياته، وخلع عليه خلعة عظيمة، وفرق من الذهب والفضة على الفقراء نحو ثلاثين ألف درهم.
وفي سنة سبع وعشرين، رسم بقتل الكلاب بالديار المصرية.
وفي سنة تسع وعشرين، رسم بالا يباع مملوك تركي لكاتب ولا لعامي.
وفي سنة أربعين، نودي على الذهب كل دينار بخمسة وعشرين درهما، وكان بعشرين درهما، وأن يتعامل به ولا يتعاملوا بالفضة، فشق ذلك على الناس، ثم بطل ذلك.
وفي سنة أربع وأربعين، اشتد آل ملك نائب السلطنة على وادي القاهرة في إراقة الخمر، ومنع المحرمات، وعاقب جماعة كثيرة على ذلك، واخرب خزانة النبوذ، وكانت دار فسق وفجور، وبنى مكانها مسجدا، ونادى: من أحضر سكرانا، أو من معه جرة خمر خلع عليه. فقعد العامة لذلك بكل طريق، وأتوه بجندي سكران، فضربه وقطع خبزه، وأخلع على الآتي به، وصار له مهابة عظيمة، وكف الناس عن أشياء كثيرة، حتى أعيان الأمراء، فقال بعض الشعراء في ذلك:
آل ملك الحجاج غدا سعده ... يملأ ظهر الأرض فيما سلك
فالأمر أمن دونه سوقة ... والملك الظاهر هو آل ملك
وفي سنة سبع وأربعين قل ماء النيل، حتى صار ما بين المقياس ومصر يخاض، وصار من بولاق إلى المنشية طريقا يمشي فيه، وبلغت راوية الماء درهمين، وكانت بنصف درهم.
وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون بمصر وغيرها.
وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة أمر بأن يكون إزار النصرانية ازرق وإزار اليهودية أصفر، وإزار السامرية أحمر.
وفي سنة سبع وخمسين في ربيع الآخر، هبت ريح من جهة المغرب، وامتدت من مصر إلى الشام في يوم وليلة، وغرقت ببولاق نحو ثلاثمائة مركب، واقتلعت من النخيل والجميز ببلاد مصر وبلبيس شيئاً كثيرا.
وفي سنة إحدى وستين وقع الوباء بالديار المصرية.
وفي سنة أربع وستين كان الطاعون بديار مصر.
وفي سنة خمس وستين وقع الفناء في البقر، فهلك منه شيء كثير.
وفي سنة سبع وستين أخذت الفرنج مدينة إسكندرية، وقتلوا وأسروا، فخرج السلطان والعسكر لقتالهم، ففروا وتركوها.
وفي سنة تسع وستين وقع الوباء بالديار المصرية.
وفي سنة ثلاث وسبعين رسم للأشراف بالديار المصرية والشامية أن يسموا عمائمهم بعلامة خضراء، تمييزا لهم عن الناس، ففعل ذلك في مصر والشام وغيرهما، وفي ذلك يقول أبو عبد الله بن جابر الأندلسي الأعمى نزيل حلب:
جعلوا لأبناء الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم ... يفنى الشريف عن الطراز الأخضر
وقال في ذلك جماعة من الشعراء ما يطول ذكره؛ ومن أحسنها قول الأديب شمس الدين محمد بن إبراهيم الدمشقي:
أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر بأعلام على الأشراف
والأشرف السلطان خصصهم بها ... شرفاً ليعرفهم من الأطراف وفي هذه السنة زاد النيل زيادة مفرطة، وثبت إلى أيام من هاتور، فاجتمع جماعة بالجامع الأزهر، وجامع عمرو، وسألوا الله في هبوطه، وعمل أبن أبي حجلة مقامته المشهورة.
وفي هذه السنة أراد السراج الهندي قاضي الحنفية أن يساوي قاضي الشافعية في لبس الطرحة وتولية القضاة في البلاد، وتقرير مودع الأيتام، فأجيب إلى ذلك؛ فاتفق أنه توعك عقب ذلك، وطال مرضه إلى أن مات ولم يتم الذي أراده.
وفي سنة أربع وسبعين وقعت صاعقة على القلعة، فأحرقت منها شيئاً كثيرا، واستمر الحريق أياما، وفي هذه السنة عقد الجائي مجلساً بالعلماء في إقامة خطبة بالمنصورية، فأفتاه البلقيني وأبن الصائغ بالجواز، وخالف الباقون، وصنف البلقيني كتابا في الجواز، وصنف العراقي كتابا في المنع، وجمع أيضا القاضي برهان الدين بن جماعة جزءا في المنع. (1/317)
وفي سنة خمس وسبعين، توقف النيل عن الزيادة، وأبطأ إلى أن دخل توت، واجتمع العلماء والصلحاء بجامع عمرو، واستسقوا، وكسر الخليج تاسع توت عن نقص أربعة أصابع من العادة، ثم نودي بصيام ثلاثة أيام، وخرجوا إلى الصحراء مشاة، وحضر غالب الأعيان ومعظم العوام وصبيان المكاتب، ونصب المنبر، فخطب عليه شهاب الدين القسطلاني خطيب جامع عمرو، وصلى صلاة الاستسقاء، ودعا وابتهل، وكشف رأسه واستغاث وتضرعوا، وكان يوما مشهودا، وابتدأ الغلاء وزادت الأسعار.
وفي هذه السنة في أول جمادى الأولى حدثت زلزلة لطيفة، فيها ابتدئت قراءة البخاري في رمضان بالقلعة بحضرة السلطان، ورتب الحافظ زين الدين العراقي قارئاً، ثم اشترك معه شهاب الدين العرياني يوما بيوم، وأمر السلطان مشايخ العلم أن يحضروا عنده سامعين ليتباحثوا، فحضر جماعة من الأكابر.
وفيها أبطل ضمان المغاني ومكس القراريط التي كانت في ربيع الدور، وقرئ بذلك مرسوم على المنابر، وكان ذلك بتحريك البلقيني، وأعانه أكمل الدين والبرهان أبن جماعة.
وفي سنة ست وسبعين وقع الفناء بالديار المصرية، وبيع كل رمانة بستة عشر درهما وهي قريب من دينار، وكل فروج بخمسة وأربعين، وكل بطيخة بسبعين.
وفي هذه السنة أحضر والي الأشمونين إلى الأمير منجك بنتا عمرها خمس عشرة سنة، فذكر إنها لم تزل بنتاً إلى هذه الغاية، فاستد الفرج وظهر لها ذكر وأنثيان، واحتلمت، فشاهدوها وسموها محمدا، ولهذه القضية نظير، ذكرها أبن كثير في تاريخه.
قال الحافظ أبن حجر: ووقع في عصرنا نظير ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.
وفي سنة سبع وسبعين وصلت هدايا إسطنبول من الروم، وفي جملة الهدايا صندوق فيه شخوص له حركات، كلما مضى ساعة من الليل ضربت تلك الشخوص بأنواع الملاهي، وكلما مضت درجة سقطت بندقة.
وفي سنة ثمان وسبعين، في شعبان، خسف الشمس والقمر جميعا، فطلع القمر خاسفاً ليلة السبت رابع عشرة، وكسفت الشمس بين الظهر والعصر يوم السبت ثامن عشرينه.
وفي سنة ثمانين كان بمصر حريق عظيم ودام أياما. وفي هذه السنة، في ذي القعدة عقد برقوق أتابك العساكر مجلساً بالقضاة والعلماء. وذكر أن أراضي بيت المال أخذت منه بالحيلة، وجعلت أوقافا من بعد الناصر بن قلاوون، وضاق بيت المال بسبب ذلك، فقال الشيخ سراج الدين البلقيني: أما ما وقف على خديجة وعويشة وفطيم فنعم، وأما ما وقف على المدارس والعلماء والطلبة فلا سبيل إلى نقضه، لأن لهم في الخمس أكثر من ذلك. فانفصل الأمر على مقالة البلقيني.
وفي هذه السنة ظهر كوكب له ذؤابة، وبقي مدة يرى في أول النهار من ناحية الشمال.
وفي هذه السنة أمر بتبطيل الوكلاء من دور القضاة.
وفي سنة إحدى وثمانين رسم الأمير بركة بنفي الكلاب من مصر، ورسم بأن يعمل على قنطرة فم الغور سلسلة تمنع المراكب من الدخول وإلى بركة الرطلي، فقال بعض الشعراء في ذلك:
أطلقت دمعي على خليج ... مذ سلسلوه فراح مقفل
من رام من دهرنا عجيباً ... فلينظر المطلق المسلسل
وفي ربيع الآخر من هذه السنة أحدث السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عقب أذان العشاء ليلة الاثنين مضافا إلى ليلة الجمعة، ثم أحدث بعد عشر سنين عقب كل أذان إلا المغرب.
وفي سنة ثلاث وثمانين أبتدأ الطاعون بالقاهرة. وفيها أمطرت السماء مطراً عظيماً، حتى صار باب زويلة خوضاً إلى بطون الخيل، وخرج سيل عظيم إلى جهة طرى، فغرق زرعها، وأقام الماء أياما، ولم يعهد الناس ذلك بالقاهرة. وفيها ظهر نجم له ذؤابة قد رمحين من جهة القبلة.
وفي سنة أربع وثمانين وقع الغلاء بمصر. وفيها شرع جركس الخليلي في عمل جسر بين الروضة ومصر، وطوله مائتا قصبة في عرض عشرة عند موردة الحبش، وعمل على النيل طاحونا تدور الماء.
وفي هذه السنة قال الحافظ أبن حجر: توجه الظاهر برقوق إلى بولاق التكرور، فاجتاز من الصليبة وقناطر السباع وفم الخور. قال: وكانت عادة السلاطين قبله من زمن الناصر لا يظهرون إلا في الأحيان، ولا يركبون إلا من طريق الجزيرة الوسطى. (1/318)
قال: ثم تكرر
وفي سنة عشرين ولدت جاموسة ببلبيس مولودا برأسين وعنقين وأربعة أيد وسلسلتي ظهر واحد ورجلين اثنتين لا غير، وفرج واحد أنثى، والذنب مفروق باثنتين، فكانت من بديع صنع الله. (1/319)
وفي هذه السنة امسك نصراني زنا بامرأة مسلمة، فاعترفا، فحكم برجمهما، فرجما خارج باب الشعرية واحرق النصراني ودفنت المرأة.
وفي سنة اثنتين وعشرين فشا الطاعون بالديار المصرية.
وفي سنة خمس وعشرين زلزلة القاهرة زلزلة لطيفة.
وفي سنة سبع وعشرين جدد للمشايخ الذين يحضرون سماع الحديث بالقلعة فراجي سنجاب، وهو أول ما فعل بهم ذلك.
وفي سنة ثمان وعشرين وقع بدمياط حريق عظيم حتى احترق قدر ثلثها، وهلك من الدواب والناس شيء كثير.
وفي سنة ثلاث وثلاثين كان الطاعون العظيم بالديار المصرية.
وفي سنة إحدى وأربعين كان الطاعون بالديار المصرية.
ذكر الطريق المسلوك من مصر إلى مكة
شرفها الله تعالى
قال ابن فضل الله: المحامل السلطاني وجماهير الركبان لا تخرج إلا من أربع جهات؛ مصر، ودمشق، وبغداد، وتعز.
قال: فيخرج الركب من مصر بالمحمل السلطاني والسبيل المسبل للفقراء والضعفاء والمنقطعين بالماء والزاد والاشربة والأدوية والعقاقير والأدباء والكحالين والمجبرين والإدلاء والائمة والمؤذنين والأمراء والجند والقاضي والشهود والدواوين والأمناء ومغسل الموتى؛ في أكمل زي، وأتم أهبة، وإذا نزلوا منزلا أو رحلوا مرحلا تدق الكوسات، وينفر النفير ليؤذن الناس بالرحيل والنزول، فإذا خرج الراكب من القاهرة نزل البركة على مرحلة واحدة، فيقيم بها ثلاثة أيام أو أربعة، ثم يرحل إلى السويس في خمس مراحل، ثم إلى نخل في خمس مراحل. وقد عمل فيها الأمير آل ملك الجوكندار المنصوري أحد أمراء المشورة في الدولة الناصرية بن قلاوون بركا، واتخذ لها مصانع، ثم يرحل إلى أيلة في خمس مراحل وبها العقبة العظمى، فينزل منها إلى حجز بحر القلزم، ويمشي على حجزه حتى يقطعه من الجانب الشمالي إلى الجانب الجنوبي، ويقيم به أربعة أيام أو خمسة، وبه سوق عظيم فيه أنواع المتاجر، ثم يرحل إلى حفل مرحلة واحدة، ثم إلى بر مدين في أربع مراحل وبه مغارة شعيب عليه الصلاة والسلام، ويقال أن ماءها هو الذي سقى عليه موسى عليه الصلاة والسلام غنم بنات شعيب، ثم يرحل إلى عيون القصب في مرحلتين، ثم إلى المويلحة في ثلاث مراحل، ثم إلى الأزلم في أربع مراحل. وماؤه من اقبح المياه، وهناك خان بناه الأمير آل ملك الجوكندار،وعمل هناك بئرا أيضا، ثم إلى الوجه في خمس مراحل، وماؤه من أعذب المياه، ثم إلى أكرى في مرحلتين وماؤه اصعب ماء في هذه الطريق، ثم إلى الحوراء، وهي على ساحل بحر القلزم في أربع مراحل، وماؤها شبيه بماء البحر لا يكاد يشرب، ثم إلى نبط في مرحلتين وماؤه عذب، ثم إلى ينبع في خمس مراحل ويقيم عليه ثلاثة أيام، ثم إلى الدهناء في مرحلة، ثم إلى بدر في ثلاث مراحل، وهي مدينة حجازية وبها عيون وجداول وحدائق، وبها الجار فرضة المدينة الشريفة، ثم يرحل إلى رابغ في خمس مراحل، وهي بازاء الجحفة التي هي الميقات، ثم يرحل إلى خليص في ثلاث مراحل، وبها بركة عملها الأمير أرغون الناصري، ثم إلى بطن مر في ثلاث مراحل، وفي طريقه بئر عسفان، ثم يرحل من بطن مر إلى مكة المشرفة مرحلة واحدة.
ثم يرجع في منازله إلى بدر، فيعطف إلى المدينة الشريفة، فيرحل إلى الصفراء في مرحلة، ثم إلى ذي الحذيفة في ثلاث مراحل، ثم إلى المدينة الشريفة في مرحلة، ثم يرجع إلى الصفراء ويأخذ بين جبلين في فجوة تعرف بنقب علي؛ حتى يأتي الينبع في ثلاث مراحل، ثم يستقيم على طريقه إلى مصر.
ذكر قدوم المبشر سابقا يخبر بسلامة الحاج
كان ذلك في عهد الخلفاء الراشدين: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فمن بعدهم، وله حكمة لطيفة قل من يعرفها، قال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه في قصة حصر عثمان رضي الله عنه؛ واستمر الحصار بالديار المصرية حتى مضت أيام التشريق، ورجع البشير من الحج، فاخبر بسلامة الناس، واخبر أولئك بان أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوهم عن أمير المؤمنين. وأخرج مالك في الموطأ عن ابن دلان عن أبيه أن رجلا من جهينة كان يشتري الرواحل فيتغالى بها، ثم يسرع السفر فيسبق الحاج فأفلس، فرفع أمره إلى عمر، فقال: أما بعد أيها الناس، أن الأسيقع أسيقع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال؛ سبق الحاج، ألا وانه أدان معرضا، فأصبح وقد دين به فهمد، فمن كان له عليه دين فليأتيه بالغداة. فقسم ماله بين غرمائه، ثم كمل الدين. (1/320)
واخرج الخطيب البغدادي في تالي التلخيص من طريق عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: تخرج الدابة من جبل الجياد في أيام التشريق والناس بمنى، قال: فلذلك جاء سابق الحاج يخبر بسلامة الناس.
ذكر حمائم الرسائل
قال ابن كثير في تاريخه: في سنة سبع وستين وخمسمائة أتخذ السلطان نور الدين الشهيد الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته، واتساعها ، فإنها من حد النوبة إلى همذان، فلذلك اتخذ قلعة، وحبس الحمام التي تسري الآفاق في أسرع مدة، وايسر عدة، وما احسن ما قال فيهن القاضي الفاضل: الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب في ذلك العماد الكاتب وأظرف وأطرب، واعجب واغرب.
وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدا، حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر إنه من ولد الطير الفلاني. وقيل إنه بيع بألف دينار.
وقد ألف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في أمور هذه الحمام كتابا سماه " تمام الحمائم " ، وذكر فيه فصلا فيما ينبغي أن يفعله المنطق وما جرت العادة به في ذلك فقال: كان الجاري به العادة أنها لا تحمل البطاقة إلا في جناحها، لأمور منها، حفظها من المطر ولقوة الجناح؛ والواجب أنه إذا انطلق من مصر لا يطلق إلا من أمكنة معلومة، فإذا سرحت إلى الإسكندرية، فلا تسرح إلا من منية عقبة بالجيزة، وإلى الشرقية، فمن مسجد التين ظاهر القاهرة، وغلى دمياط فمن بيسوس بشط بحر منجي. والذي استقرت قواعد الملك عليه، أن طائر البطاقة لا يلهو الملك عنه ولا يغفل، ولا يمهل لحظة واحدة، فتفوت مهمات لا تستدرك، إما من واصل وإما من هارب، وإما من متجدد في الثغور.
ولا يضع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة أحد؛ فإن كان يأكل لا يمهل حتى يفرغ، وإن كان نائما لا يمهل حتى يستيقظ بل ينبه. وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك.
قال: ورأيت الأوائل لا يكتبون في أوائلها بسملة.
قال: وأنا ما كتبتها قط إلا ببسملة للبركة، وتؤرخ بالساعة واليوم، لا بالسنين؛ وينبغي ألا يكثر في نعوت المخاطب فيها، ولا يذكر في البطائق حشو الألفاظ، ولا يكتب إلا لب الكلام وزبدته. ولابد أن يكتب شرح الطائر ورفيقه إن كانا طائرين قد سرحا حتى إن تأخر الطائر الواحد رقب حضوره، أو يطلق لئلا يكون قد وقع في برج من أبراج المدينة ولا يعمل للبطائق هامش ولا يحمدى، وجرت العادة بان يكتب في آخرها: " وحسبنا الله ونعم الوكيل " ، وذلك حفظ لها.
ومن فصل في وصفها لتاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب الإنشاء: طالما جادت بها فأوضحت مخلفة وراءها تبكي عليه السحب، وصدق من سماها أنبياء للطير لأنها مرسلة بالكتب.
وفيها يقول أبو محمد أحمد بن علوي بن أبي عقبال القيرواني:
خضر تفوت الريح في طيرانها ... يا بعد بين غدوها ورواحها
تأتي بأخبار الغدو عشية ... لمسير شهر ريش جناحها
وكأنما الروح الأمين بوحيه ... نفث الهداية منه في أرواحها
وقال غيره:
يا حبذا الطائر الميمون يطرقنا ... في الأمر بالطائر الميمون تنبيها
فاقت على الهدهد المذكور إذ حملت ... كتب الملوك وصانتها أعاليها
تلقى بكل كتاب نحو صاحبه ... تصون نظرته صوناً وتخفيها
فما تمكن عين الشمس تنظره ... ولا تجوز ان تلقيه من فيها
منسوبة لرسالات الملوك فبالمنسوب تسمو ويدعوها تسميها (1/321)
اكرم بجيش سعيد ما سعادته ... مما يشكيك فيها فكر حاكيها
حما حمى الغار يوم الغار حرمته ... فيالها وقعة عزت مساعيها!
وقوفه عند ذاك الباب شرفه ... وللسعادة أوقات تؤاتيها
ويوم فتح رسول الله مكته ... عند الدخول إليها من بواديها
صفت تظلل من شمس كتيبته ال؟ ... خضر أمطره فيها تواليها
فظللته بما كانت تود هوى ... لو قابلتها بأشواق فتنهيا
فعندما حظيت بالقرب أمنها ... فشرفت بعطايا جل مهديها
فما يحل لدى صيد تناولها ... ولا ينال المنى بالنار مصليها
ولا تطير بأوراق الفرنج ولا ... يسير عنها بما فيه امانيها
سمت بملك المعاني غير ذي دنس ... لا ترضيهم، ولو جزت نواصيها
وانظر لها كيف تأتي للخلائق من ... آل رسول بحب كامن فيها
من المقام إلى دار السلام فلم ... يمض النهار بعزم في دواعيها
وربما ضل عنه الهند ملتقطاً ... حبات فلفله وارتد مبطيها
فجاء في يومه في إثر سابقه ... حفظاً لحق يد طابت أياديها
مناقب لرسول الله أيسرها ... لدى نبوته الغراء تكفيها
ومن إنشاء القاضي الفاضل في وصف حمائم الرسائل: سرحت لا تزال أجنحتها محملة من البطائق أجنحة، وتجهز جيوش المقاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر، وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر، وتزوى لها الأرض حتى يرى ملك هذه الأمة، وتقرب من السماء حتى ترى مالا يبلغه وهم ولا همة، وتكون مراكب للأغراض وكانت والأجنحة قلوعاً، وتركب الجو بحر تصفق فيه هبوب الرياح موجاً مرفوعاً، وتعلق الحاجات على اعجازها، ولا تفوق الإرادات عن إنجازها، ومن بلاغات البطائق استفادت ما هي مشهورة به من السجع، ومن رياض كتبها الفت الرياض فهي إليها دائمة الرجع. وقد سكنت البروج فهي أنجم، واعدت في كنائنها فهي للحاجات أسهم، وكادت تكون ملائكة لأنها رسل فإذا نيطت بالرقاع، صارت أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقد باعد الله بين أسفارها وقربها، وجعلها طيف خيال اليقظة الذي صدق العين وما كذبها، وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقا، فأذنابها أوراقا، وصارت خوافي من وراء الخوافي، وغطت سرها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافي، ترغم النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون تلاحظتها تلاحظ انجم السعود؛ وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتي به من الأنباء، وخطباؤها لأنها تقوم على الأغصان مقام الخطباء.
وقال في وصفها شيخ الكتاب ذو البلاغتين السديد أبو القاسم شيخ القاضي الفاضل: وأما حمام الرسائل؛ فهي من آيات الله المستنطقة الألسن بالتسبيح، العاجز عن وصفها إعجاز البليغ الفصيح، فيما تحمله من البطائق، وترد به مسرعة من الأخبار الواضحة الحقائق، وتعاليه في الجو محلقا عند مطاره، وتهديه على الطريق التي عليها ليأمن من فوت الإدراك وأخطاره، ونظره إلى المقصد الذي يسرح غليه من علي، ووصلوله إلى أقرب الساعات بما يصل به البريد في أبعد الأيام من الخبر الجلي، ومجيئه معادلاً لرءوس السفار مسامتا، وإيثاره بالمتجددات فكأنه ناطق وإن كان صامتا، وكونه يمضي محمولا على ظهر المركوب، ويرجع عاملا على ظهره للمكتوب، ولا يعرج على تذكار الهدير، ولا يسام من الداب في الخدمة زائدا على التقدير، وفي تقدمه البشائر، يكون المعنى بقولهم: أيمن طائر؛ ولا غرو أن فارق رسل أهل الأرض وفاتهم وهو مرسل والعنان عنانه، والجو ميدانه، والجناح مركبه، والرياح موكبه، وابتداء الغاية شوطه، والشوق إلى أهله سوطه؛ مع أمنه ما يحدث لمنتاب السفار، ومخبآت القفار، من مخاوف الطوارق وطوارق المخاوف، ومتلف الغوائل وغوائل المتآلف، إلا ما يشد من اعتراض خارج جارح، وانقضاض كاسب كاسر، فتكف سعادة الدولة تأمينه، وتصد عنه تصميمه، لأنه أخذ جيشها من الطيرين اللذين يحدثان في أعدائها؛ هذا بالإنذار الجاعل كيدهم في تضليل، وذلك بما ترى رأيتها المنصورة عليهم من تضليل.
وقال القاضي محيي الدين بن الظاهر رحمه اللع تعالى:
ولما وقفت على ما أنشأه القاضي الفاضل، على ما أنشأه الشيخ السديد أردت ان أجرب الخاطر، فانشات وانا غير مخاطب أحداً بل مخاطر، واين الثرى من الثريا، وما الحسن لكل أحد يتهيا، وعلى أن أجيب وما على أن أجيد، وما كل والد يدرك شأو الوليد، ولا كل كاتب عبد الرحيم ولا عبد الحميد، فقلت: وأما حمائم الرسائل فكم اغنت البرد عن جوب القفار، وكم قدت جيوبها على أسرى أسرار؛ وكم أعارت السهام اجنحة فاحسنت بتلك العارية المطار، وكم قال جناحها لطالب النجاح: لا جناح، وكم سرت فحمدت المساء إذا حمد غيرها من السارين الصباح، وكم ساوقت الصبا والجنائب فقاقتهما ولم يحوج سلام المشتاقين إلى امتطاء كاهل الرياح. (1/322)
كم حسن ملك كل منهما ملك، وكم قال مسرحها لمجيئه بها: قرة عين لي ولك، كم أجملت في الهوى تقلبا، وإذا غنت الحمائم على الغصون صمتت عن الهديل والهدير تادبا، كم دفعت شكا بيقينها، ورفعت شكوى بتبيينها، وكم اردت امانة ولم تعلم أجنحتها بما في شمالها ولا شمالها بما في يمينها. كم التفت منها الساق بالساق، فأحسنت لربها المساق، وكم أخذت عهود الأمانة فبدت اطواقا في الاعناق، ويقال ما تضمنته من البطائق بعض ما تعلق منها في الرياض من الأوراق، تسبق اللمح، وكم استفتح بها بشير إذا جاء بالفتح، تفوت الطرف السابق، والطرف الرامي الرامق، وما تلت سورة البروج إلا وتلت سورة الطارق. كم أنسى مطارها عدو السلكة والسليك، وكم غنيت في خدمة سلطانها عن الغناء وقال كل منهما لرفيقه: إليك عن الأيك.
ما أحوج تصديقهما في رسالتهما إلى الأعزاز بثالث، وكم قيل في كل منهما لمن سام هذا حام في خدمة أبناء يافث، كم سرحا بإحسان، وكم طارا بأفق فاستحق أن يقال لهما: فرسا سحاب إذا قيل لأحدهما فرسا رهان، حاملة علم لمن هو اعلم به منها، يغني السفار والسفارة فلا تحوجهم إلى الإستغناء عنها.
تغدو وتروح، وبالسر لا تبوح، فكم غنيت باجتماعها بإلفها عن أنها تنوح. كم سارت تحت أمر سلطانها أحسن السير، وكم أفهمت أن ملك سليمان إذ سخر له منها في مهماته الطير، أسرع من السهام المفوقة، وكم من البطائق مخلقة وغير مخلقة، كم ضللت من كيد، وكم بدت في مقصورة دونها مقصورة ابن دريد.
ومن إنشاء الاديب تقي الدين أبو بكر بن حجة في ذلك: سرح فما سرح العيون إلا دون رسالته المقبولة، وطلب السبق فلم يرض بعرف البرق سرحا ولا استظل صفحته المصقولة؛ وكم جرى دونه النسيم فقصر وأمست أذياله بعرف السحب مبلولة. وأرسل فأقر الناس برسالته وكتابه المصدق، وانقطع كوكب الصبح خلفه فقال عند التقصير: كتب يجاب وعلى يدي يخلق، يؤدي ما جاء على يده من الترسل فييهج الأشواق، وما برحت الحمام تحسن الأداء في الاوراق، وصحبناه على الهدى فقال: )ما ضل صاحبكم وما غوى(، ومن روى عنه الحديث المسند فعن عطرمة قد روى، يطير مع الهوى لفرط صلاحه، ولم يبق على السر المصون جناح إذا دخل تحت جناحه؛ إن برز من مقفصه لم يبق للصرح الممرد قيمة، بل ينعزل بتدبيج أطواقه ويعلق عليه من العين تلك التميمة، ما سجن إلا صبر على السجن وضيقة الأطواق، ولهذا حمدت عاقبته على الإطلاق، ولا غنى على عود إلا أسال دموع الندى من حدائق الرياض، ولا أطلق من كبد الجو إلا كان سهما مريشا تبلغ به الأغراض. كم علا فصاد بريش القوادم كالأهداب لعين الشمس، وأمسى عند الهبوط لعيون الهلال كالطمس؛ فهو الطائر الميمون والغاية السباقة، والأمين الذي إذا أودع أسرار الملوك حملها بطاقة؛ فهو من الطيور التي خلالها الجو فنقرت ما شاءت من حبات النجوم، والعجماء التي من أخذ عنها شرح المعلقات فقد أعرب من دقائق المفهوم، والمقدمة والنتيجة للكتاب الحجلي في منطق الطير، وهي من حملة الكتاب الذي إذا وصل القارئ منه إلى الفتح يتهلل لحبه الخير؛ إن يصدر البازي بغير علم فكم جمعت بين طرفي كتاب، وغن سألت العقبان على بديع السجع أحجمت عن رد الجواب.
رعت النسور بقوة جيف الفلا ... ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف
ما قدمت إلا وأرتنا من شمائلها اللطيفة نعم القادمة، وأظهرت لنا من خوافيها ما كانت له خير كاتمة. كم أهدت من مخلبها وهي غادية رائحة، وكم حنت إليها الجوارح وهي أدام الله إطلاقها عز جارحة، وكم أدارت من كؤوس السجع ما هو أرق من قهوة الغنشا، وأبهج على زهر المنثور من صبح الأعشى. وكم عامت بحور الفضاء ولم تحفل بموج الجبال، وكم جاءت ببشارة وخضبت الكف من تلك الأنملة قلامة الهلا، وكم زاحمت النجوم بالمناكب حتى ظفرت بكل كف خضيب، وانحدرت كأنها دمعة سقطت على خد الشقيق لأمر مريب، وكم لمع في أصيل الشمس خضاب كفها الوضاح، فصارت بسموها وفرط البهجة كمشكاة مصباح. والله تعالى يديم بأفنان أبوابه العالية الحان السواجع، ولا برح تغريدها بين البادئ والراجع. (1/323)
ذكر عادة المملكة في الخلع والزي
قال ابن فضل الله: وأما القضاة والعلماء فخلعهم من الصوف بغير طراز، فلهم الطرحة، وأصل الصوف أن يكون أبيض وتحته أخضر.
وأما زي القضاة والعلماء فدلق متسع بغير تفريق، فتحته على كتفه، وشاش كبير منه ذؤابة بين الكتفين، ويميلها إلى الكتف الأيسر.
وأما من دون هؤلاء فالفرجية الطويلة الكم بغير تفريج، وأما زاهدهم فيقصر الذؤابة ويميلها إلى الكتف الأيسر. ومنهم من يلبس الطيلسان.
وأما قاضي القضاة الشافعي رضي الله تعالى عنه، فرسمه الطرحة، وبها يمتاز ومراكبهم البغال، ويعمل بدلا من الكنبوش الزناري، وهو من الجوخ بالعباء المجوفة الصدر مستدير من وراء الكفل.
وألبسه الخطباء دلق مدور أسود للشعار العباسي، وشاش أسود وطرحة سوداء.
وأما زي الأمراء والجند، فتقدم عند ذكر السلطان.
وأما خلعهم وخلع الوزراء ونحوهم فأسقطتها من كلام ابن فضل الله لأنها ما بين حرير وذهب؛ وذلك محرم شرعا، وقد التزمت ألا أذكر في هذا الكتاب شيئاً أسال عنه في الآخرة، إن شاء الله تعالى.
ذكر عادة السلطان في الكتابة على التقاليد
قال ابن فضل الله: عادته إذا كتب لأحد من النواب يكتب اسمه فقط، فإن كان من كبارهم، وهو من ذوي السيوف، كتب " والده فلان " ، وإن كان من القضاة والعلماء كتب: " أخوه فلان " .
ذكر معاملة مصر
قال ابن فضل الله في المسالك: معاملة مصر الدراهم، ثلثاها فضة وثلثها نحاس، والدرهم ثماني عشرة حبة خرنوبة، والخرنوبة ثلاث قمحاة، والمثقال أربعة وعشرون خرنوبة، والدرهم منها قيمته ثمانية وأربعون فلسا، والدينار الحبشي ثلاثة عشر درهما وثلث درهم. وأما الكيل فيختلف بمصر: الإردب، وهو ست ويبات، الويبة أربعة أرباع، الربع أربعة أقداح، القدح مائتان واثنان وثلاثون درهما؛ هذا إردب مصر، وفي أريافها يختلف الإردب من هذا المقدار إلى أنهى ما ينتهي ثلاث ويبات. والرطل أثنى عشر أوقية، والأوقية أثنى عشر درهما.
قال صاحب المرآة: في سنة خمس وسبعين من الهجرة ضرب عبد الملك بن مروان على الدنانير والدرهم اسم الله تعالى، قال الهيثم: وسببه أنه وجد دراهم ودنانير تاريخها قبل الإسلام بأربعمائة سنة، عليها مكتوب " باسم الأب والابن وروح القدس " ، فسبكها ونقش عليها اسم الله تعالى وآيات من القرآن واسم الرسول صلى الله عليه وسلم. واختلف في صورة ما كتب ، فقيل جعل في وجهه: " لا إله إلا الله " وفي الآخر " محمد رسول الله " وأرخ وقت ضربها. وقيل جعل في وجه " قل هو الله أحد " وفي الآخر " محمد رسول الله " .
وقال القضاعي: كتب على أحد الوجهين " الله أحد من غير قل " ، ولما وصلت إلى العراق أمر الحجاج فزيد فيها في الجانب الذي فيه محمد رسول الله في جوانب الدرهم مستديرا: " أرسله بالهدى ودين الحق . . . " الآية. واستمر نقشها كذلك إلى زمن الرشيد، فأراد تغييرها فقيل له: هذا أمر قد استقر وألفه الناس، فأبقاها على ما هي عليه اليوم، ونقش عليها اسمه.
وقيل: أول من غير نقشها المنضور، وكتب عليها اسمه.
وأما الوزن فما تعرض أحد لتغييره. انتهى كلام صاحب المرآة.
ذكر كوكب الذنب
قال صاحب المرآة: إن أهل النجوم يذكرون أن كوكب الذنب طلع في وقت قتل قابيل، هابيل، وفي وقت الطوفان، وفي وقت نار إبراهيم الخليل، وعند هلاك قوم هاد وثمود وقوم صالح، وعند ظهور موسى وهلاك فرعون، وفي غزوة بدر، وعند قتل عثمان وعلي، وعند قتل جماعة من الخلفاء، منهم الرضى والمعتز والمهتدي والمقتدر.
قال: وأدنى الأحداث عند ظهور هذا الكوكب الزلازل والأهوال. (1/324)
قلت: يدل لذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه من طريق ابن أبي مليكه، قال: غدوت على ابن عباس، فقال: ما نمت البارحة! قلت: لم؟ قالوا: طاح الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدجال قد طرق.
ذكر بقية لطائف مصر
قال الكندي: ذكر يحيى بن عثمان، عن أحمد بن الكريم، قال: جلت للدنيا، ورأيت آثار الأنبياء والملوك والحكماء، ورأيت آثار سليمان بن داود عليهما السلام ببيت المقدس، وتدمر والأردن، وما بنته الشياطين، فلم أر مثل برابي مصر ولا مثل حكمتها، ولا مثل الآثار التي بها، والأبنية التي لملوكها وحكمائها. ومصر ثمانون كورة، ليس منها كورة إلا وفيها ظرائف وعجائب من أصناف الأبنية والطعام والشراب والفاكهة والنبات وجميع ما ينتفع به الناس، ويدخره الملوك، وصعيدها أرض حجازية، حرها كحر الحجاز، تنبت النخل والأراك والقرظ والدوم والعشر، واسفل أراضي مصر شامية تمطر مطر الشام، وتنبت نبات الشام من الكرم والتين واللوز وسائر الفاكهة، والبقول والرياحين. ويقع به الثلج، ومنها لوبية ومراقية برابي وجبال وغياض، وزيتون وكروم برية بحرية جبلية، بلاد أبل وماشية، ونتاج وعسل ولبن. وكل كورة من مصر مدينة، قال تعالى: )وابعث في المدائن حشارين(، وفي كل مدينة منها آثار عجيبة من الأبنية والصخور والرخام والبرابي، وتلك المدن كلها تأتي منها السفن، تحمل المتاع والآلة إلى الفسطاط، تحمل السفينة الواحدة ما تحمله خمسمائة بعير.
قال الكندي: وليس في الدنيا بلد يأكل أهله صيد البحر طرياً غير أهل مصر.
قال: وذكر بعض أهل العلم انه ليس في الدنيا شجرة إلا وهي بمصر، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
ويوجد بمصر في كل وقت من الزمان من المأكول والمأدوم والمشموم وسائر البقول والخضر؛ جميع ذلك في الصيف والشتاء، لا ينقطع منها شيء لبرد ولا حر.
وذكر أن بخت نصر قال لابنه بلسطان: ما أسكنتك مصر غلا لهذه الخصال. وبلسطان هو الذي بنى قصر الشمع.
وقال بعض من سكن مصر: لولا ماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، ووردة برمودة، ونبق بشنس، وتين بؤونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ورطب توت، ورمان بابة، وموز هاتور، وسمك كيهك، ما أقمت بمصر.
واخرج ابن عساكر من طريق الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي رضى الله عنه يقول: ثلاثة أشياء، دواء للداء الذي لا دواء له، الذي أعيا الأطباء أن يداووه: العنب، ولبن اللقاح، وقصب السكر، ولولا قصب السكر ما أقمت بمصر.
وقال بعضهم: يجتمع بمصر في وقت واحد ما لا يجتمع بمدينة؛ وذلك البنفسج والورد والسوسن والمنثور والنرجس وشقائق النعمان والبهار والياسمين والنسرين واللينوفر والنمام والمرز نجووش والريحان والنارنج والليمون والتفاح الشامي والاترج والباقلي الأخضر والعنب والتين والموز واللوز الأخضر والسفرجل والكمثري والرمان والنبق والقثاء والخيار والطلع والبلح والبسر الرطب واللفت والقنبيط والاسفاناخ والقرع والجزر والباذنجان؛ كل ذلك يجتمع في وقت واحد من السنة.
وقال بعض من صنف في فضاء المصر: بمصر الحمير المريسية، والبقر الحسينية، والنجب النجارية، والأغنام النوبية، والدجاج الحبشية، والمراكب الحربية، والسفن الزيبقية، والمناسف الحملية، والستور البهنساوية، والغلائل القصبية، والحرم السمطاوية، والنعال السندية، والسلال الوهبانية، والمضارب السلطانية. ويحمل إلى العراق وغيرها من مصر زيت الفجل والعسل النحل، ويفخر به على أعسال الدنيا.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم بارك فيه لما أهداه إليه المقوقس.
وبمصر يزرع البلسان، ودهنه يستعمل في أكثر العلاج، والنفط وهو من آلة الحرب التي بها قهر الأعداء، ودهن الخروع وزيت البزر والدهن الصيني، وزيت الخردل وزيت الخس، ودهن القرطم، وزيت السلجم، وخشب اللبخ، وهو أصلح من الأبنوس اليوناني.
وفي صعيد مصر خشب الأبنوس الأبلق وسائر العقاقير التي تدخل في الطب والعلاج. وكل ما زرع في أرض مصر ينبت.
وفيها من نبات الهند والسند مثل الأهليلج والخيار شنبر والتمر هندي وغيره مما لا يوجد في بلد من البلدان الإسلامية.
وبها الشب الواحي؛ وهو ابلغ من اليماني، والأفيون والشاهترج والصفر والزجاج والجزع الملون والصوان؛ وهو حجر لا يعمل فيه الحديد؛ وكانت الأوائل تعمده وتقطعه بأسوان؛ ومنه العمد الجافية، التي لا تكون بسائر الدنيا، وكل حمامات مصر بالرخام لكثرته عندهم، وكذلك صحون دورهم. (1/325)
وبها الحجارة المسماة بالكذان؛ يبلط بها الدور ويعقد بها الدرج.
وبها من الحصر العبداني، ومن سائر أصناف الحصر ما لا يوجد في غيرها، ويجلب من مصر البز الأبيض من الديبقي وغيره الذي يعمل بدمياط وتنيس. وبالإسكندرية يعمل الوشى الذي يقوم مقام وشى الكوفة.
وبالصعيد يعمل من الجلود الأنطاع، وبالبهنسى الستور التي هي أحسن ستور الأرض والبسط وأجلة الدواب والبراقع وستور النسوان في المضارب والأكسية والطيالسة.
وكان يعمل بأخميم الفرش التي تسمى نطوع الخز.
وبمصر من أصناف الرقيق ما ليس ببلد من البلدان، وأصناف الطير الحسن الصوت في صعيدها مثل القمري والنوبي والنواح والدبسي الأحمر والأبلق، والكروان الذي ليس مثله في بلد.
ومنها يحمل الطير إلى البلدان في الشرق والغرب، والأشماع المتخذة من الشهد وعسل الأسقطروس والنيدة المعمولة من القمح والقند والاباليج والطيرزد، وماء طوبة الذي لا يعد له شيء، ولا يتغير على ممر الايام، والسمك الذي هو ملك الأسماك، والبوري الطري والمملوح، والبلاطي الذي كأنه دروع من الفضة، وطير الماء، وطير الحوصل يعمل من جلده الخفاف الناعمة والفراء الأبيض الذي يقوم مقام الفنك في لينه ورقته. وبها الكتان، ومنها يحمل إلى سائر الأرض، والقراطيس، وبها من العلم القديم ما ليس ببلد، كعلم الطب اليوناني والمساحة، والنجوم والحساب القبطي واللحون والشعر الرومي.
وفيها من سائر الثمار والأشجار والمشمومات والعقاقير والنبات والحشائش ما لا يحصى. والعصفور يفرخ بمصر في كانون، وليس ذلك في بلد إلا بها.
وقال الكندي: بمصر معدن الزمرد، وليس في الدنيا زمرد إلا معدن بمصر، ومنها يحمل إلى سائر الدنيا.
قال: وبها معدن الذهب، يفوق على كل معدن.
قال: وفيها القراطيس، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
وقال غيره: من خصائص مصر القراطيس، وهي الطواسير، وهي أحسن ما كتب فيه، وهو من حشيش أرض مصر، ويعمل طوله ثلاثون ذرعا واكثر في عرض شبر. وقيل إن يوسف عليه السلام أول من اتخذ القراطيس، وكتب فيها.
قال الكندي، وبها من الطرز والقصب التنيسي والشرب والدبيقي ما ليس بغيرها، وبها الثياب الصوف والأكسية المرعز، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
ويحكى أن معاوية لما كبر كان لا يدفأ، فاتفقوا أنه لا يدفئه إلا أكسية تعمل في مصر، من صوفها المرعز العسلي غير مصبوغ، فعمل له منها عدد، فما احتاج منها إلا إلى واحد. وبها طراز البهنسا من الستور والمضارب ما يفوق ستور الأرض.
وبها من النتاج العجيب من الخيل والبغال والحمير ما يفوق نتاج أهل الدنيا، وليس في الدنيا فرس في نهاية الصورة في العنق غير الفرس المصري، وليس في الدنيا فرس لا يردف غير المصري، وسبب ذلك قصر ساقيه وبلاغة صدره وقصر ظهره. ويحكى أن الوليد عزم على إجراء الحلبة، فكتب إلى الأمصار أن يوجه إليه بخيار خيل كل بلد، فلما اجتمعت عرضت عليه، فمرت عليه المصرية، فلما رآها دقيقة العصب، لينة المفاصل والأعطاف، قال: هذه خيل ما عندها طائل، فقال له عمر بن عبد العزيز: وأين الخير كله إلا لهذه! فقال له: ما تترك تعصبك لمصر يا أبا حفص! فلما أجريت الخيل جاءت المصرية كلها سابقة ما خالطها غيرها.
قال: وبها زيت الفجل ودهن البلسان والأفيون والأبرميس وشراب العسل والبسر البرني الأحمر واللبخ والخس والكبريت والشمع والعسل وخل الخمر والترمس والجلبان والذرة والنيدة والأترج الابلق والفراريج الزبلية. وذكر أن مريم عليها السلام شكت إلى ربها قلة لبن عيسى، فألهمها أن غلت النيدة فأطعمته إياها.
وذكر بعضهم أن رهبان الشام لا يكادون يرون إلا عمشا من أكل العدس، ورهبان مصر سالمون من ذلك لأكلهم الجلبان.
والبقر الذي بمصر أحسن البقر صورة، وليس في الدنيا بقر أعظم خلقا منها، حتى أن العضو منها يساوي أكبر ثور من غيرها.
وبها الحطب الصنط والأبنوس الأبلق والقرط الذي تعلفه الدواب.
وذكر انه يوقد بالحطب الصنط عشرين سنة في الكنون أو التنور، فلا يوجد له رماد طول هذه المدة. (1/326)
وجيزتها في وقت الربيع من احسن مناظر الدنيا.
وقال صاحب مباهج الفكر: يقال إن بمصر سبعمائة وخمسين معدناً، توجد بجبل المقطم: الذهب والفضة والخارصين والياقوت؛ إلا أنه لطيف جداً، يستعمل في الأكحال والأدوية، وفي أسوان يغاص على السنفاوح ومعدن الزمرد؛ وليس في الدنيا غيره، وجبال القلزم المتصلة بجبل المقطم حجر المغناطيس.
ومن خصائص مصر بركة النطرون. وينبت في أرض مصر سائر ما ينبت في الأرض. انتهى.
وقال صاحب غرائب العجائب: بمصر بئر البلسم بالمطربة، يسقى بها شجر البلسان، ودهنه عزيز والخاصية في البئر؛ فإن المسيح عليه السلام اغتسل فيها، وليس في الدنيا موضع ينبت فيه البلسان غلا هذا الموضع، وقد استأذن الملك الكامل أباه العادل أن يزرعه فأذن له، ففعل ولم ينجح، ولم يخلص منه دهن، فسال أباه أن يجري له ساقية من المطرية إليه، ففعل فلم ينجح.
قال: بأرض مصر حجر القيء، إذا أخذه الإنسان بيده غلب عليه الغثيان، حتى يتقيأ جميع ما في بطنه، فإن لم يلقه من يده خيف عليه التلف.
وقال الكندي: جعل الله مصر متوسطة الدنيا، وهي في الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حر الإقليم الأول والثاني، ومن برد الإقليم الخامس والسادس، فطاب هواؤها وبقى حرها. وضعف حرها، وخف بردها، فسلم أهلها من مشاتي الجبال ومصائف عمان وصواعق تهامة ودماميل الجزيرة وجرب اليمن، وطواعين الشام وغيلان العراق.
وعقارب عسكر مكرم، وطلب البحرين وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم وطوائف العرب، ومكابرة الديلم، وسرايا القرامطة، وبثوق الأنهار، وقحط الأمطار، وقد أكتنفها معادن رزقها؛ وقرب تصرفها، فكثر خصبها، ورغد عيشها، ورخص سعرها.
وقال الجاحظ في مصر: إن أهلها يستغنون عن كل بلد، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا سور لغنى أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا، وفيها ما ليس بغيرها، وهو حيوان السقنقور والنمس، ولولاه لأكلت الثعابين أهلها، وهو لها كقنافذ سجستان لأفاعيها، والسمك الرعاد والحطب الصنط الذي أوقد منه يوما أجمع ما وجد من رماده ملء كف، صلب العود، سريع الوقود، بطئ الخمود. ويقال إنه الأبنوس؛ لكن البقعة قصرت عن الكتان، فجاء أحمر شديد الحمرة، ودهن البلسان، والأفيون وهو عصارة الخشخاش واللبخ، وهو ثمر في قدر اللوز الأخضر؛ إلا أن المأكول منه الظاهر، والاترج الأبلق والزمرد. وأهلها يأكلون صيد بحر الروم وبحر فارس طرياً، وفي كل شهر من شهورها القبطية صنف من المأكول والمشروب والمشموم، يوجد فيه دون غيره، فيقال رطب توت، ورمان بابة ، وموز هتور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بئونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى. وإن صيفها خريف، وشتاءها ربيع، وما يقطعه الحر في سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها في الحر والبر؛ إذ هي في الإقليم الثالث والإقليم الرابع، فسلمت من حر الأول والثاني وبرد الخامس والسادس. ويقال: لو لم يكن من فضل مصر إلا أنها تغني في الصيف عن الخيش والثلج وبطون الأرض، وفي الشتاء عن الوقود الفراء لكفاها.
ومما وصفت به أن صعيدها حجازي كحر الحجاز، ينبت النخل والدوم وهو شجر المقل، والعشر، والقرظ والإهليلج والفلف والخيار شنبر، واسفل أرضها شامي يمطر مطر الشام، ويقع فيه الثلوج، وينبت التين والزيتون والعنب والجوز واللوز والفستق وسائر الفواكه، والبقول الرياحين وهي ما بين أربع صفات، فضة بيضاء أو مسكة سوداء، أو زبرجدة خضراء أو ذهبة صفراء، وذلك أن نيلها يطبقها فتصير كأنها فضة بيضاء، ثم ينضب عنها فتصير مسكة سوداء، ثم تزرع فتصير زبرجدة خضراء، ثم تستحصد فتصير ذهبة صفراء.
وحكى ابن زولاق في كتابه، ان أمير مصر موسى بن عيسى كان واقفاً بالميدان عند بركة الحبش، فالتفت يمينا وشمالا، وقال لمن معه من جنده، أترون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى عجبا، ما في شيء من الدنيا مثله، فقالوا: يقول الأمير، فقال: ارى ميدان أزهار، وحيطان نخل وبستان شجر، ومنازل سكنى، وجبانة أموات، ونهراً عجاجاً وأرض زرع ومراعى ماشية، ومرابط خيل، وساحل بحر، وقانص وحش، وصائد سمك، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومقابر ورملا وسهلا وجبلا، فهذه سبعة عشر؛ مسيرها في أقل من ميل في ميل، ولهذا قال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي يصف الرصد الذي بظاهر مصر: (1/327)
يا نزهة الرصد التي قد نزهت ... عن كل شيء خلا في جانب الوادي
فذا غدير وذا روض وذا جبل ... فالضب والنون والملاح والحادي قال ابن فضل الله في المسالك: مملكة مصر من أجل ممالك الأرض لما حوت من الجهات المعظمة والأرض المقدسة والمساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وقبور الأنبياء والطور والنيل والفرات؛ وهما من الجنة، وبها معدن الزمرد، ولا نظير له في أقطار الأرض. وحسب مصر فخرا ما تفردت به من هذا المعدن واستمداد ملوك الآفاق له منها، وبينه وبين قوص صمانية أيام بالسير المعتدل، والبجاة تنزل حوله لأجل القيام بحفره، وهو في الجبل الآخذ على شرقي النيل في منقطع من البر لا عمارة عنده، ولا قريبا منه، والماء عنه مسيرة نصف يوم؛ وهذا المعدن في صدر مغارة طويلة في حجر أبيض منه، يضرب فيستخرج منه الزمرد؛ وهو كالعروق فيه.
قال: وأكثر محاسن مصر مجلوبة إليها؛ حتى بالغ بعضهم فقال: إن العناصر الأربعة مجلوبة إليها: الماء وهو النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب من حمل الماء؛ وغلا فهي رمل محض لا ينبت، والنار لا توجد بها شجرتها وهو الصوان إلا إذا جلب إليها، والهواء لا يهب إليها إلا من أحد البحرين، إما الرومي وإما الخارج من القزم غليها.
وهي كثيرة الحبوب من القمح والشعير والفول والحمص والعدس والبسلة واللوبيا والدخن والأرز، وبها الرياحيت الكثيرة كالحبق والآس والورد وغيرها، وبها الاترج والنارنج والليمون والحماض والكباد والموز الكثير وقصب السكر الكثير والرطب والعنب والتين والرمان والتوت والفرصاد والخوخ واللوز والجميز والنبق والبرقوق والقراصيا والتفاح. وأما السفرجل والكمثري فقليل؛ وكذلك الزيتون مجلوب إلا قليلا في الفيوم، وبها البطيخ الأصفر أنواع الأخضر والخيار والقثاء على أنواع، والقلقاس واللفت والجزر والقنبيط والفجل والبقول المنوعة.
وبها أنواع الدواب من الخيل والبغال والحمير والبقر والجواميس والغنم والمعز. ومما يوصف من دوابها بالجودة الحمر لفراهتها، والبقر والغنم لعظمها، وبها الأوز والدجاج والحمام، ومن الوحش الغزلان والنعام والأرنب؛ وأما من أنواع الطير فكثير كالكركي وغيره.
وأوسط الأسعار في غالب أوقاتها الإردب القمح بخمسة عشر درهما، والشعير بعشرة، وبقية الحبوب على هذا الأنموذج؛ وأما الأرز فيبلغ أكثر من ذلك، وأما اللحم فاقل سعره الرطل بنصف درهم.
ويعمل بمصر معامل كالتنانير، ويعمل بها البيض بصنعة؛ ويوقد بنار يحاكي بها نار الطبيعة في حضانة الدجاجة البيض، ويخرج في تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاجهم. وبها ما يستطاب من الألبان والأجبان، وبها العسل بمقدار متوط بين الكثرة والقلة، وأما السكر فكثيراً جداً، وقيمته المعهودة على الغالب من السعر الرطل بدرهم ونصف، ومنها يجلب السكر إلى كثير من البلاد، وقد نسى بها ما كان يذكر من سكر الأهواز.
وبها الكتان المعدوم المثل المنقول منه، ومما يعمل من قماشه إلى أقطار الأرض.
ومبانيها بالحجر، وأكثرها بالطوب وأفلاق النخل والجريد. وخشب الصنوبر مجلوب إليهم من بلاد الروم في البحر، ويسمى عندهم النقي.
وبها المدارس والخوانق والربط والزوايا والعمائر الجليلة الفائقة المعدومة المثل المفروشة بالرخام، المسقوفة بالأخشاب، المدهونة الملمعة بالذهب واللاز ورد.
قال: وحاضره مصر تشتمل على ثلاث مدن عظام: الفسطاط، وهو بناء عمرو بن العاص؛ وهي المسماة عند العامة بمصر العتيقة، والقاهرة بناها جوهر القائد لمولاه الخليفة المعز، وقلعة الجبل بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب، وأول من سكنها أخوه العادل. وقد اتصل بعض هذه الثلاثة ببعض بسور بناه قراقوش بها إلا أنه قد تقطع الآن في بعض الأماكن، وهذا السور، هو الذي ذكره القاضي الفاضل في كتاب كتبه إلى السلطان صلاح الدين،فقال: والله يحيى الموتى حتى يستدير بالبلدين نطاقه، ويمتد عليهما رواقه، فها عقيلة ما كان معصمهما بغير سوار، ولا حضرهما ليجلي بلا منطقة نضار. (1/328)
قال: وبها المارستان المنصوري المعدوم النظير، لعظم بنائه وكثرة أوقافه. وبها البساتين الحسان والمناظر النزهة والآدار المظلة على البحر، وعلى الخلجاناه الممتدة فيه أوقات مدها.
وبها القرافة تربة عظمى لمدفن أهلها، وبها العمائر الضخمة، وهي من احسن البلاد إبان ربيعها للغدر الممتدة من مقطعات النيل بها، وما يحفها من زرع أخرجت شطاها وفتقت أزهارها، وبها من محاسن الأشياء ولطائف الصنائع ما تكفي شهرته ومن الأسلحة والقماش والزركش والمصوغ والكفت وغير ذلك مالا يكاد يعد تفردها به، والرماح التي لا يعمل في الدنيا أحسن منها. انتهى كلام ابن فضل الله.
وقال الكندي في فضل مصر: بمصر العجائب والبركات، فجلبها المقدس، ونيلها المبارك، وبها الطور الذي كلم الله عليه موسى؛ فإن أهل العلم ذكروا ان الطور من المقطم، وانه داخل فيما وقع عليه القدس؛ قال كعب: كلم الله موسى عليه السلام من الطور إلى أطراف المقطم من القدس. وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى، وبها ولد موسى وهرون، وبها ولد عيسى، وبها كان ملك يوسف، وبها النخلة التي ولدت مريم عيسى تحتها بريف من كورة اهناس، وبها اللبخة التي أرضعت عندها مريم عيسى باشمون، فخرج من هذه اللبخة الزيت، وبها مسجد إبراهيم، ومسجد يعقوب، ومسجد موسى، ومسجد يوسف، ومسجد مارية سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم حفن، أوصت أن يبني بها مسجد فبني، وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي قال الله: )مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان( وقال: )وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا(.
وقال غيره: لأهل مصر القلم المعروف بقلم الطير، وهو قلم البرابي، وهو قلم عجيب الحرف.
قال: ومصر عند الحكماء العالم الصغير، سليل العالم الكبير؛ لأنه ليس في بلد غني غريب إلا وفيها مثله واغرب منه، وتفضل على البلدان بكثرة عجائبها ومن عجائبها النمس؛ وهو أقتل للثعابين بمصر من القنافد للأفاعي بسجستان.
وبمصر جبل يكتب بحجارته كما يكتب بالمداد، وجبل يؤخذ منه الحجر، فيترك في الزيت فيقد كما يقد السراج.
ويقال: إنه ليس على وجه الأرض نبت ولا حجر إلا وفي مصر مثله، وليس تطلب في سائر الدنيا الأموال المدفونة إلا بمصر.
ويقال: إن بمصر بقلة؛ من مسها بيده ثم مس السمك الرعاد لم ترعد يده، وبها حجر الخل يطفأ على الخل. وبها حجر القيء إذا امسكه الإنسان بيديه تقيأ كل ما في بطنه، وبها خرزة تجعلها المرأة على حقوقها فلا تحبل. وبها حجر يوضع على حرف التنور فيتساقط خبزه، وكان يوجد بصعيدها حجارة رخوة تكسر فتقد كالمصابيح.
ومن عجائب حوض كان بدلالات مدون من حجارة.
لسبب في كون أهل مصر أذلاء يحملون الضيم
قال محمد بن الربيع الجيزي: سمعت يحيى بن عثمان بن صالح، يقول: قدم سعد بن أبي وقاص في خلافة عثمان رسولا من قبل عثمان إلى أهل مصر أيام ابن أبي حذيفة، فلقوه خارجا من الفسطاط، ومنعوه من دخولها، فقال لهم: فلتسمعوا ما أقول لكم؛ فامتنعوا عليه، فدعا عليهم ان يضربهم الله بالذل. هذا معناه.
قلت: وسعد ممن عرف بإجابة الدعوة؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم دعا له: " اللهم استجب له إذا دعاك " .
في تذكرة الصلاح الصفدي: كان الشيخ تاج الدين الفزاري يقول: إن الحكماء وأهل التجارب ذكروا أن من أقام ببغداد سنة وجد في علمه زيادة، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة، ومن أقام بحلب سنة وجد في نفسه شحاً، ومن أقام بدمشق سنة وجد في طباعه غلظة وفظاظة، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقة وحسناً.
في مباهج الفكر: يروى عن كعب، قال: لما خلق الله الأشياء، قال القتل: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الخصب أنا لا حق بمصر، فقال الذل وأنا معك، وقال الشقاء: أنا لا حق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك. (1/329)
وقال محمد بن حبيب: لما خلق الله الخلق خلق معهم عشرة أخلاق: الإيمان والحياء والنجدة والفتنة والكبر والنفاق والغنى والفقر والذل والشقاء، فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك، وقالت النجدة: أنا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النفاق: وأنا معك، وقال الغني: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، وقال الفقر: أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك.
وقال غيره: إن الله جعل البركة عشرة أجزاء، فتسعة منها في قريش وواحد في سائر الناس، وجعل الكرم عشرة أجزاء فتسعة منها في العرب وواحد في سائر الناس، وجعل الغيرة عشرة أجزاء فتسعة منها في الأكراد وواحد في سائر الناس، وجعل المكر عشرة أجزاء، فتسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس، وجعل الجفاء عشرة أجزاء، فتسعة منها في البربر وواحد في سائر الناس، وجعل النجابة عشرة أجزاء، فتسعة منها في الروم وواحد في سائر الناس، وجعل الصناعة عشرة أجزاء؛ فتسعة منها في الصين وواحد في سائر الناس، وجعل الشهوة عشرة أجزاء، فتسعة منها في النساء وواحد في سائر الناس، وجعل العمل عشرة أجزاء فتسعة منها في الأنبياء وواحد في سائر الناس، وجعل الحسد عشرة أجزاء، فتسعة منها في اليهود وواحد في سائر الناس.
ويحكي أن الحجاج سال ابن القرية عن طبائع أهل الأرض، فقال: أهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها؛ رجالها حفاة، ونساؤها عراة، وأهل اليمن أهل سمع وطاعة، ولزوم الجماعة، وأهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين قبط استعربوا، وأهل اليمامة أهل جفاء، واختلاف آراء. وأهل فارس أهل باس شديد، وعز عتيد، وأهل العراق أبحث الناس عن صغيرة، وأضيعهم لكبيرة. وأهل الجزيرة أشجع فرسان، واقتل للأقران. وأهل الشام أطوعهم لمخلوق وإعصارهم لخالق. وأهل مصر عبيد لمن غلب، أكيس الناس صغاراً، وأجهلهم كبارا.
وعن أبن القرية قال: الهند بحر هادر، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر. وكرمان ماؤها وشل، وثمرها دقل، ولصها بطل. وخراسان ماؤها جامد، وعدوها جاهد. وعمان حرها شديد، وصيدها عتيد. والبحرين كناسة بين المصرين. والبصرة ماؤها ملح، وحربها صلح، مأوى كل تاجر، وطريق كل عابر. والكوفة ارتفعت عن حر البحرين، وإسفلت عن برد الشام، وواسط جنة، بين كماة وكنة، والشام عروس، بين نساء جلوس، ومصر هواؤها راكد، وحرها متزائد، تطول الأعمار، وتسود الابشار.
وقال بعضهم: يقال في خصائص البلاد في الجوهر: فيروزج نيسابور، وياقوت سرنديب، ولؤلؤ عمان، وزبرجد مصر، وعقيق اليمن، وجزع ظفار، وكاري بلخ، ومرجان إفريقية.
وفي ذوات السموم: أفاعي سجستان، وحيات اصبهان، وثعابين مصر، وعقارب شهر زور، وجرارات، الاهواز، وبراغيث أرمينية، وفار أردن، ونمل ميافارقين، وذباب تل بابان، واوزاغ بلد.
وفي الملابس برود اليمن، ووشى صنعاء، وريط الشام وقصب مصر، وديباج الروم، وقز السوس، وحرير الصين، وأكسية فارس، وحلي البحرين وسقلاطون بغداد، وعمائم الابلة والري، وملحم مرو، وتكك أرمينية، ومناديل الدامغان، وجوارب قزوين.
وفي المراكيب عتاق البادية، ونجائب الحجاز، وبراذين طخارستان، وحمير مصر، وبغال برزعة.
وفي الأمراض طواعين الشام، وطحال البحرين، ودمياميل الجزيرة، وحمى خيبر، وجنون حمص، وعرق اليمن، ووباء مصر، وبرسام العراق، والنار الفارسية، وقروح بلخ.
وقال الجاحظ في كتاب الأمصار: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتخنيث ببغداد، والطرمذة بسمرقند والعي بالري، والجفاء بنيسابور، والحسن بهراة، والمروءة ببلخ، والبلح بمرو، والعجائب بمصر.
وقال غيره: قراطيس سمرقند لأهل المشرق كقراطيس مصر لأهل المغرب.
وقال القاضي الفاضل: أهل مصر على كثرة عددهم وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدأبون في البر، ومن العجائب شجرة العباس في دندار من صعيد مصر، وهي شجرة متوسطة، وأوراقها قصيرة منبسطة، فإذا قال الإنسان: يا شجرة العباس، جال الناس، تجتمع أوراقها، وتحترق لوقتها. (1/330)
ذكر النيل
قال التيفاشي في كتاب سجع الهديل: لم يسم نهر من الأنهار في القرآن سوى النيل في قوله تعالى: )وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم( قال: أجمع المفسرون على ان المراد باليم هنا نيل مصر.
أخرج احمد ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة " .
قال ابن عبد الحكم: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابي الخير، عن كعب الأحبار، أنه كان يقول: أربعة انهار من الجنة وضعها الله في الدنيا؛ فالنيل نهر العسل في الجنة والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة. أخرجه الحارث في مسنده والخطيب في تاريخه.
وقال: حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن وهب بن عبد الله المعافري، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، انه قال: نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بالمشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأرض عيونا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله، أوحى الله إلى كل ماء ان يرجع إلى عنصره. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره.
وقال: حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية بن أبي سفيان سال كعب الأحبار، هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال: أي والذي فلق البحر لموسى، إني لأجده في كتاب الله يوحي إليه في كل عام مرتين، يوحي إليه عند جريه: عن الله يأمرك أن تجري فيجرى ما كتب الله، ثم يوحي إليه بعد ذلك: يا نيل عد حميداً.
واخرج الخطيب في تاريخه وابن مردويه في تفسيره والضياء المقدسي في صفة الجنة عن ابن عباس مرفوعا: انزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة انهار: سيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات والنيل؛ أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة، من أسفل درجة من درجاتها، على جناحي جبريل، واستودعها الجبال، وأجراها في الارض، وجعل فيها منافع للناس، فذلك قوله تعالى: )وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض(، فإذا كان عند خروج ياجوج وماجوج، أرسل الله جبريل، فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر من البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه؛ وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء؛ فذلك قوله: )وأنا على ذهاب به لقادرون(، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض عدم أهلها خيرها.
واخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن عبد الحكم في تاريخ مصر، والخطيب في تاريخ بغداد، والبيهقي في البعث عن كعب الأحبار، قال: " نهر النيل العسل في الجنة، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة " .
واخرج البيهقي في شعب الغيمان، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: غار النيل على عهد فرعون، فاتاه أهل مملكته، فقالوا: أيها الملك أجر لنا النيل، قال: إني لم ارض عنكم، فذهبوا ثم اتوه، فقالوا: أيها الملك، أجر لنا النيل، قال: إني لم ارض عنكم، فذهبوا ثم أتوه، فقالوا: أيها الملك ماتت البهائم، وهلكت الأبكار، لئن لم تجر لنا النيل لنتخذن إلهاً غيرك، قال اخرجوا إلى الصعيد، فخرجوا فتنحى عنهم حيث لا يرونه، ولا يسمعون كلامه، فألصق خده بالأرض، وأشار بالسبابة لله، ثم قال: اللهم إني خرجت إليك مخرج العبد الذليل إلى سيده، وإني أعلم أنه لا يقدر على إجرائه أحد غيرك فاجره. قال: فجرى النيل جرياً لم يجر قبله مثله، فاتاهم فقال: إني قد أجريت لكم النيل، فخروا له سجدا، وعرض له جبريل، فقال: أيها الملك أعدني على عبدي، قال: وما قصته؟ قال: عبد لي ملكته على عبيدي، وخولته مفاتيحي، فعاداني، فأحب من عاديت، وعادي من أحببت، قال: بئس العبد عبدك! لو كان لي عليه سبيل لغرقته في بحر القلزم! فقال: يا أيها الملك، أكتب لي كتاباً، فدعا بكتاب ودواة، ما جزاء العبد الذي خالف سيده فأحب من عادى وعادي من أحب إلا ان يغرق في بحر القلزم. قال: ياأيها الملك اختمه لي، فختمه ثم دفعه إليه، فلما كان يوم البحر، أتاه جبريل بالكتاب، فقال: خذ هذا ما حكمت به على نفسك. (1/331)
أثر متصل الإسناد في أمر النيل
أخبرني أبو الطيب الأنصاري إجازة، عن الحافظ أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، عن ابي الفتح محمد بن محمد الميدومي، أخبرتنا أمة الحق شامية بنت الحافظ صدر الدين الحسن بن محمد بن محمد سماعا، اخبرنا أبو حفص عمر بن طبرزد سماعاً، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن احمد السمرقندي، وغيره سماعا، قالوا: أخبرنا أبو الحسين احمد بن محمد بن القنور سماعا، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحيم المخلص سماعا، أخبرنا عبيد الله ابن عبد الرحمن بن عيسى السكري، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي وأبو بكر محمد بن صالح بن عبد الرحمن الحافظ الانماطي، قالا: حدثنا أبو صالح عبد الله ابن صالح بن محمد، كاتب الليث، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: بلغني أنه كان رجل من بني العيص يقال له حائد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، خرج هارباً من ملك من ملوكهم؛ حتى دخل ارض مصر، فأقام بها سنين، فلما رأى أعاجيب نيلها وما يأتي به، جعل الله تعالى عليه ألا يفارق ساحلها حتى يبلغ منتهاه؛ من حيث يخرج أو يموت قبل ذلك، فسار عليه - قال بعضهم: سار ثلاثين سنة في الناس وثلاثين في غير الناس. وقال بعضهم: خمسة عشر كذا، وخمسة عشر كذا - حتى انتهى إلى بحر أخضر، فنظر إلى النيل ينشق مقبلا، فصعد على البحر، فإذا رجل قائم يصلي تحت شجرة من تفاح، فلما رآه استأنس به، وسلم عليه، فسأله الرجل صاحب الشجرة، فقال له: من أنت؟ قال: أنا حامد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فمن أنت؟ قال: أنا عمران بن فلان بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، قال: فما الذي جاء بك إلى هنا يا عمران؟ قال: جاء بي الذي جاء بك، حتى انتهيت إلى هذا الموضع؛ فأوحى الله إلى أن أقف في هذا الموضع، حتى يأتيني أمره، قال له حامد: أخبرني يا عمران، ما انتهى إليك من أمر هذا النيل؟ وهل بلغك في الكتب أن أحداً من بني آدم يبلغه؟ قال له عمران: نعم، بلغني أن رجلا من بني العيص يبلغه، ولا أظنه غيرك يا حامد، قال له حائد: يا عمران، أخبرني كيف الطريق إليه؟ قال له عمران: لست أخبرك بشيء إلا أن تجعل لي ما أسألك! قال: وما ذاك يا عمران؟ قال: إذا رجعت إلي وأنا حي أقمت عندي حتى يوحي الله تعالى إلى بأمره، أو يتوفاني فتدفنني؛ فإن وجدتني ميتاً دفنتني وذهبت، قال: ذلك لك علي، قال له: سر كما أنت على هذا البحر؛ فإنك تأتي دابة ترى آخرها ولا ترى أولها،فلا يهولنك امرها، اركبها؛ فإنها دابة معادية للشمس، إذا طلعت اهوت إليها لتلتقمها حتى يحول بينها وبينها حجبتها، وإذا غربت اهوت إليها لتلتقمها؛ فتذهب بك إلى جانب البحر، فسر عليها راجعاً حتى تنتهي إلى النيل، فسر عليه، فإنك ستبلغ أرضاً من حديد، جبالها وأشجارها وسهولها من نحاس، فإن أنت جزتها وقعت في أرض من فضة؛ جبالها وأشجارها وسهولها من فضة، فإن أنت جزتها وقعت في ارض من ذهب جبالها وأشجارها وسهولها من ذهب، فيها ينتهي إليك علم النيل. (1/332)
فسار حتى انتهى إلى أرض الذهب، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب شرفة من ذهب، وقبة من ذهب، لها أربعة أبواب؛ فنظر إلى ما ينحدر من فوق ذلك السور حتى يستقر في القبة ثم ينصرف في الأبواب الأربعة؛ فأما ثلاثة فتغيض في الارض، وأما واحد فيسير على وجه الأرض؛ وهو النيل. فشرب منه واستراح، وأهوى إلى السور ليصعد، فأتاه ملك فقال له: يا حامد قف مكانك، فقد انتهى إليك علم هذا النيل؛ وهذه الجنة؛ وغنما ينزل من الجنة، فقال: أريد أن انظر إلى الجنة، فقال: إنك لن تستطيع دخولها اليوم يا حامد، قال: فأي شيء هذا الذي أرى؟ قال: هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر، وهو شبه الرحا، قال:إني أريد ان اركبه فأدور فيه - فقال بعض العلماء: إنه قد ركبته؛ حتى دار الدنيا وقال بعضهم: لم يركبه - فقال له يا حامد: إنه سيأتيك من الجنة رزق، فلا تؤثر عليه شيئاً من الدنيا، فإنه لا ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا عن لم تؤثر عليه شيئاً من الدنيا بقى ما بقيت.
قال: فبينا هو كذلك واقف ، إذ نزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة؛ أصناف لون كالزبرجد الأخضر، ولون كالياقوت الأحمر، ولون كاللؤلؤ الأبيض، ثم قال له: يا حامد، أما إن هذا من حصرم الجنة، وليس من طيب عنبها، فارجع يا حامد، فقد انتهى إليك علم النيل، فقال: هذه الثلاثة التي تغيض في الأرض، ما هي؟ قال: أحدهما الفرات، والآخر دجلة، والآخر جيحان، فارجع. (1/333)
فرجع حتى انتهى إلى الدابة التي ركبها، فركبها، فلما أهوت الشمس لتغرب قذفت به من جانب البحر، فاقبل حتى انتهى إلى عمران، فوجده ميتاً فدفنه، وأقام على قبره ثلاثا، فاقبل شيخ متشبه بالناس أغر من السجود، ثم أقبل إلى حامد، فسلم عليه، قم قال له: يا حامد، ما انتهى إليك من علم هذا النيل؟ فأخبره، فلما أخبره، قال له: هكذا نجده في الكتب، ثم أطرى ذلك التفاح في عينيه، وقال: ألا تأكل منه؟ قال: معي رزقي، قد أعطيته من الجنة ونهيت أن أوثر شيئاً من الدنيا، قال: صدقت يا حامد، هل ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر بشيء من الدنيا، وهل رأيت في الدنيا مثل هذا التفاح؟ إنما أنبتت له في الأرض ليس من الدنيا، وإنما هذه الشجرة من الجنة، أخرجها الله لعمران يأكل منها، وما تركها إلا لك، ولو قد وليت عنها رفعت، فلم يزل يطريها في عينيه، حتى أخذ منها تفاحة، فعضها، فلما عضها عض يده، ثم قال: أتعرفه؟ هو الذي أخرج أباك من الجنة؛ أما إنك لو سلمت بهذا الذي كان معك لأكل منه أهل الدنيا قبل أن ينفد، وهو مجهودك إن تبلغه فكان مجهوده أن بلغه.
وأقبل حامد حتى دخل أرض مصر، فأخبرهم بهذا؛ فمات حامد بأرض مصر.
وبهذا الإسناد إلى عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري،عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: )فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم( قال: كانت الجنان بحافتي هذا النيل، من أوله إلى آخره في الشقين جميعا من أسوان إلى رشيد، وكان له سبعة خلج: خليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى وخليج سخا، متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، ويزرع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء، وكانت جميع مصر كلها يومئذ تروى من ستة عشر ذراعا.
وبهذا الإسناد إلى ابن لهيعة، وعن يزيد بن أبي حبيب؛ انه كان على نيل مصر فرضة لحفر خليجها، وإقامة جسورها وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرون ألف فاعل، معهم الطور والمساحي والاداة، يعتقبون ذلك، لا يدعون ذلك شتاء ولا صيفا.
وذكر بعض الإخباريين أن حامدا هذا لم يتنبأ، وانه أوتى الحكمة، وانه سأل الله أن يريه منتهى النيل، فأعطى قوة على ذلك، فوصل إلى جبل القمر، وقصد أن يطلع إلى أعلاه، فلم يقدر؛ فسأل الله فيسره عليه، فصعد فرأى خلفه البحر الزفتي، وهو بحر أسود منتن الريح مظلم، فرأى النيل يجري في وسطه؛ كأنه السبيكة الفضة.
وقال صاحب مباهج الفكر: ذكر أبو الفرج قدامة أن مجموع ما في المعمور من الأنهار مائتان وثمانية وعشرون نهرا؛ منها ما يجري من المشرق إلى المغرب، ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب، ومنها ما جريانه كنهر النيل من الجنوب إلى الشمال، ومنها هو مركب من هذه الجهات كالفرات وجيحون؛ فأما النيل فذكر قدامة أن انبعاثه من جبل القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة انهار؛ كل خمسة منها يصب إلى بطيحة كبيرة في الإقليم الأول، ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل.
وذكر صاحب كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق أن هذه البحيرة تسمى بحيرة كورى منسوبة لطائفة من السودان، يسكنون حولها متوحشين يأكلون من وقع إليهم من الناس، فإذا خرج النيل منها يشق بلاد كورى ثم بلاد ننه )طائفة من السودان(، بين كانم والنوبة، فإذا بلغ دنقلة مدينة النوبة عطف من غربيها إلى المغرب، وانحدر إلى الإقليم الثاني، فيكون على شطئه عمارة النوبة، وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى، ثم يشرق إلى الجنادل، وإليها تنتهي مراكب النوبة انحدارا، ومراكب الصعيد الأعلى صعودا وهناك أحجار مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا في أيام زيادة النيل، ثم يأخذ إلى الشمال، فيكون على شرقيه مدينة أسوان من الصعيد الأعلى، ثم يمر بين جبلين مكتنفين لأعمال مصر شرقي وغربي إلى الفسطاط، فإذا تجاوزتها مسافة يوم انقسم إلى قسمين أحدهما يمر حتى يصب في بحر الروم [عند دمياط، ويسمى بحر الشرق والآخر وهو عمود النيل ومعظمه يمر إلى أن يصب] عند رشيد، ويسمى بحر الغرب، ومسافة النيل من منبعه إلى أن يصب في رشيد سبعمائة فرسخ وثمانية وأربعون فرسخا. (1/334)
وقيل إنه يجري في الخراب أربعة اشهر، وفي بلاد السودان شهرين، وفي بلاد الإسلام شهرا، وليس في الأرض نهر يزيد حين تنقص الأنهار غيره؛ وذلك أن زيادته تكون في القيظ الشديد في شمس السرطان والأسد والسنبلة. وروى أن الأنهار تمده بمائها.
وقال قوم: عن زيادته من ثلوج يذيبها الصيف وعلى حسن مدها تكون كثرته وقلته.
وذهب آخرون إلى أن زيادته بسبب أمطار كثيرة تكون ببلاد الحبشة.
وذهب آخرون إلى أن زيادته عن اختلاف الريح، وذلك أن الشمال إذا هبت عاصفة يهيج البحر الرومي، فيدفع إليه ما فيه منه، فيفيض على وجه الأرض، فإذا هبت الجنوب سكن هيجان البحر، فيسترجع منه ما دب إليه، فينقص.
وزعم آخرون أن زيادته من عيون على شاطئه، يراها من سافر ولحق بأعاليه.
وقال آخرون: عن مجراه من جبال الثلج، وهي بجبل قاف، وانه يخرق البحر الأخضر، ويمر على معادن الذهب والياقوت والزمرد والمرجان، فيسير ما شاء الله إلى أن يأتي إلى بحيرة الزنج. قالوا: ولولا دخوله في البحر الملح، وما يختلط به منه لم يستطع شربه لشدة حلاوته وزيادته بتدريج وترتيب في زمان مخصوص مدة معلومة، وكذا نقصه ومنتهى زيادته التي يحصل بها الري لأرض مصر ستة ذراعا، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، فإن زاد على الستة عشر ذراعا إصبعا واحداً أزداد في الخراج مائة ألف دينار لما يروى من الأراضي العالية.
والغاية القصوى في الزيادة ثمانية عشر ذراعا؛ هذا في مقياس مصر، فإذا انتهى فيه إلى ذلك كان في الصعيد الأعلى اثنين وعشرين ذراعا، لارتفاع البقاع التي يمر عليها، ويسوق الري إليها، فإذا انتهت زيادته فتحت خلجانات وترع، فيخرج الماء يميناً وشمالا إلى الأرض البعيدة عن مجرى النيل؛ حكمة دبرت بالعقول السليمة وقدرت، ومنافع مهدت في الزمن القديم وقررت.
وللنيل ثماني خلجانات: خليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج المنهى - حفره يوسف عليه السلام - وخليج أشموم طناح، وخليج سردوس - حفره هامان لفرعون - وخليج سخا، وخليج حفره عمرو بن العاصي زمن عمر بن الخطاب. ويحصل لأهل مصر يوم وفائه الستة عشر ذراعا التي هي قانون الري سرور شديد بحيث يركب الملك في خواص دولته الحراريق المزينة إلى المقياس، ويمد فيه سماطا ويخلق العمود الذي يقاس فيه ويخلع على القياس، ويعطيه صلة مقررة له.
وقد ذكر بعض المفسرين انه يوم الزينة، الذي وعد فرعون موسى بالاجتماع فيه.
هذا كله كلام مباهج الفكر.
وقد اختلف في ضبط جبل القمر، فقيل: إنه بفتح القاف والميم بلفظ أحد النيرين.
قال التيفاشي: وإنما سمي بذلك لان العين تقمر منه، إذا نظرت غليه لشدة بياضه. قال: ولذلك أيضا سمى القمر قمرا. قال: وهذا الجبل مستطيل من المشرق إلى المغرب، نهايته في ناحية المغرب إلى حد الخراب، ونهايته في المشرق إلى مثل ذلك، وهو نفسه بجملته في الخراب من ناحية الجنوب، وله أعراق في الهواء، منها طوال ومنها دونها.
قال في مختصر المسالك: وذكر بعضهم أن أناسا انتهوا إلى هذا الجبل وصعدوه، فرأوا وراءه بحرا ماؤه أسود كالليل، يشقه نهر أبيض كالنهار، يدخل الجبل من جنوبه، ويخرج من شماله، ويتشعب على قبة هرمس المبنية هناك. (1/335)
وزعموا أن هرمس الهرامسة - وهو إدريس عليه السلام فيما يقال - بلغ ذلك الموضع، وبنى فيه قبة.
وذكر بعضهم أن أناسا صعدوا الجبل، فصار الواحد منهم يضحك ويصفق بيديه، وألقى نفسه إلى ما وراء الجبل، فخاف البقية أن يصيبهم مثل ذلك، فرجعوا.
وقيل: إن أولئك إنما رأوا حجر الباهت، وهي أحجار براقة كالفضة البيضاء تتلألأ، كل من نظرها ضحك والتصق بها حتى يموت، ويسمى مغناطيس الناس.
وذكر بعضهم ان ملكا من ملوك مصر الأول، جهز أناسا للوقوف على أول النيل، فانتهوا إلى جبال من نحاس، فلما طلعت عليها الشمس انعكست عليها، فأحرقتهم.
وقيل إنهم انتهوا إلى جبال براقة لماعة كالبلور، فلما انعكست عليهم أشعة الشمس الواقعة عليهم أحرقتهم.
وقال صاحب مرآة الزمان: ذكر أحمد بن بختيار أن العين التي هي أصل النيل، هي أول العيون من جبل القمر، ثم نبعث منها عشرة انهار، نيل مصر أحدهما، قال: والنيل يقطع الإقليم الأول، ثم يجاوزه إلى الثاني، ومن ابتدائه، من جبل القمر إلى انتهائه إلى البحر الرومي، ثلاثة آلاف فرسخ، ويبتدي بالزيادة في نصف حزيران، وينتهي إلى أيلول.
قال: واختلفوا في سبب زيادته، فقال قوم: لا يعلم ذلك غلا الله.
وقال آخرون: سببه زيادة عيونه.
وقال آخرون، وهو الظاهر: سببه كثرة المطر والسيول ببلاد الحبش والنوبة، وغنما يتأخر وصوله إلى الصيف لبعد المسافة. ورد ذلك قوم بان عيونه التي تحت جبل القمر تتكدر في أيام زيادته، فدل على انه فعل الله من غير زيادة بالمطر. قال: وجميع الأنهار تجري إلى القبلة سواه، فإنه يجري إلى ناحية الشمال. وكان القاضي بحماه قال: ومتى بلغ ستة عشر ذراعا استحق السلطان الخراج، وإذا بلغ ثمانية عشر ذراعا قالوا: يحدث بمصر وباء عظيم، وإذا بلغ عشرين ذراعا مات ملك مصر.
وقال ابن المتوج: من عجائب مصر النيل الذي يأتي من غامض علم الله في زمن القيظ فيعم البلاد سهلا ووعراً، يبعث الله في أيام مدده الريح الشمال فيصد له البحر المالح، ويصير له كالجسر، ويزيد. وإذا بلغ الحد الذي هو تمام الري وأوان الزراعة، بعث الله بالريح الجنوب فكنسته، وأخرجته إلى البحر الملح، وانتفع الناس بالزراعة.
ومن عجائب هذا النيل سمكة تسمى الرعاد من مسها بيده أو بعود متصل بيده أو جذب شبكة هي فيها، أو قصبة أو سنارة وقعت فيها رعدت يده ما دامت فيها، وبمصر بقلة من مسها بيده، ثم مس الرعاد لم ترعد.
وفي النيل خيل تظهر في بلد النوبة، ويصيدونها، وفي سنة من أسنانها شفاء من وجع المعدة.
وقال التيفاشي: سبب زيادة النيل هبوب ريح يسمى الملثن، وذلك لسببين أحدهما أنها تحمل السحاب الماطر خلف خط الاستواء فتمطر ببلاد السودان والحبشة والنوبة، والآخر أنها تأتي في وجه البحر الملح، فيقف ماؤه في وجه النيل، فيتراجع حتى يروى البلاد. وفي ذلك يقول الشاعر:
اشفع فللشافع أعلى يد ... عندي واسنى من يد المحسن
والنيل ذو فضل ولكنه ... الشكر في ذلك للملثن
وقال صاحب سجع الهديل: ذكر جماعة من المنجمين وأرباب الهيئة أن النيل يجئ من خلف خط الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف، ويأخذ نحو الجنوب إلى ان ينتهي إلى دمياط والإسكندرية وغيرهما عند عرض ثلاثين في الشمال، قالوا: فمن بدايته إلى نهايته اثنتان وأربعون ومائة درجة؛ كل درجة ستون ميلا وثلث بالتقريب، فيكون طوله من الموضع الذي يبتدئ منه إلى الموضع الذي منه إلى البحر الملح ثمانية ألف ميل وستمائة وأربعة عشر ميلا وثلثا ميل على القصد والاستواء، وله تعريجات شرقا وغربا، يطول بها ويزيد على ما ذكرناه.
ونقلت من خط الشيخ عز الدين بن جماعة من كتاب له في الطب، قال: منبع النيل من جبل القمر وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف، وامتداد هذا الجبل خمس عشرة درجة وعشرون دقيقة، يخرج منه عشرة انهار من أعين فيه ترمي كل خمسة إلى بحيرة عظيمة مدورة بعد مركزها عن أول العمارة بالمغرب سبع وخمسون درجة، والبعد عن خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة، وهاتان البحيرتان متساويتان، وقطر كل واحدة خمس درج، ويخرج من كل واحدة أربعة أنهار ترمي إلى بحيرة صغير مدورة في الإقليم الأول بعد مركزها عن أول العمارة بالمغرب ثلاث وخمسون درجة وثلاثون دقيقة، وعن خط الاستواء من الشمال درجتان من الإقليم الأول وقطرها درجتان، ومصب كل واحد من الأنهار الثمانية في هذه البحيرة غير مصب الآخر، ثم يخرج من البحيرة نهر واحد؛ وهو نيل مصر، ويمر ببلاد النوبة، ويصب غليه نهر آخر ابتداؤه من غير مركزها على خط الاستواء، في بحيرة كبيرة مستديرة قطرها ثلاثة درج، وبعد مركزها عن أول العمارة بالمغرب إحدى وسبعون درجة، فإذا تعدى النيل مدينة مصر إلى مدينة يقال لها شطنوف، تفرق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح أحدهما يعرف ببحر رشيد، والآخر بحر دمياط وهذا البحر إذا وصل إلى المنصورة تفرع منه نهر يعرف ببحر أشمون، يرمي إلى بحيرة هناك وباقيه يرمي إلى البحر المالح عند دمياط، وهذه صورة ذلك: وذكر الجاحظ في كتاب الأمصار، أن مخرج نهر السند والنيل من موضع واحد، واستدل على ذلك اتفاق زيادتهما، وكون التمساح فيهما، وأن سبيل زراعتهم في البلدين واحد. (1/336)
وقال المسبحي في تاريخ مصر: في بلاد تكنة أمة من السودان أرضهم تنبت الذهب، يفترق النيل فيصير نهرين أحدهما ابيض وهو نيل مصر، والآخر أخضر يأخذ غل المشرق فيقطع البحر الملح إلى بلاد السند، وهو نهر ميران.
قال ابن عبد الحكم: حدثنا عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عمن حدثه، قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إليه حين دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فارضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب افضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى لا يجري قليلا ولا كثيرا، حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو وكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك بطاقة فالقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم الكتاب على عمرو، فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجر، وإن كان الواحد القهار يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيا أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فاصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا، وقد زالت تلك السنة السوء عن أهل مصر.
حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء حتى طلبوا إلى موسى ان يدعو الله رجاء أن يؤمنوا، فدعا الله، فاصبحوا وقد أجراه الله في تلك الليلة ستة عشر ذراعا. فاستجاب الله يتطوله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه السلام.
ذكر مزايا النيل
قال التيفاشي: اتفق العلماء على ان النيل اشرف الأنهار في الأرض لأسباب: منها عموم نفعه، فإنه لا يعلم نهر من الأنهار في جميع الأرض المعمورة يسقي ما يسقيه النيل.
ومنها الاكتفاء بسقيه، فإنه يزرع عليه بعد نضوبه، ثم لا يسقى الزرع حتى يبلغ منتهاه؛ ولا يعلم ذلك في نهر سواه.
ومنها أن ماءه اصح المياه وأعدلها وأعذبها وأفضلها.
ومنها مخالفته لجميع انهار الأرض في خصال هي منافع فيه، ومضار في غيره.
ومنها انه يزيد عند نقص سائر المياه، وينقص عند زيادتها؛ وذلك أوان الحاجة غليه.
ومنها أنه يأتي أرض مصر في أوان اشتداد القيظ والحر ويبس الهواء وجفاف الأرض، فيبل الأرض، ويرطب الهواء، ويعدل الفصل تعديلا زائدا. (1/337)
ومنها أن كل نهر من الأنهار العظام، وإن كل فيه منافع، فلابد أن يتبعها مضار في أوان طغيانه بإفساد ما يليه ونقص ما يجاوره، والنيل موزون على ديار مصر بوزن معلوم، وتقدير مرسوم لا يزيد عليه، ولا يخرج عن حده )ذلك تقدير العزيز العليم(.
ومنها أن المعهود في سائر الأنهار أن يأتي من جهة المشرق إلى المغرب، وهو يأتي من جهة المغرب إلى الشمال، فيكون فعل الشمس فيه دائماً، وأثرها في إصلاحه متصلا ملازما؛ وفي ذلك يقول الشاعر:
مصر ومصر ماؤها عجيب ... ونهرها يجري به الجنوب
ومنها أن كل الأنهار يوقف على منبعه وأصله، والنيل لا يوقف له على أصل منبع. وليس في الدنيا نهر يصب في بحر الصين والروم غيره؛ وليس في الدنيا نهر يزيد ثم يقف، ثم ينقص ثم ينضب على الترتيب والتدريج غيره؛ وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل، ولا يجيء من خراج غلة زرعه ما يجيء من خراج غلة زرع النيل.
قال صاحب مباهج الفكر: النيل أخف المياه وأحلاها، وارواها وامراها، واعمها نفعا، وأكثرها خراجا؛ ويحكى انه جبى في أيام كنعاوس؛ أحد ملوك القبط الأول مائة ألف ألف وثلاثون وثلاثون ألف دينار وجباه عزيز مصر مائة ألف ألف دينار، وجباه عمرو بن العاص أثنى عشر ألف ألف دينار، وجباه عبد الله بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار، ثم رذل إلى أن جبى أيام جوهر القائد ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف دينار؛ وسبب تقهقره أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق في الرجال الموكلين لحفر خلجه إصلاح جسوره، ورم قناطره، وسد ترعه، وقطع القضب وإزالة الحلفاء؛ وكانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل مرتبين على كور مصر سبعين ألفاً للصعيد، وخمسين ألفا لأسفل الأرض.
ويحكي أنها مسحت أيام هشام بن عبد الملك، فكان ما يركبه الماء مائة ألف ألف فدان، والفدان أربعمائة قصبة والقصبة عشرة أذرع.
وأما أحمد بن المدبر، فإنه اعتبر ما يصلح للزرع بمصر في وقت ولايته، فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان، والباقي قد استبحر وتلف، واعتبر مدة الحرث فوجدها ستين يوما، والحراث الواحد يحرث خمسين فدانا، فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وأربعين ألف حراث.
وقال صاحب مرآة الزمان: ذكر أحمد بن بختيار أن في الليل عجائب منها التمساح، ولا يوجد إلا فيه، ويسمى في مصر التمساح، وفي بلاد النوبة الورل، ووراء النوبة الشوشار.
قال: والتمساح لا دبر له، وما يأكله يتكون في بطنه دوادا، فإذا آذاه خرج إلى البرية فينقض عليه طائر فيأكل ما بين أسنانه، وما يظهر من الدود، وربما يطبق عليه التمساح، فيبلعه.
وذكر ابن حوقل أن بنيل مصر أماكن لا يضر التمساح فيها، كعدوة بوصير والفسطاط.
قال: وفي النيل السقنقور، ويكون عند أسوان، وفي حدودها. وقيل إنه من نسل التمساح إذا وضعه خارج الماء، فما قصد الماء صار تمساحا، وما قصد البر صار سقنقورا. وله قضيبان كالضب.
وفيه السمك الرعاد إذا وقع في شبكة الصياد، لا يزال ترتعد يداه ورجلاه حتى يلقيها أو يموت، وهي نحو الذراع.
وفيه سمكة على صورة الفرس. والمكان الذي يكون فيه لا يقربه التمساح.
وفيه شيخ البحر سمكة على صورة آدمي، وله لحية طويلة، ويكون بناحية دمياط وهو مشؤوم، فإذا رئى في مكان دل على القحط والموت والفتن.
ويقال: عن دمياط ما تنكب حتى يظهر عندها.
ذكر ما قيل في النيل من الأشعار
قال التيفاشي: قد ذكرت العرب النيل في أشعارها، وضربت به الأمثال، قال قيس ابن معدي كرب، فيما أورده الجاحظ في كتاب الأمصار:
ما النيل أصبح زاخراً بمدوده ... وجرت له ريح الصبا فجرى بها
قال بعضهم:
واهاً لهذا النيل أي عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع
يلقي الثرى في العام وهو مسلم ... حتى إذا ما مل عاد يودع
متنقل مثل الهلال فدهره ... أبدا يزيد كما يريد ويرجع
ظافر الحداد:
والنيل مثل عمامة ... شرب محشاة بأخضر
والجسر فيها كالطرا ... ز وموجه رقم مصور
تفريكه ما ... درجته له الرياح من التسكر
وقال يصف افتراقه عند رأس الروضة:
لله يوم أناله النيل ... لحسنه جملة وتفصيل (1/338)
في منظر مشرف على خضر ... كأنه في الظلام قنديل
تبدي لنا جانبا جزيرته ... أشيا بها للعين تأميل
ورقمه جسره وتفريكه المو ... ج وفي نكته للخليج تجميل ابن الساعاتي:
ولما توسطنا على النيل غدوة ... ظننت وقلت اليوم باللهو ملآن
عشارية أنشا لها الماء مقلة ... وليس لها إلا المجاذيف أجفان
محيي الدين بن عبد الظاهر:
نيل مصر لمن تأمل مرأى ... حسنه معجز وبالحسن معجب
كم به شاب فؤدها وعجيب ... كيف شابت بالنيل والنيل يخضب!
وقال:
كم قطع الطرق نيل مصر ... حتى لقد خافه السبيل
بالسيف والرمح من غدير ... ومن قناة لها نصول
ابن نباته:
زادت أصابع نيلنا ... وطغت وطافت في البلاد
واتت بكل مسرة ... ماذى أصابع ذي أيادي
النصير الحمامي:
عن عجل النيروز قبل الوفا ... عجل للعالم صفع القفا
فقد كفى من دمعهم ما جرى ... وما جرى من نيلهم ما كفى
ناصر الدين حسن بن النقيت:
كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي عند حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه
آخر:
النيل قال وقوله ... إذ قال ملء مسامعي
في غيظ من طلب العلا ... عم البلاد منافعي
وعيونهم بعد الوفا ... قلعتها بأصابعي
شمس الدين بن دانيال الحكيم:
كأنما النيل الخضم إذ بدا ... يروى حديثا وهو تسلسل
لما رأى الأرض بها شقيقه ... ضمخها بمائه المصندل
آخر:
يا نيل إجر على حسن العوائد في ... أرجاء مصرك وأجبر كل مرتزق
واعلم بأنك مصري فلست ترى ... حلو الفكاهة ما لم تأت بالملق
خليل بن الكفتي:
مولاي عن البحر لما زرته ... حياك وهو أخو الوفا بالإصبع
فانظر لبسطته فرؤيتك التي ... هي مشتهاة وروضة المتمتع
أرخى عليه الستر لما جئته ... خجلا ومدت ضرعا بالأذرع
آخر:
سد الخليج بكسره جبر الورى ... طرا فكل قد غدا مسرورا
الماء سلطان فكيف تواترت ... عنه البشائر إذ غدا مكسورا
شمس الدين سبط الملك الحافظ:
لله در الخليج عن له ... تفضلاً لإنزال نشكره
حسبك منه بان عادته ... يجبر من لا يزال يكسره
الصلاح الصفدي:
رأيت في ارض مصر مذ حللت بها ... عجائباً ما رآها الناس في جيل
تسود في عيني الدنيا فلم أرها ... تبيض إلا إذا ما كنت في النيل وقال:
ركبت في النيل يوماً مع أخي أدب ... فقال: دعني من قال ومن قيل
شرحت يا بحر صدري اليوم قلت له: ... لا تنكر الشرح يا نحوي للنيل
وقال:
قالوا علا نيل مصر في زيادته ... حتى لقد بلغ الأهرام حين طما
فقلت: هذا عجيب في بلادهم ... أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما
وقال:
قد زاد هذا النيل في عامنا ... فأغرق الأرض بأنعامه
وكاد أن يعطف من مائه ... عرى على أزرار أهرامه
تميم بن المعز العبيدي:
يوم لنا بالنيل مختصر ... ولكل يوم لذاذة قصر
والسفن تجري كالخيول بنا ... صعداً وجيش الماء منحدر
فكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر
آخر:
مد نيل القسطاط فالبر بحر ... زاخر فيه كل سفن تعوم
فكأن الارضين منه سماء ... وكان لضياع فيها نجوم
ظافر:
ولله مجرى النيل فيها إذا الصبا ... أرتنا به في سيرها عسكرا مجرى
فشط يهز السمهرية ذبلا ... ونهر يهز البيض هندية بترا
إذا مدحا كي الورد غضا وإن صفا ... حكى ماؤه لونا ولم يعده بسرا
أيدمر التركي:
كيمياء النيل خالصة ... قد أتتنا منه بالعجب
كان من ذوب اللجين فقد ... عاد بالتدبير من ذهب
راقص بالحسن مبتهج ... فهو في عجب وفي طرب
ومغاني مصر تسمعه ... نغمة الشادي بلا صخب
ونسيم الريح لاعبة ... في خلال الروض بالقضب
إبراهيم بن عبدون الكاتب:
والنيل بين الجانبين كأنما ... صبت بصفحته صفيحة صقيل
يأتيك من كدر الزواخر مده ... بممسك من مائه ومصندل (1/339)
فكان ضوء البدر في تمويجه ... برق يموج في سحاب مسبل
وكان نور السرج من جنباته ... زهو الكواكب تحت ليل أليل
مثل الرياض مصنفا أنوارها ... يبدو لعين مشبه وممثل
آخر:
أرى أبداً كثيرا من قليل ... وبدراً في الحقيقة من هلال
فلا تعجب فكل خليج ماء ... بمصر مشبه بخليج مال
زيادة إصبع في كل مد ... زيادة اذرع في كل حال
الأمير تميم بن المعز:
نظرت إلى النيل في مده ... بموج يزيد ولا ينقص
كان معاطف أمواجه ... معاطف جارية ترقص أيدمر التركي:
انظر إلى النيل السعيد المقبل ... والماء في أنهاره كالسليل
أضحى يريك الحسن بين مورد ... من لونه حيناً وبين مصندل
ويمر في قيد الرياح مسلسلاً ... بأحسنه من مطلق ومسلسل
وترى زوارقه على أمواجه ... منسوبة للناظر المتأمل
مثل العقارب فوق حيات غدت ... يسعى بها في عدوها ما يأتلي
وكأنما أسماكه من فضة ... من جمد ذائب مائه من أول
بعضهم:
أتطلب من زمانك ذا وفاء ... وتأمل ذاك جهلاً من بنيه
لقد عدم الوفاء به وإني ... لاعجب من وفاء النيل فيه
ومن كلام القاضي الفاضل في وصف النيل المصري الذي يكسو الفضاء ثوبا فضياً، ويدلي من الأرض ماءه سراجا من النور مضيا، ويتدافع تياره واقفا في صدر الجدب بيد الخصب، ويرضع أمهات خلجه المزارع فيأتي أبناؤها بالعصف والأب.
وقال فيه أيضا: وأما النيل فقد امتدت أصابعه، وتكسرت بالموج أضالعه، ولا يعرف الآن قاطع طريق سواه، ولا من يرجى ويخاف إلا إياه.
وقال أيضا: وأما النيل المبارك فقد ملء البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذراع، فكأنما غار على الأرض فغطاها، وأغار عليها فستقعد وما تخطاها.
ومن كتاب السجع الجليل فيما جرى من النيل: وأما البحر الذي بنى عليه عنوان هذه العبودية، فلا تسأل عما جرى منه، وما نقلت الرواة من العجائب عنه؛ وذلك انه عم في أول قدومه بالنفع البلاد، وساوى بين بطون الأودية وظهورها الوهاد. وقدم المفرد مبشرا بوفائه في جمع لا نظير له في الآحاد، واحمرت على ما طلب الغلاء عيونه، وتكفل للمصر بان يوفي بعد وفائه ديونه، ونزل السعر حين أخذ منه طالع الارتفاع، وأحدق بالقرى فأصبح كأنه سموات كواكبها الضياع؛ فلم يكن بعد ذلك إلا كلمح البصر أو هو اقرب، حتى عسل في شوارع مصر كما عسل الطريق الثعلب، وجاس خلال ديارها فأصبح على زرائبها المبثوثة بسطة، وأحاط بالمقياس إحاطة الدائرة بالنقطة.ثم علت أمواجه، واشتد اضطرابه، وكاد يمتزج بنهر المجرة الذي الغمام زبده والنجوم حبابه.
وشرق حتى ليس للشرق مشرق ... وغرب حتى ليس للغرب مغرب
وغلى ان قال: أما دير الطين فقد ليس سقوف حياطنه، واقتلع أشجار غيطانه، واتى على ما فيه من حاصل وغلة، وتركه ملقة فكان كما قيل: زاد الطين بلة.
وأما الجيزة فقد طغى الماء على قنارطها وتجسر، ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسر، فأصبح بعد اخضرار بزته شاحب الإيهاب، ناصل الخضاب، غارقاً في قعر )بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب(، وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء، وترك الصالح كالطالح يمشي على الماء )فتنادوا مصبحين. ألا يدخلها اليوم عليكم مسكين( وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص، )وغشيهم من اليم ما غشيهم( فنادوا )ولات حين مناص(، )وخر عليهم السقف من فوقهم( فانهدت قواهم، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.
وأما الروضة فقد أحاط بها إحاطة الكمام بزهره، والكأس بحباب خمره:
فكأنها فيه بساط أخضر ... وكأنه فيها طراز مذهب فكم بها من متهم ومنجد، ومسافر مما حصل له من المقيم المقعد. وحائك أصبح حول نوله ينير، وجعل من غزله بل من غيظه على أجيره يحمل ويسير. ومنجم وصل الماء من منزله إلى العتبة الخارجة فاصبح في أنحس تقويم، ودخل إلى بيت أمراضه )فنظر نظرة في النجوم فقال أني سقيم(، فاصبح في الطريق وعليه كآبة وصفرة، ودموعه في المحاجر كالحصى لها اجتماع وحمرة. وشاعر أوقعه في الضرورة بحره المديد، واشتغل بهدم داره عن بيت القصيد، وعروضي ضاقت عليه الدائرة: هذه الفاصلة، وقلع من عروض بيته وتدا أزعج بقلعه مفاصله. ونحوي اشتغل عن زيد وعمرو يبل كتبه، وذهل حين استوى الماء والخشبة، عن المفعول معه والمفعول به، وطار عقله لاسيما عن تصانيف ابن عصفور، واخبر أن البحر وأثاث بيته جار ومجرور. (1/340)
وأما الجزيرة الوسطى فقد افسد جل ثمارها، وأتى على مقاتيها فلم يدع شيئاً من رديها وخيارها، وألحق موجدها بالمعدوم، وتلا علي التكروري )سنسمه على الخرطوم(، وأخلق ديباج روضها الأنف، وترك قلقاسها بمده وجزره على شفا جرف.
وأما المنشأة فقد أصبحت للهجر مقرة، بعد أن كانت للعيون قرة، وقيل لمنشيها: )أنى يحيى هذه الله بعد موتها(، فقال: )يحييها الذي أنشأها أول مرة(. ومال على ما فيها من شون الغلات كل الميل، وتركها تتلو بفمها الذي شقتاه مصراعا الباب: )يا أبانا منع منا الكيل(.
وأما بولاق فقد أصبحت صعيداً زلقاً من الملق، وقامت المار بها حين التفت الساق بالساق من الزلق، فكم اقتلع بها شجرة لبت رءوسها، وترك ساقية تنوح على أختها التي أصبحت خاوية على عروشها.
وأما الخليج الحاكمي فقد خرج عسكر موجه بعد الكسر على حمية، ومرق من قسي قناطره كالسهم من الرمية، وتواضع حين قبل بحارة زويلة عتاب غرفها العالية وترك الساقين في حالة العجز عن وصفها صريع الدلاء وحماد الرواية. فأصبحوا من الكساد وقد سئموا الإقامة، قائلين في شوارع مصر: يا الله السلامة.
ذكر البشارة بوفاء النيل
جرت العادة كل سنة إذا وفي النيل ان يرسل السلطان بشيراً بذلك إلى البلاد لتطمئن قلوب العباد، وهذه عادة قديمة، ولم يزل كتاب الإنشاء ينشئون في ذلك الرسائل البليغة؛ فمن غنشاء القاضي الفاضل في وفاء النيل عن السلطان صلاح الدين بن أيوب: نعم الله سبحانه وتعالى من أضوئها بزوغا، واخفاها سبوغاً، وأصفاها ينبوعا، واسناها منفوعا، وامدها بحر مواهب، واختمها حسن عواقب. النعمة بالنيل المصري الذي يبسط الآمال ويقبضها صنوانا وغير صنوان، ويرمى النبات حجره، ويحيى مطلعه الحيوان، ويجني ثمرات الارض صنوانا وغير صنوان، وينشر مطوي حريريها وينشر مواتها، ويوضح معنى قوله تعالى: )وبارك فيها وقدر فيها أقواتها(.
وكان وفاء النيل المبارك تاريخ كذا، فأسفر وجه الأرض وإن كان تنقب، وامن يوم بشراه من كان خائفا يترقب، وراينا الإبانة عن لطائف الله التي خفقت الظنون، ووفت بالرزق المضمون، )إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون(. وقد أعلمناك لتستوفي حقه من الإذاعة، وتبعده من الإضاعة، وتتصرف على ما نصرفك من الطاعة، وتشهر ما اورده البشير من البشرى بإبانته، وتمده بإيصال رسمه مهنى على عادته.
وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر عن السلطان إلى نائب السلطنة يحلب بشارة بوفاء النيل: أعز الله أنصار المقر وسره بكل مبهجة، وهنأه بكل مقدمة سرور تفد وللخصب والبركة منتجه، وبكل نعمى لا تصبح لمنة السحاب محوجة، وبكل رحمى لا يستعد لأيامها الباردة ولا للياليها المثلجة. هذه المكاتبة تفهمه أن نعم الله وغن كانت متعددة، ومنحه وإن غدت بالبركات مترددة، ومنته وإن أصبحت إلى القلوب متوددة، فإن أشملها واكملها، وأجملها وأفضلها، وأجزلها وانهلهل، واتمها واعمها، وأضمها وألمها، نعمة اجزأت المن والمنح، وأنزلت في برك سفح المقطم أغزر سفح. واتت بما يعجب الزراع، ويعجل الهراع، ويعجز البرق اللماع، ويعل القطاع، ويغل الأقطاع، وتنبعث أفواهه وأفواجه، ويمد خطاها أمواهه وأمواجه، ويسبق وفد الريح من حيث ينبرى، ويغبط مريخه الأحمر القمر لان بيته السرطان كما يغبط الحوت لانه بيت المشترى، ويأتب عجبه في الغد بأكثر من اليوم وفي اليوم بأكثر من الأمس، ويركب الطريق مجداً فإن ظهر بوجهه حمرة فهي ما يعرض للمسافر من حر الشمس. ولو لم تكن شقته طويلة لما قيست بالذراع، ولولا أن مقياسه أشرف البقاع لما اعتبر ما تأخر من ماء حوله الماضي بقاع، بينا يكون في الباب إذا هو في الطاق، وبينا يكون في الاحتراق إذا هو في الاختراق للإغراق، وبينا يكون في المجاري، إذا هو في السواري، وبينا يكون في الجباب إذا هو في الجبال، وبينا يقال لزيادته: هذه الامواه إذ يقال لغلاته: هذه الأموال. وبينا يكون ماء إذ أصبح حبرا، وبينا هو يكسب تجارة قد أكسب بحراً، وبينا يفسد عراه قد أتى بعرار جسور على الجسور جيشه الكرار، وكم أمست التراع منه تراع والبحار منه تحار. كم حسنت مقطعاته على مر الجديدين، وكم أعانت مرارة مقياسه على الغرو من بلاد سيس على العمودين. أتم الله لطفه في الإتيان به على التدريج، وأجراه بالرحمة إلى نقص العيون بالتفرج والقلب بالتفريج، فأقبل جيشه بمواكبه، وجاء يطاعن الجدب بالصواري من مراكبه، ويصافف لجاجة الجسور في بيداء لججه، ويثاقف القحط بالتراس من بركه والسيوف من خلجه. (1/341)
ولما تكامل إيابه، وصح في ديوان الفلاح والفلاحة حسابه، وأظهر ما عنده من ذخائر التيسير وودائعه، ولفظ عموده حمل ذلك على أصابعه. وكانت الستة عشر ذراعا تسمى ماء السلطان، نزلنا وحضرنا مجلس الوفاء المعقود، واستوفينا شكر الله تعالى بفيض ما هو من زيادته محسوب ومن صداقاتنا مخرج ومن القحط مردود، ووقع تياره بين أيدينا سطوراً تفوق، وعلت يدنا الشريفة بالخلوق، وحمدنا السير كما حمد لنا السري، وصرفناه في القرى للقرى، ولم نحضره في العام الماضي فعملنا له من الشكر شكرانا وعمل هو ما جرى.
وحضرنا إلى الخليج وإذا به أمم قد تلقونا بالدعاء المجاب، وقرظونا فأمرنا ماءه أن يحثو من سده في وجوه المداحين التراب، ومر يبدي المساد ويعيدها، ويزور منازل القاهرة ويعودها، وإذا سئل عن أرض الطبالة، قال: جننا بليلى، وعن خلجها، وهي جنت بغيرنا. وعن بركة الفيل قال: وأخرى بنا مجنونة لا نريدها. وما برح حتى تعوض عن القيعان البقيعة، من المراكب بالسرر المرفوعة، ومن الأراضي المحروثة، من جوانب الأدرب بالزرابي المبثوثه.
وانقضى هذا اليوم عن سرور لمثله فليحمد الحامدون، وأصبحت مصر جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلد الأعين وأهلها في ظل الأمن خالدون. فليأخذ حظه من هذه البشرى التي ما كتبنا بها كتبت بها الرياح إلى نهر المجرة إلى البحر المحيط، ونطقت بها رحمة الله تعالى إلى مجاوري بيته من لا بس التقوى ونازعي المحيط، وبشرت بها مطايا المسير الذي يسير من قوص غير منقوص، ويتشارك بها الابتهاج في العالم فلا مصر دون مصر بها مخصوص.
والله تعالى يجعل الأولياء في دولتنا يبتهجون بكل أمر جليل، وجيران الفرات يفرحون بجريان النيل.
وكتب الصلاح الصفدي بشارة إلى بعض النواب في بعض الأعوام: ضاعف الله نعمة الجناب وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من الهناء كل آية أكبر من الأخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق غليه كل طليعة إذا تنفس صبحها تفرق الليل وتفرى، وأورد لديه من أنباء الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرى.
هذه المكاتبة إلى الجناب العالي نخصه بسلام يرى كالماء انسجاما، ويروق كالزهر ابتساما، ونتحفه بثناء جعل المسك له ختاما، وضرب له على الرياض النافحة خياما، ونقص عليه من أنباء النيل الذي خص الله البلاد المصرية بوفادة وفائه، وأغنى به قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافه وفائه، ونزهه عن منة الغمام الذي إن جاد فلابد من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي الأرض التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في نفعها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج مفارق الطرق ورءوس الجبال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك في سنائها المساكين كما قيل بحبال الشمس، وأين ارض يخد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج، من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب لأن القطر سهام والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث بقاعها لان السحب لا تراها إلا بسراج البرق إذا اتقد. فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل وأنا بالملق أطبع. والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها وجود الوفا، عند عدم الصفا، وبلوغ الهرم، إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق، إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر وهو كما يقال سلطان. (1/342)
وهو أكرم منتدى، وأعزب محتبى، وأعظم مجتدى، إلى غير ذلك من خصائصه، وبراءته مع الزيادة من نقائصه.
وهو انه في هذه العام المبارك جذب البلاد من الجدب وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من تراعه، وحضها بسواري الصواري تحت قلوعه وما هي غلا عمد قلاعه، وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة بمطالعتنا في كل يوم بحر قاعه في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعا وأقبلت سوابق الخيل سراعا، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، تضرع بمد ذراعه غلينا، وسلم عند الوفاء بأصابعه علينا. ونشر علم ستره، وطلب لكرم طباعه جبر العالم بكسره، فرسمنا بان يخلق، ويعلم تاريخ هنائه ويعلق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فوق موجه، ويهيل كئيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كان له فيها خبايا موروثة. ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلاه زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من بدور إناثه أشعتها المعكوسة. وبشر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المنحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجا بأموال الأمواه، وأزدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه. واعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنات طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله على العباد.
وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ منها ما نهبه لرعايانا من فوائدها. ونخص بالشكر قوادمها فهي تدب حولنا وتدرج، وتخص قوادمها بالثناء والمدح والحمد فهي تدخل إلينا وتخرج.
فليأخذ الجناب العالي حظه من هذه البشرى التي جاءت بالمن والمنح، وانهلت أياديها المغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجى أديم الأفق، ويتخذها عقداً تحيط منه بالعنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بألا يحرك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة، والله يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه.
وكتب الأديب تقي الدين أبو بكر بن حجة بشارة عن الملك المؤيد شيخ، سنة تسع عشرة وثمانمائة.
ونبدي لعلمه الكريم ظهور آية النيل الذي عاملنا الله فيه بالحسنى وزيادة، وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عادة، وخلق أصابعه ليزول الإيهام فأعلن المسلمون بالشهادة، كسر بمسرى فأمسى كل قلب بهذا الكسر مجبورا، واتبعناه بنوروز وما برح هذا الاسم بالسعد المؤيدي مكسورا، دق قفا السودان فالراية البيضاء من كل قلع عليه، وقبل ثغور الإسلام فأرشفها ريقه الحلو فمالت أعطاف غصونها إليه، وشبب خريره في الصعيد بالقصب، ومد سبائكه الذهبية إلى جزيرة الذهب، فضرب الناصرية واتصل بأم دينار، وقلنا: لولا أنه صبغ بقوة لما جاء وعليه ذلك الاحمرار.
وأطال الله عمر زيادته فتردد إلى الآثار، وعمته البركة فأجرى سواقي ملكه إلى ان غدت جنة تجري من تحتها الأنهار، وحضن مشتهى الروضة في صدره، وحنا عليها حنو المرضعات على الفطيم. (1/343)
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات، وسقى الأرض سلافته الخمرية فخدمته بحلو النبات، وأدخله إلى جنات النخيل والأعناب فالق النوى والحب، فارضع [في أحشاء الأرض] جنين النبت، وأحيا له أمهات العصف والأب. وصافحته كفوف الموز فختمتها بخواتمه العقيقية ولبس الورد تشريفه، وقال: أرجو ان تكون شوكتي في أيامه قوية، ونسى الزهر بحلاوة لقائه مرارة النوى، وهامت به مخدرات الأشجار فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدة الهوى، واستوفى النبات ما كان له في ذمة الري من الديون، ومازج الحوامض بحلاوته فهام الناس بالسكر والليمون، وانجذب إليه الكباد وامتد، ولكن قوي قوسه لما حظي منه بسهم لا يرد، ولبس شربوش الأترج وترفع إلى ان لبس بعده التاج، وفتح منثور الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج، فتناول مقالم الشنبر وعلم بأقلامها، ورسم لمحبوس كل سد بالإفراج، وسرح بطائق السفن فخفقت أجنحتها بمخلق بشائره، وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره، وحظى بالمعشوق وبلغ من كل منية مناه، فلا سكن على البحر إلا تحرك ساكنه بعد ما تفقه وأتقن باب المياه، ومد شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الخور، وزاد مترعه فاستحلى المصريون زائده على الفور، ونزل في بركة الحبش فدخل التكرور في طاعته، وحمل على الجهات البحرية فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته، وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقر الله عينه، وصار أهل دمياط في برزخ بين المالح وبينه، وطلب المالح رده بالصدر وطعن في حلاوة شمائله، فما شعر إلا وقد ركب عليه ونزل في ساحله.
وأما المحاسن فدارت دوائره على وجنات الدهر عاطفة، وثقلت أرداف أمواجه على خصور الجواري واضطربن كالخائفة، ومال شيق النخيل غليه فلثم ثغر طلعه وقبل سالفه، وأمست سود الجواري كالحسنات على حمرة وجناته، وكلما زاد زاد الله في حسناته؛ فلا فقير سد إلا حصل له من فيض نعماه فتوح، ولا ميت خليج غلا عاش به ودبت فيه الروح، ولكنه احمرت عينه على الناس بزيادة وترفع، فقال له المقياس: عندي قبالة كل عين إصبع. ونشر أعلام قلوعه وحمل وله على ذي الجزيرة زمجرة، ورام ان يهجم على غير بلاده فبادر إليه عزم المؤيدي وكسره.
وقد آثرنا الجناب بهذه البشرى التي سرى فضلها براً وبحرا، وحدثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالاً وصدراً، ليأخذ حظه من هذه البشارة البحرية بالزيادة الوافرة، وينشق من طيبها نشرا فقد حملت له من طيبات ذلك النسيم أنفاساً عاطرة. والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم ليصير بها في كل وقت مشنفا، ولا برح من نيلها المبارك وإنعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا.
ذكر المقياس
قال ابن عبد الحكم: كان أول من قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام، ووضع مقياسا بمنف، ثم وضعت العجوز دلوكة أبنة زباء مقياسا بأنصنا؛ وهو صغير الذرع ومقياسا بأخميم. ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وهو صغير، ووضع أسامة أبن زيد التنوخي في خلافة الوليد مقياسا بالجزيرة؛ وهي المسماة الآن بالروضة، وهو أكبرها؛ حدثنا يحيى بن بكير، قال: أدركت القياس يقيس في مقياس منف ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.
هذا ما ذكره أبن عبد الحكم.
قال التيفاشي: ثم هدم المأمون مقياس الجزيرة، وأسسه ولم يتمه، فأتم المتوكل بناءه وهو الموجود الآن.
وقال صاحب مباهج الفكر: المقياس الذي بأنصنا ينسب لأشمون بن قفطيم بن مصر ويقال إنه من بناء دلوكة، وبناؤه كالطيسان، وعليه أعمدة بعدد أيام السنة من الصوان الأحمر.
ورأيت في بعض المجاميع ما نصه: قال أبن حبيب: وجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم، قال: لما فتحت مصر عرف عمر بن الخطاب ما يلقى أهلها من الغلاء عن وقوف النيل عن مده في مقياس لهم فضلا عن تقاصره، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير قحط، فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، يسأله عن شرح الحال،، فأجابه فقال عمرو: إني وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحد الذي يروي منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتين المخوفتين في الزيادة والنقصان - وهو الظمأ والاستبحار - اثنتا عشر ذراعا في النقصان وثماني عشرة ذراعا في الزيادة؛ هذا والبلد في ذلك محفور الأنهار، معقود الجسور، عندما تسلموه من القبط وخمير العمارة فيه. (1/344)
فاستشار عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب في ذلك، أن يكتب إليه أن يبني مقياسا، وان ينقص ذراعين على اثنتي عشرة ذراعا، وأن يقر ما بعدها على الأصل، وأن ينقص من ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين.
ففعل ذلك وبناه بحلوان، فاجتمع له ما أراد من حال الإرجاف، وزال ما منه كان يخاف، بان يجعل الاثنتي عشرة ذراعا أربع عشرة ذراعا؛ لان كل ذراع أربعة وعشرون إصبعا، فجعلها ثمانية وعشرين من أولها إلى الأثنتي عشرة ذراعا، تكون مبلغ الزيادة على الاثنتي عشرة ثمانية وأربعين إصبعا؛ وهي الذراعان، وجعل الأربع عشرة ست عشرة والستة عشرة ثماني عشرة، والثماني عشرة عشرين ذراعا، وهي المستقرة الآن.
وقال بعضهم: كتب الخليفة جعفر المتوكل إلى مصر يأمر ببناء المقياس الجديد الهاشمي في الجزيرة سنة سبع وأربعين ومائتين؛ وكان الذي يتولى أمر المقياس النصارى، فورد كتاب أمير المؤمنين المتوكل في هذه السنة على بكار بن قتيبة قاضي مصر، بألا يتولى ذلك إلا مسلم يختاره؛ فاختار القاضي بكار لذلك الرداد عبد الله بن عبد السلام المؤدب، وكان محدثا فأقامه القاضي بكار لمراعاة المقياس، وأجرى عليه الرزق، وبقى ذلك في ولده إلى اليوم.
وقال صاحب المرآة: المقياس الظاهر الآن بناه المأمون، وقيل إنما بناه أسامة بن زيد التوخي في خلافة سليمان بن عبد الملك، ودثر فجدده المأمون. وبنى أحمد بن طولون مقياسين؛ أحدهما بقوص وهو قائم اليوم، والآخر بالجزيرة وقد انهدم.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في العود الذي يطلع به المقسي قياس النيل في كل يوم بزيادة النيل:
قد قلت لما أتى المقسي وفي يده ... عود به النيل قد عودى وقد نودى
أيام سلطاننا سعد السعود وقد ... صح القياس بجرى الماء في العود
ذكر جزيرة مصر
وهي المسماة الآن بالروضة
قال المقريزي: اعلم أن الروضة تطلق في زماننا على الجزيرة التي بين مدينة مصر وبين مدينة الجيزة، وعرفت في أول الإسلام بالجزيرة وجزيرة مصر، ثم قيل لها جزيرة الحصن، وعرفت الروضة من زمن الأفضل بن أمير الجيوش إلى اليوم. انتهى.
والجزيرة كل بقعة في وسط البحر لا يعلوها البحر، سميت بذلك لأنها جزرت، أي قطعت وفصلت من تخوم الأرض، فصارت منقطعة.
وفي الصحاح: الجزيرة: واحدة جزائر البحر؛ سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض.
وقال ابن المتوج في كتابه إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمل: إنما سميت جزيرة مصر بالروضة، لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها وبحر النيل حائز لها ودائر عليها، وكانت حصينة، وفيها من البساتين والثمار ما لم يكن في غيرها.
ولما فتح عمرو بن العاصي مصر تحصن الروم بها مدة، فلما طال حصارها وهرب الروم منها خرب عمرو بن العاصي بعض أبراجها وأسوارها، وكانت مستديرة عليها، واستمرت إلى أن عمر حصنها احمد بن طولون في سنة ثلاث وستين، ولم يزل هذا الحصن حتى خربه النيل.
وقال المقريزي: اعلم أن الجزائر التي هي الآن في بحر النيل كلها حادثة في الإسلام ما عدا الجزيرة التي تعرف اليوم بالروضة تجاه مدينة مصر؛ فغن العرب لما دخلوا مع عمرو ابن العاصي إلى أرض مصر وحاصروا الحصن الذي يعرف اليوم بقصر الشمع في مصر؛ حتى فتحه الله عنوة على المسلمين، كانت هذه الجزيرة حينئذ تجاه القصر، لم يبلغني إلى الآن متى حدثت، وأما غيرها من الجزائر كلها فقد تجددت بعد فتح مصر، وإلى هذه الجزيرة التجأ المقوقس لما فتح الله على المسلمين القصر، وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط. (1/345)
وقال ابن عبد الحكم: كان بالجزيرة في أيام عبد الملك بن مروان أمير مصر خمسمائة فاعل عدة لحريق إن كان في البلاد أو هدم.
وقال الكندي: بنيت بالجزيرة الصناعة في سنة أربع خمسين - والصناعة اسم لمكان قد أعد لإنشاء المراكب البحرية - وأول صناعة عملت بأرض مصر التي بنيت بالروضة في سنة أربع وخمسين من الهجرة، فاستمرت إلى أيام الإخشيد، فأنشا صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع الصناعة التي بالروضة بستانا سماه المختار.
وقال القضاعي: حصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين، ليحرز فيه حريمه وماله، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا من العراق والياً على مصر، وجميع أعمال ابن طولون، وذلك في خلافة المعتمد على الله، فلما بلغ احمد بن طولون مسيره تأمل مدينة فسطاط مصر، فوجدها لا تأخذ غلا من جهة النيل، فبنى الحصن بالجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة ليكون معقلاً لحريمه وذخائره، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما يضاف إليها من العشاريات وغيرها؛ فلما بلغ موسى بن بغا بالرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوته، ثم لم يلبث موسى أن مات، وكفى ابن طولون أمره.
وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون:
لما قضى ابن بغا بالرقتين ملا ... ساقيه درقاً إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصناً يستجن به ... بالعسف والضرب، والصناع في تعب
وواثب الجيزة القصوى فخندقها ... وكاد يصعق من خوف ومن رعب
له مراكب فوق النيل راكدة ... لما سوى القار للنظار والخشب
ترى عليها لباس الذل مذ بنيت ... بالشط ممنوعة من عزة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسباً ... لكن بناها غداة الروع للهرب
وقال سعيد القاص من أبيات:
وإن جئت راس الجسر فانظر تأملاً ... إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثراً لم يبق من يستطيعه ... من الناس في بدو البلاد ولا حضر
وما زال حصن الجزيرة هذا عامراً أيام بني طولون؛ حتى أخذه النيل شيئاً فشيئاً، وقد بقيت منه بقايا متقطعة إلى الآن.
وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل مصر في شعبان سنة خمس وعشرين وثلثمائة، وبنى مكانها البستان المختار، وصرف على بنائه خمسة آلاف دينار؛ فاتخذه الإخشيد متنزهاً به، وصار يفاخر به أهل العراق، ولم يزل متنزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدولة العبيدية؛ فكان يتنزه فيه المعز والعزيز، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس، بها وال وقاض. وكان يقال: القاهرة ومصر والجزيرة؛ فلما استولى الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الدين، أنشأ في بحري الجزيرة بستاناً نزهاً سماه الروضة، وتردد غليه ترددات كثيرة؛ ومن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف بالروضة.
قال ابن ميسر في تاريخ مصر: انشأ الأفضل الروضة بحري الجزيرة، وكان يمضي كل يوم إليها في العشاريات الموكبية، وكان قتل الأفضل في سنة خمس عشرة وخمسمائة.
قال: وفي سنة ست عشرة وخمسمائة، نقل المأمون البطائحي الوزير عمارة المراكب الحربية من الصناعة التي تجري بجزيرة مصر إلى الصناعة القديمة بساحل مصر، وبنى عليها منظرة كانت باقية إلى آخر أيام الدولة العلوية، فلما استبد الخليفة الآمر بالأمر، انشأ بجوار البستان المختار من جزيرة الروضة مكاناً لمحبوبته البدوية عرف بالهودج، وذلك لما صعب عليها السكنى في القصور، ومفارقة ما عتادته من الفضاء. وكان الهودج على شاطئ النيل في شكل غريب، ولم يزل الآمر يتردد إليه للنزهة فيه، إلى أن ركب غليه يوما، فلما كان براس الجسر، وثب عليه قوم كانوا كمنوا له بالروضة، فضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه، وذلك يوم الأربعاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ونهب سوق الجزيرة ذلك اليوم. (1/346)
قال ابن المتوج: اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب جزيرة مصر المشهورة بالروضة من بيت المال المعمور في شعبان سنة ست وعشرين وخمسمائة، وبقيت على ملكه إلى أن سير السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر، ومعه عمه الملك العادل، وكتب إلى الملك المظفر أن يسلم لهما البلاد، ويقدم عليه إلى الشام، فلما ورد عليه الكتاب، ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل، شق عليه خروجه من الديار المصرية، وتحقق انه لا عود له إليها أبدا، فوقف مدرسته التي تعرف في مصر بالمدرسة التقوية؛ وكانت قديماً تعرف بمنازل العز على الفقهاء الشافعية، ووقف عليها جزيرة الروضة بكمالها، ووقف أيضا مدرسة بالفيوم، وسافر إلى عمه صلاح الدين إلى دمشق، فملكه حماة، ولم يزل الحال كذلك إلى ان ولى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن السكري مدرس المدرسة المذكورة لمدة ستين سنة في دفعتين؛ كل دفعة قطعة، فالقطعة الأولى من جامع عين إلى المنظر طولا وعرضا من البحر إلى البحر، واستأجر القطعة الثانية، وهي باقي أرض الجزيرة الدائر عليها بحر النيل حينذاك، واستولى على ما كان للجزيرة من النخل والجميز والغروس فكأنه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخل، ودخلت في العمائر.
وأما الجميز فانه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة، وكان اهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع، قطعت جميعها في الدولة الظاهرية، وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان سيرها إلى جزائر قبرص، وتكسرت هناك، واستمر تدريس المدرسة التقوية بيد القاضي فخر الدين إلى حين وفاته، ثم وليها بعده ولده القاضي عماد الدين أبو الحسن علي، وفي أيامه تسلم له القطعة المستأجرة من الجزيرة أولا، وبقي بيد السلطنة القطعة الثانية إلى الىن، وكان الإفراج عنهما في شهور سنة ثمان وتسعين وستمائة في الدولة الناصرية، ولم يزل القاضي عماد الدين مدرسها إلى حين وفاته، فوليها ولده وهو مدرسها الآن في شعبان سنة أربع عشرة وسبعمائة. هذا كله ابن المتوج.
ولم تزل الروضة متنزها ومسكنا للناس إلى ان تسلطن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد، فأنشأ بالروضة قلعة، واتخذها سرير ملك، فعرفت بقلعة المقياس، وبقلعة الروضة، وبقلعة الجزيرة وبالقلعة الصالحية. وكان الشروع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ووقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة، وتحول الناس من مساكنهم التي كانت بها، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس، وأدخلها في القلعة، وانفق في عمارتها أموالا جمة، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجا، وبنى بها جامعا، وغرس بها جميع الأشجار، ونقل إليها من البرابي العمد الصوان والعمد الرخام، وشحنها بالأسلحة وآلات الحروب وما يحتاج إليها من الغلال والأقوات خشية من محاصرة الأفرنج فانهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر.
وبالغ في انتقائها مبالغة عظيمة؛ حتى قيل أنه استقام كل حجر فيها بدينار، وكل طوبة بدرهم، وكان الملك الصالح يقف بنفسه، ويرتب ما يعمل، فصارت تدهش من كثرة زخرفها، ويحير الناظر إليها حسن سقوفها المقرنصة، وبديع رخامها. ويقال أنهم قطع من الموضع الذي أنشا فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة، كان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره، وطيب طعمه. وخرب البستان المختار والهودج، وهدم ثلاثة وثلاثين مسجدا كانت بالروضة، وأدخلت في القلعة. (1/347)
واتفق له في بعض هذه المساجد خبر عجيب؛ قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليغموري: سمعت الأمير جمال الدين موسى بن يغمور بن جلدك، يقول: من عجيب ما شاهدته من الملك الصالح، أنه أمرني أن اهدم مسجدا بجزيرة مصر، فأخرت ذلك، وكرهت ان يكون هدمه على يدي، فأعاد الأمر، وأنا كاسر عنه؛ فكأنه فهم عني ذلك، فأستدعى بعض خدمه وأنا غائب، وأمره ان يهدم ذلك المسجد، وان يبني في مكانه قاعة، وقدر له صفتها، فهدم ذلك المسجد، وعمر تلك القاعة مكانه وكملت. وقدم الأفرنج على الديار المصرية، وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم، ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في مكان المسجد، فتوفى السلطان بالمنصورة، وجعل في مركب، وأتى به إلى الروضة فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدة إلى ان بنيت له التربة التي بجنب مدرسته بالقاهرة. وكان النيل في القديم محيطا بالروضة طول السنة، وكان فيما بين ساحل مصر والروضة جسر من خشب، وكذلك فيما بين الروضة والجيزة جسر من خشب يمر عليهما الناس والدواب من مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة؛ وكان هذان الجسران من مراكب مصطفة بعضها بحذاء بعض، وهي موثقة، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدة فوقها تراب.
وكان عرض الجسر ثلاث قصبات، ولم يزل هذا الجسر قائما إلى ان قدم المأمون مصر، فأحدث جسرا جديدا، فاستمر الناس يمرون عليه، وكان عبور العساكر التي قدم من المعز مع جوهر القائد على هذين الجسرين، وكان الجسر المتصل بالروضة كرسيه حيث المدرسة الخروبية قبلي دار النحاس، وكان النيل عندما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة قد أنطرد عن بر مصر، ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الزيادة، فلم يزل يغرق السفن في ناحية الجيزة، ويحفر فيما بين الروضة ومصر ما كان هناك من الرمال، حتى عاد ماء النيل إلى بر مصر، واستمر هناك، فأنشأ جسرا عظيما ممتدا من بر مصر إلى الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات. وكان كرسيه حيث المدرسة الخروبية قبلي دار النحاس، وصار أكثر مرور الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب؛ لان الجسرين قد أجترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة إلى السلطان بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البر، ويمشون في طول الجسر إلى القلعة ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبا، سوى السلطان فقط.
ولما كملت تحول إليها بأهله وحريمه، واتخذها دار ملك، واسكن معه فيها مماليكه البحرية؛ وكانت عدتهم نحو الألف. وما برح الجسر قائما إلى أن خرب المعز أيبك قلعة الروضة بعد سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأهمل، ثم عمره الظاهر بيبرس على المراكب، وعمله من ساحل مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة، لأجل عبور العسكر عليه لما بلغه حركة الإفرنج.
وقال علي بن سعيد في كتاب المغرب - وقد ذكر الروضة: هي أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل، وكانت متنزها لأهل مصر، فأختارها الصالح بن كامل سرير السلطنة، وبنى فيها قلعة مسورة بسور ساطع اللون، محكم البناء، عالي السمك، لم تر عيني أحسن منه، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر الخليفة لزوجته البدوية التي هام في حبها، والمختار بستان الأخشيد وقصره، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره. ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح ابن قادوس الدمياطي:
أرى سرح الجزيرة من بعيد ... كإحداق تغازل في المغازل
كان مجرة الجوزاء خطت ... وأثبت المنازل في المنازل
وكنت أبيت بعض الليالي في الفسطاط على ساحلها، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل. أما سور هذه الجزيرة الدوري اللون، فلم ينفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها، ومن أعظم السلاطين همة في البناء، وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم تر عيني مثاله، ولا يقدر ما انفق عليه، وفيه من الكتابة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل الأفكار، ويستوقف الأبصار، ويفصل عما أحاط به السور ارض طويلة في بعضها حاظر حظر على أصناف الوحوش التي يتفرج فيها السلطان، وبعدها بروج يتقطع فيها مياه النيل، فينظر فيها أحسن منظر، وقد تفرجت كثيرا في طرق هذه الجزيرة مما يلي بر القاهرة، فقطعت بها عشيات مذهبات، لا تزال لأحزان الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط بالكلية. وفي أيام احتراق النيل يتصل برها ببر السلطان من جهة خليج القاهرة، ويبقى موضع الجسر يكون فيه المراكب. (1/348)
وركبت مرة في هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن بندار وزير الجزيرة، وصعدنا إلى جهة الصعيد ثم أنحدرنا، واستقبلنا هذه الجزيرة وأبراجها تتلألأ، والنيل قد انقسم عنها، فقلت:
تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... مناظرها مثل النجوم تلالا
وللقلعة الغراء كالبدر طالعا ... يفرج صدر الماء عنه هلالا
ووافى إليها الماء من بعد غيبة ... كما زار مشغوفا يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق لحسنها ... فمد يمينا نحوها وشمالا
ولم تزل هذه القلعة عامرة، حتى زالت دولة بني أيوب، فلما ملك السلطان الملك المعز عز الدين ايبك التركماني أول ملوك الترك بمصر، أمر بهدمها، وعمر منها مدرسته المعروفة بالمعزية في رحبة الحناء بمدينة مصر، وطمع في القلعة من له جاه، وأخذ جماعة منها عدة سقوف وشبابيك وغير ذلك، وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة، فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري اهتم بعمارة قلعة الروضة، ورسم للأمير جمال الدين موسى بن يغمور أن يتولى عمارتها كما كانت. فأصلح بعض ما تهدم منها، ورتب بها الجانداريه وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة، وأمر بأبراجها ففرقت على الأمراء، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاوون الألفي، والبرج الذي يليه للأمير عز الدين الحلي، والبرج الثالث من برج الزاوية للأمير عز الدين أدغان، وأعطى برج الزاوية الغربي للأمير بدر الدين الشمسي، وفرقت بقية الأبراج على سائر الأمراء. ورسم ان يكون بيوت جميع الأمراء وإصطبلاتهم فيها، وسلم المفاتيح لهم. فلما تسلطن الملك المنصور قلاوون، وشرع في بناء المارستان والقبة والمدرسة المنصورية نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من العمد الصوان والعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة بالبرابي، وأخذ منها رخاما كثيرا، وأعتابا جليلة، مما كان بالبرابي وغير ذلك. ثم أخذ منها السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما احتاج إليه من العمد الصوان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل وبالجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر، وأخذ غير ذلك حتى ذهبت كان لم تكن.
قال المقريزي: وتأخر منها عقد جليل تسمية العامة القوس، كان مما يلي جانبها الغربي أدركناه باقيا إلى نحو سنة عشرين وثمانمائة، وبقى من أبراجها عدة قد انقلب كثير منها، وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها متنزهاً، تشتمل على دور كثيرة، وبساتين عدة، وجوامع تقام بها الجمعات والأعياد، ومساجد. وفي الروضة يقول الأسعد بن مماتي:
جزيرة مصر لاعدتك مسرة ... ولا زالت اللذات فيك اتصالها
فكم فيك من شمس على غصن بانة ... يميت ويحيى هجرها ووصالها
مغانيك فوق النيل أضحت هوادجاً ... ومختلفات الموج فيها جمالها
ومن اعجب الأشياء جنة ... ترف على أهل الضلال ظلالها
وقال ظافر الحداد:
انظر إلى الروضة الغراء والنيل ... واسمع بدائع تشبيهي وتمثيلي
وانظر إلى البحر مجموعا ومفترقاً ... هناك أشبه شيء بالسراويل
والريح تطويه أحيانا وتنشره ... نسميها بين تفريك وتعديل