تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة |
ورمى الله بك طغاة الكفار بتأييد الإسلام، وأختارك للمجاهدة عن الملة فأصبحت بك مرفوعة الأعلام، وأبدت الأعداء الجوامع الباكيات من المحايد والمخاوف وأعمال الحسام؛ فلو تراخى بك الأمل في جهادهم لكنت لجملهم مستأصلا، ولغدوت لهم عن الأعمال السامية بعرفانك فاضلا، فأثرك فيهم الأثر الذي لم يبلغه مجاهد، وما فللت في هامهم من حد العضب الصارم بباسل ناطق وبجدل شاهد. (1/285)
فما يبلغ التعداد ما جمعته من المناقب والفضائل، ولا يستولي الإحصاء على مالك من المفاخر التي لا يحيط بها أحد من الملوك الأوائل، فتجمع زهد الإبدال إلى همم الأكاسرة، وتوفق في أعمالك بين ما يقضي بصلاح الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فأنت البر التقي النقي الحسيب، الظاهر المبرأ من كل دنس وعيب، والمرضي خالقه بالأفعال التي لا ينجو بها لبس ولا ريب، وواحد الدنيا لا يسامى ولا يطاول، والملك الأوحد الذي برعت أدوات كماله فما يشابه ولا يماثل.
جعلتك الفضائل غريباً في الأنام، وخصك الحظ السعيد بفطرة تهرب فتهرب أن تأتي بمثلها الأيام، وحويت من الأخلاق الملوكية ما قصر بعظماء الملوك عن مجاراتك، واقتنيت من الحكم والمعارف ما جعل كافة العلماء مفترقين بعظم فضيلة ذاتك، وقرنت بين من عزه إذ فرار البيت ولطافة حكم القلم، وكاثرت فيك المعجزات لجمعك ما افترق من مفاخر الأمم.
فما أشرف ما أفردك الله به من كمال الشجاعة والبراعة، وتوحدك بمجده من معجزات تصنيف الصارم واليراعة، فسيفك مؤيد في قط العضو والهام، وقلمك ماض في البلاغتين مضاء لا يدرك إلا بالإلهام، فكم مقام جلال وجلاد فرجته بعضب وبنان، وموقف خطاب وضراب كشفت غمته بسن قلم وسنان.
فسبحان من أفردك باستكمال المآثر، وجمع لك من المحاسن ما أعجز وصفه جهد الناظم والناثر، وآتاك غاية شرف النفس وكرم الأصل، ومكنك من كل منقبة بإحراز السبق وإدراك الحصل، وأطلعك من أفق علاء تكاثرت سعوده، وأستخلصك من منصب سناء سما فأعجز النجم صعوده، وانتخبك من بيت عز غدت دعائمه للذات السمهرية وظلاله صفحات القبض المشرفية، وحشاياه صهوات الجرد الأعوجية.
ولقد كان وقع التحامل على الحضرة ببعدك عن فنائها، وحسدت على قربك منها لما يعلم من متابعتك لها، وإغراقك في ولائها، وحاد بك عن موضعك من الاختصاص بها من قصد اهتضامها، وأفسد لسوء عقيدته نظامها، وصامها على أنك لم تخل بنصرتها على بعد الدار، بل نصرت الحق حيث كان ودرت معه حيث دار. وقد كان أمير المؤمنين حين أبهمت الأمور، وحرجت الصدور، وحازت اللباب، واستشرف للارتياب، يرجو من الله أن يفجأه منك بالفرج القريب، ويصبي أعدائك من عزمك بالسهم المصيب، واستجاب الله دعاءه فيك بما ماثل دعاء جده رسول الله صلى الله عليه وسلم وضاهى، وحصل في ذلك على معنى قوله تعالى: )قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها(.
ولما أذهب الله بك أيها السيد الأجل الملك الصالح عن دولة أمير المؤمنين غايات العي، وأدرك بها ثار أولياء الله من ذوي المباينة والبغي، وأحسن له الصنيع بموازرتك، وبلغه مظافرتك ومكاتفتك لما أحاط الخبرة بأرجائه، وفقه من التعويل عليك لما كان غاية رجائه، فقلدك من وزارته، وفوض إليك تدبير مملكته وكفالته، وجعلك إمارة جيوشه الميامين، وكفالة قضاة المسلمين، وهداية دعاة المؤمنين، وتدبير ما هو مردود إليهم من الصلاة والخطابة وإرشاد الأولياء المستجيبين، والنظر في كل ما أغدقه الله من أمور أوليائه أجمعين، وجنوده وعساكره المؤيدين، وكافة رعاياه بالحضرة وجميع أعمال المملكة دانيها وقاضيها، وسائر أحوال الدولة بادييها وخافيها، وكل ما تنفذ فيه أوامره، تبوح بشعاره منابره، ورد إليك تدبير ما وراء سرير خلافته، وسياسة ما تحتوي عليه أقطار مملكته، وألقى إليك مقاليد البسط والقبض، والرفع والخفض، والإبرام والنقض، والقطع والوصل، والولاية والعزل، والتصرف والصرف، والإمضاء والوقف، والغض والتنبيه، والإخمال والتنويه، وجميع ما يقتضيه صواب التدبير من الإنعام والإرغام، وما توجبه أحكام السياسة من الإباء والإتمام، تيمناً بما يحقق مبالغتك من متابعته، واجتهادك في إعلامنا ودعوته، وعلماً بأن التوفيق لا يعدو وراك، والمسعود لا يفارق أنحاك.
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه الرتب العالية، والمنزلة التي قرب عليك تناولها أعمالك الزاكية، والمنصب الذي تحكم فيه بأمر أمير المؤمنين وتنطق بلسانه، وتبطش بيده وتحب وتبغض بقلبه وجنانه، جارياً على رسمك في تقوى الله وخشيته، واتباع مرضاته واستشعار رجعته، ومنتجزاً ما عد به في كتابه، إليه ينتهي الحكم وينتسب، إذ يقول تعالى: )ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب(. (1/286)
والعساكر المنصورة فهم أشياع الدين، وأعضاد دولة أمير المؤمنين، وأبناء دعوة آبائه الراشدين، والقائمون بمدافعة الأعداء عن حوزة الدولة العلوية، والمدخرون لكفاح المباين للملكة الفاطمية، والمنادون بشعارها في كل وقت وحين، والمعدون للذب عن بيضة المسلمين وأنصار الخلافة، وطاردو الوجل والمخافة، المصطلون نيران الحرب والكفاح، ذوو القلوب في المواقف التي تهتز فيها السيوف وتضطرب كعوب الرماح، والممنوحون مزية اللطف لحسن معتقدهم في الطاعة، والمستعملون في خدمة ولي نعمتهم جهد الطاقة والاستطاعة.
ومنهم الأمراء الأكابر، والأعيان الأخاير، وولاة الأعمال وسداد الثغور، واللائقة بهم سواعي الرتب ومعالي الأمور، والأولياء الذين سلمت موالاتهم من الشوائب، وأشتملوا على غرر المآثر والمناقب، والأنجاد الذين يندفع بهم الخطب الملك، والكفاة الذين يتسرعون إلى ما يندبون له من كل مهم، وما زلت تحسن لهم الوساطة في المحضر والمغيب، ويشيع ذكرهم بما يتضوع نشره ويطيب، وتسفر لهم بما يبلغون به آمالهم، وتجهد في توفير المنافع عليهم وتحرص على إيصالها لهم لا سيما الآن وجميع أمرهم إليك مردود، وقد ظهر لك من إخلاصهم في الطاعة مقامهم المشهور وسعيهم المحمود؛ فهم خليقون منك بمضاعفة المكرمة والتبجيل، جديرون بتوفير حظهم من الإحسان الجزيل.
فتوخى كلاً منهم بما يقتضيه له حاله، وتستدعيه نهضته واستقلاله، وتعرب لهم عما يمنون به من محض طاعتهم، وصريح مسابقتهم، وتسرعهم إلى مقارعة الأعداء والمخالفين، وتمسكهم بحبل الولاء المتين.
فأما القضاة والدعاة فأنت كافلهم وهاديهم، وعلمك محيط بقاصيهم ودانيهم، وتأنيك يبعثك على استكفاء إعفائهم وديانتهم، ويمنعك من استعمال المفضولين في علم وأمانة، ويحضك على التعويل على ذوي النزاهة والصيانة.
فأما الأموال وهي عماد الدول وقوامها، وبها يكون استثبات أمورها وانتظامها، ويستعان بها على الاستكثار من الرجال والأنصار، وبوفورها تقوم المهابة في نفوس مماليك الأطراف والأمصار؛ وأمير المؤمنين يرجو أن تتضاعف بنظرك، وتنمي لفاضل سياستك وحمد أثرك، تتسع بأذن الله في أيامك العمارة؛ وتتوافر بما ينعم الأعمال بحسن تأنيك من البهجة والنضارة.
والرعايا فهم ودائع الله عند من أستحفظ أمورهم، وعياله الذين يتعين على ولاة الأمر أن يشرحوا بالرعاية صدورهم، وتأكيد الوصايا بتخفيف الوطأة عليهم، والأمر بالعدل والاحسان على الصغير والكبير منهم؛ وقد خصك الله بالكمال، وحبب إليك الإحسان والإجمال، بغايات تنتج لك من أبواب المصالح ما لا تحيط به الوصايا، ويشترك في عائدة نفعه الخواص والأجناد والرعايا. وقدرك يجل أن نكثر لك بالقول ما نبتدع أضعافه بأفعالك المستحسنة، ومحلك مرتفع عن التنبيه إذ لا تلم بعين رعايتك إغفاءة ولا سنة.
والله سبحانه يؤيد الدولة العلوية بعزماتك الثاقبة، ويعيد عليها حقوقها بسيوفك القاضية وآرائك الصائبة، ويجعل أمد عمرك مديداً، وإقبالك في كل وقت جديدا، وأعمالك مرتضاة عند الله متقبلة، ووفود المنا جنابك متوالية مقبلة، فأعمل به إن شاء الله تعالى.
وكتب أمير المؤمنين الفائز على طرة السجل بخطه ما نصه: " لوزيرنا السيد الأجل الملك الصالح من جلالة القدر، وعظم الأمر وفخامة الشأن، وعلو المكان، واستحباب الفضل واستحقاق غاية المن الجزيل، ومزية الولي الذي بعثه على بذل النفس في نصرتنا، ودعاه دون الخلائق إلى القيام بحق متابعتنا وطاعتنا، ما يبعثنا على التبرع له ببذل كل مصون، والابتداء من ذاتنا بالاقتراح له كل شيء يسر النفوس ويقر العيون. والذي تضمنه هذا السجل من تقريظه وأوصافه، فالذي تشتمل عليه ضمائرنا أضعاف أضعافه؛ وكذلك شرفناه بجميع التدبير والإنالة، ورفعناه إلى أعلى رتب الاصطفاء بما جعلناه له من الكفالة، والله تعالى يعضد به دولتنا، ويحوط به حوزتنا، ويمده بمواد التوفيق والتأييد، ويجعل أيامه في وزارتنا ممنوحة بآيات الاستمرار والتأييد، إن شاء الله تعالى. (1/287)
قلت: كانت الوزارة قديماً تعدل السلطنة الآن، فإن الوزير كان نائب الخليفة في بلده، يفوض إليه جميع أمور المملكة، وتولية من رآه من القضاة ونواب البلاد وتجهيز العساكر والجيوش وتفرقة الأرزاق، إلى غير ذلك مما هو الآن وظيفة السلطان وكان الوزير يلقب بألقاب السلطنة الآن كالملك الصالح ونحوه، وقد تقهقر أمر الوزير حتى قال بعض وزراء القرن السابع: الوزير الآن عبارة عن " خوش كان عفش " يشتري اللحم والحطب وحوايج الطعام، والأمر كما قال.
وأقام أبن رزيك وزيرا إلى ان قتل في رمضان سنة ست وخمسين في خلافة العاضد، وكان العاضد والفائز وكلاهما تحت حجره، فأقيم بعده في الوزارة أبنه رزيك، ولقب العادل، فأقام فيها سنة وأياماً، وقتل.
ووزر بعده شاور بن مجير أبو شجاع السعدي، ولقب أمير الجيوش، وهو الوزير المشئوم الذي يضاهيه في الشؤم العلقمي وزير المستعصم؛ فإن هذا قد أطمع الفرنج في أخذ الديار المصرية، ومالأهم على ذلك، كما أن العلقمي هو الذي طمع التتار في أخذ بغداد، إلا أن لطف الله بمصر وأهلها، فقيض لهم عسكر نور الدين الشهيد، فأزاحوا الفرنج عنها، وقتل الوزير شاور بيد صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ وقال بعض الشعراء في ذلك:
هنيئاً لمصر حوز يوسف ملكها ... بأمر من الرحمن قد كان موقوتا
وما كان فيها قتل يوسف شاوراً ... يماثل إلا قتل داود جالوتا وكان قتل شاور في ربيع الآخر سنة أربع وستين.
وولي الوزارة بعده الأمير أسد الدين شيركوه؛ ولقب الملك المنصور، لقبه بذلك العاضد، فأقام فيها شهرين وخمسة أيام، ومات في جمادى الآخرة.
فاستوزر العاضد بعده أبن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولقب الملك الناصر، وقد تقدم ذكر الخليعة التي لبسها يومئذ. ثم إن صلاح الدين أزال دولة بني عبيد، وأعاد الخطبة لبني العباس في أول سنة سبع وستين، فصار لمصر أميراً بعد أن كان وزيراً.
وجعل وزيره القاضي الفاضل محيي الدين عبد الرحيم البيساني، فاستمر وزيرا له، ولولده الملك العزيز، ولولد العزيز الملك المنصور، إلى أن مات سنة ست وتسعين وخمسمائة.
فوزر بعده للعادل صفي الدين بن شكر الدميري، إلى أن عزل سنة تسع وستمائة.
ووزر للكامل أبن شكر أيضا والحسن بن أحمد الديباجي.
ووزر للصالح جمال الدين علي بن جرير الرقي ومعين الدين الحسن بن صدر الدين شيخ الشيخ، وأخوه فخر الدين يوسف، والقاضي بدر الدين السنجاري والقاضي تاج الدين بن بنت الأعز.
ووزر لشجرة الدر في دولتها بهاء الدين علي بن محمد بن سليم المعروف بابن حنا.
ووزر للمعز الأسعد - بل الأنحس الأشقى - هبة الله بن صاعد الفائزي، وكان هذا أول شؤم الأتراك في مملكتهم، أن عدلوا عن وزارة العلماء الأقباط والمسالمة، وكان الأسعد هذا نصرانياً فأسلم، فلما تولى الوزارة أحدث مكوساً ومظالم كثيرة على نحو ما كانت في أيام العبيديين ووزرائهم النصارى والرافضة، وقد كان السلطان صلاح الدين رحمه الله أبطلها فأحدثها هذا الملعون، وقد قال فيه بعضهم:
لعن الله صاعدا ... وأباه فصاعدا
وبنيه فنازلا ... واحداً ثم واحدا
ولما قتل المعز، وقبض على والده المنصور، أهين الأسعد هذا، ثم قتل في سنة خمس وخمسين.
وولي الوزارة للمظفر بعده القاضي بدر الدين السنجاري مضافاً لقضاة القضاة، ثم صرف من عامه عن الوزارة.
ووليها القاضي تاج الدين بن بنت الأعز، ثم صرف في ذي القعدة سنة سبع وخمسين. (1/288)
ووزر رزين الدين يعقوب بن عبد الرفيع المعروف بابن الزبير، فأقام إلى أيام الظاهر بيبرس، فعزله عن الوزارة في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين، واستوزر بعده الصاحب بهاء الدين أبن حنا؛ فأقام وزيرا إلى أن مات الظاهر، وتولى ولده الملك السعيد، فأقره على الوزارة، وكتب له تقليدا من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر. وهذه صورته: الحمد لله الذي وهب هذه الدولة القاهرة من لدنه وليا، وجعل مكان سرها وشد أزرها علياً، ورضى لها من لم يزل ربه مرضياً.
نحمده على نعمه التي أمسى بنا بره حفياً، ونشكره على أن جعل دولتنا جنة أورث تدبيرها من عباده من كان تقيا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نسبح بها بكرة وعشيا، ونصلى على سيدنا محمد الذي آتاه الله الكتاب، وجعله نبياً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتبع بها صراطاً سوياً.
وبعد، فإن أولى ما تنغمت به ألسنة الأقلام بتلاوة سوره، وتنعمت أفواه المحابر بالاستمداد لتسطير سيره، وتناجت الكرام الكاتبون بمجمله ومفصله، وتناشدت الرواة حسن نسيبه وترنمت الحداة بطيب غزله، وتهادت الأقاليم تحف معجله ومؤجله، وعنيت وجوه المهارق لصعود كلمه الطيب ورفع صالح عمله، ما كان فيه شكر لنعمة تمنها على الدولة سعادة جدودها وحظوظها، وإفادة مصونها ومحفوظها، وإرادة مرقومها بحسن الاستبداع وملحوظها، وحمد لمنحة وافاتها بركة أحسنت للمملكة الشريفة مآلا، وقربت لها مثالا، وأصلحت لها أحوالا، وكاثرت مدد البحر وكلما أجرى ذلك ماء أجرت هي مالاً، وإن ضنت السحب أنشأت سحباً، وإن قيل سح سحها ورونق الأرض ذهب، عوضت عنه ذهبا، كم لها في الوجود من كرم وكرامة، وفي الوجوه من ووسوم ووسامة، كم أحيت مهجاً، وكم جعلت للدولة من أمرها مخرجاً، وكم وسعت أملا وكم تركت صدر الخزائن ضيقاً حرجا، وكم استخدمت جيش تهجد في بطن الليل، وجيش جهاد على ظهور الخيل. وكم أنفقت في واقف في قلب بين الصفوف والحروب، وفي واقف في صفوف المساجد من أصحاب القلوب، كم سبيل يسرت، وسعود كثرت. وكم مخاوف أدبرت حين دبرت، وكم آثار في البلاد والعباد أبرت وأثرت. وكم وافت ووفت، وكم كفت وكفت، وكم أعفت وعفت وعفت. وكم بها موازين للأولياء ثقلت وموازين للأعداء خفت. وكم أجرت من وقوف وكم عرفت بمعروف. وكم بيوت عبادة صاحب هذه البركات هو محرابها، وسماء جود هو سيحانها ومدينة علم هو بابها. تثنى الليالي عن تغليسه إلى المساجد في الحنادس، والأيام على تهجيره لعيادة مرضى الفقراء وحضور جنائز وزيارة القبور الدوارس. يكتن تحت جناح عدله الظاعن والمقيم، ويشكر يثرب ومكة وزمزم والحطيم. كم عمت سنن تفقداته ونوافله. وكم مرت صدقاته بالوادي فسح الله في مدته فأثنت عليه رماله وبالنادي فأثنت أرامله، ما زار الشام إلا أغناه عن مسه المطر، ولا صحب سلطانه في سفر إلا قال. نعم الصاحب في السفر والحضر.
ولما كان المتفرد بهذه البركات هو واحد الوجود، ومن لا يشاركه في المزايا شريك وإن الليالي بإيجاد مثله غير ولود. وهو الذي إن لم نسمه، قال سامع هذه المناقب: هو الموصوف، عند الله وعند خلقه معروف. وهذا الممدوح بأكثر من هذه الممادح، والمحامد من ربه ممدوح وممنوح.
والمنعوت بذلك، قد نعتته بأكثر من هذه النعوت الملائك، وإنما نذكر نعوته التذاذاً، فلا يعتقد كاتب ولا خاطب أنه وفي جلالته بعض حقها؛ فإنه أشرف من هذا. وإذا كان لابد للمادح أن يجول، وللقلم أن يقول، فتلك بركات للمجلس العالي الوالدي الصاحبي الوزيري السيدي الورعي الزاهدي العابدي الذخري الكفيل للمهدي المشيدي العوني القوامي النظامي الأفضلي الأشرفي العاملي العادلي البهائي، سيد الوزراء والأصحاب في العالمين، كهف العابدين، ملجأ الصالحين، شرف الأولياء المتقين، مدبر الدول، سداد الثغور، صلاح الممالك، قدوة الملوك والسلاطين، يمين أمير المؤمنين، علي بن محمد أدام الله جلاله، من تشرف الأقاليم بحياطة قلمه المبارك، والتقاليد بتجديد تنفيذه الذي لا يساهم فيه ولا يشارك، فما جدد منها إنما هو بمثابة آيات تزاد فتردد، أو بمنزلة أسجال في كل حين به يحكم وفيه يشهد؛ حتى تتناقل بثبوته الأيام والليالي، ولا يخلو جيد دولة أن يكون الحالي بما له من مفاخر الللآلي، فلذلك خرج الأمر العالي لا برح بكسب بهاء الدين المحمدي أتم الأنوار، ولا برحت مراسمه تزهو من قلم منفذه بذي الفقر وذي الفقار؛ أن يضمن هذا التقليد الشريف بالوزارة التامة العامة الشاملة الكاملة الشريفة الصاحبية البهائية أحسن التضمين، وأن ينشر منها ما يتلقى روايته كل رب سيف وقلم باليمين، وأن يعلم كافة الناس ومن يضمه طاعة هذه الدولة وملكها من ملك وأمير، وكل مدينة ذات منبر وسرير، وكل من جمعته الأقاليم من نواب سلطنة، وذوي طاعة مذعنة، وأصحاب عقد وحل، وظعن وحل، وذوي جنود وحشود، ورافعي أعلام وبنود، وكل راع ورعية، وكل من ينظر في الأمور الشرعية، وكل صاحب علم وتدريس، وتهليل وتقديس، وكل من يدخل في حكم هذه الدولة العالية من شموسها المضيئة، وبدورها المنيرة، ونجومها المشرقة وشهبها الثاقبة في الممالك المصرية والنوبية والساحلية والكركية والشوبكية والشامية والحلبية، وما تداخل بين ذلك من ثغور وحصون وممالك. (1/289)
إن القلم المبارك الصاحبي البهائي في جميع هذه الممالك مبسوط، وأمر تدبيرها به منوط، وعناية شفقته لها تحوط، وله النظر في أحوالها وأموالها، وإليه أمر قوانينها ودواوينها، وكتابها وحسابها ومراتبها، ورواتبها وتصريفها ومصروفها، وإليه التولية والصرف، وإليه تقدمة البدل والنعت والتوكيد والعطف، وهو صاحب الرتبة التي لا يحلها سواه، وسوى من هو مرتضيه من السادة الوزرانية، ومن سمينا غيره وغيرهم بالصحوبية.
فليحذر من يخاطب غيرهم بها أو يسميه، فكما كان والدنا الشهيد يخاطبه بالوالد خاطبناه بذلك وخطبناه، وما عدلنا عن ذلك بل عدلنا، لأنه ما ظلم من أشبه أباه، فمنزلته لا تسامى ولا تسام، ومكانته لا ترامى ولا ترام؛ فمن قدح في سيادته من حساده - أبادهم الله - زناد قدح أحرق بشرر شرره، ومن ركب إلى جلالته سيح سوء أغرق في بحره، ومن فتل لسعادته حبل كيد فإنما فتله مبرمه لنحره.
فلتلزم الألسنة والأقلام والأقدام في خدمته أحسن الآداب، وليقل المترددون: حطة إذا دخلوا الباب، ولا يغرنهم فرط تواضعه لدينه وتقواه، فمن تأدب معه تأدب معنا ومن تأدب معنا تأدب مع الله.
وليتل هذا التقليد على رءوس الأشهاد، وتنسخ نسخته حتى تتناقلها الأمصار والبلاد؛ فهو حجتنا على من سميناه خصوصاً ومن يدخل في ذلك بطريق العموم، فليعلموا فيه بالنص والقياس والاستنباط والمفهوم.
والله يزيد المجلس العالي الصاحبي البهائي من فضله، ويبقيه لغاية هذه الدولة ويصونه لشبله كما صانه لأشده من قبله، ويمتع بنيته الصالحة التي يحسن بها إن شاء الله نماء الفرع كما حسن نماء اصله.
واستمر الصاحب بهاء الدين في الوزارة إلى أن مات في ذي القعدة سنة سبع وسبعين.
وكان الملك السعيد إذ ذاك بدمشق، فلما بلغته وفاته، أرسل إلى برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري باستقراره وزيرا بالديار المصرية، فقال القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر حين سير إليه تقليد الوزارة: بك زال الخلاف، واصطلح الخصمان يا دولة الملك السعيد، فلما قالت الوزارة بالبرهان قال البرهان بالتقليد.
وقال السراج الوراق حين خلع عليه:
تهن بخلعة لبست جمالاً ... بوجه منك سمح يجتلوه
وقال الناس حين طلعت فيها: ... أهذا البدر؟ قلت لهم: أخوه
وقال في خلعة ولده شمس الدين: (1/290)
أهنى الوزير ابن الوزير بخلعة ... محاسنها فتانة العقل والحس
أضاءت بها الآفاق شرقاً ومغرباً ... ولم لا، ومن أطواقها مطلع الشمس!
ولما عوجل خلع الملك السعيد، قال ناصر الدين بن النقيب:
تطيرت الوزارة من قريب ... بصاحبها الجديد ومن بعيد
وقالت: كعبه كعب شؤم ... ولاسيما على الملك السعيد
وأقام السنجاري في الوزارة إلى أن ولي قلاوون في رجب سنة ثمان وسبعين، فعزله. واستوزر فخر الدين بن لقمان كاتب السر، فأقام إلى جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين.
فأعيد السنجاري إلى الوزارة، ورجع ابن لقمان إلى كتابة الإنشاء، فأقام إلى ربيع الأول سنة ثمانين، فعزل.
ووزر نجم الدين حمزة بن محمد بن هبة الله الأصفوني.
ووزر الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وهو أول من ولي الوزارة من الأمراء، وأول وزير ضربت على بابه الطلبخاناه على قاعدة وزراء الخلافة بالعراق، ثم عزل.
ووزر الأمير بدر الدين بيدار، ثم صرف.
وأعيد الشجاعي، ثم صرف.
ووزر شمس الدين محمد بن عثمان المعروف بابن السلعوس، فأقام إلى قتل الأشرف، فأخذ وضرب إلى أن مات تحت الضرب.
وكان لما تولى الوزارة، كتب إليه بعض أصحابه يحذره من الأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوري:
تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي
وكن بالله معتصماً فإني ... أخاف عليك من نهش الشجاعي
فكان الذي تسبب في إهلاكه الشجاعي.
وولي الشجاعي الوزارة مكانه، فأقام بها اكثر من شهر، وحدثه نفسه بالسلطنة، فقتل.
وولي الوزارة بعده تاج الدين بن فخر الدين بن الصاحب بهاء الدين بن حنا، فأقام إلى ان تولى العادل كتبغا، فعزل.
وولي مكانه فخر الدين عثمان بن مجد الدين عبد العزيز بن الخليل، فأقام إلى أن تولى لاجين، فعزل.
وولي مكانه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، ثم عزل من عامه وحبس؛ فلما أعيد الملك الناصر إلى السلطنة اخرج الأعسر من الحبس وأعاده إلى الوزارة، ثم عزله في سنة إحدى وسبعمائة.
وولي الأمير عز الدين ايبك المنصوري، وولي ناصر الدين محمد السنجى ثم عزل في شوال سنة أربع.
ووزر سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء الله في المحرم سنة ست.
ووزر التاج أبو الفرج بن سعيد الدولة المسلماني، ووزر ضياء الدين النشائي، فلما عاد الناصر إلى السلطنة المرة الثالثة سنة سبع استوزر فخر الدين الخليلي ثم عزل في رمضان سنة عشر.
ووزر الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ثم عزل في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة.
ووزر أمين الملك أبو سعيد المستوفي.
ووزر في سنة ثلاث وعشرين أمين الملك ثم الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي.
ثم أبطل الناصر الوزارة، ورتب وظيفة ناظر الخواص، وولاها كريم الدين عبد الكريم بن هبة الله بن السديد، فكان كالوزير وربما قيل له: الصاحب، واستمرت الوزارة شاغرة إلى سنة أربع وأربعين.
فاستوزر الكامل شعبان نجم الدين محمود بن شروين، وكان اصله وزير بغداد في المحرم ووزر الأمير أيتمش المحمدي، ووزر الأمير منجك اليوسفي، ثم عزل ثالث ربيع الأول سنة تسع وأربعين.
ووزر الأمير أستدمر العمري في رابع عشرة ثم استعفى في خامس عشرين ربيع الآخر، فأعفى.
وأعيد منجك، ثم عزل في محرم سنة إحدى وخمسين.
ووزر علم الدين عبد الله بن احمد بن زنبور القبطي، ثم عزل في رمضان سنة ثلاث وخمسين.
ووزر موفق الدين هبة الله بن سعد الدولة القبطي، فأقام إلى أن مات في ربيع الآخر سنة خمس وخمسين، وشغرت الوزارة بعده إلى سنة ثمان وخمسين.
ووزر الأمير قشتمر، ثم عزل سنة تسع وخمسين.
ووزر تاج الدين بن رشية، ثم عزل سنة إحدى وستين.
ووزر جمال الدين يوسف بن أبي شاكر.
ثم وزر الأمير الأكز الكثلاوي.
ثم وزر كريم الدين بن غنام، ثم فخر الدين بن تاج الدين موسى، ثم صرف سنة أربع وسبعين.
ووزر ابن الغنام، ثم صرف سنة خمس وسبعين.
وأعيد منجك اليوسفي إلى الوزارة، وفوض إليه السلطان كل أمور المملكة، وأنه أقامه مقام نفسه في كل شيء، وأنه يخرج الإقطاعات التي عبرتها سبعمائة دينار فما دونها، وأنه يعزل من شاء من أرباب الدولة، ويخرج الطبلخانات والعشراوات بسائر الممالك الشامية، ورسم للوزير أن يجلس قدامه في الدركات، ثم مات منجك في سنة سبعين. قال ابن الكرماني في مختصر المسالك: وهو الذي جعل المماليك اللحم السميط في وزارته، ولم يكن يفرق عليهم قبل ذلك إلا السليخ. (1/291)
ووزر تاج الدين عبد الوهاب الملكي، ويعرف بالنشو، ثم صرف في رجب سنة ست وسبعين.
وأعيد ابن الغنام، ثم صرف من عامه.
وتعطلت الوزارة إلى ربيع الأول سنة سبع وسبعين، فأعيد التاج الملكي، ثم صرف سنة ثمان وسبعين.
وأعيد ابن الغنام ثم صرف.
وأعيد النشو ثم صرف.
واستقر كريم الدين بن الرويهب، ثم عزل في شوال سنة تسع وسبعين.
ووزر صلاح الدين خليل بن عرام، ثم عزل في صفر سنة ثمانين.
ووزر كريم الدين بن مكانس، ثم عزل في شوال من السنة.
وأعيد النشو، ثم عزل في ربيع سنة إحدى وثمانين.
ووزر شمس الدين بن أبر ثم عزل سنة خمس وثمانين.
ووزر شمس الدين إبراهيم كاتب اربان، فأقام إلى أن مات سنة تسع وثمانين.
ووزر بعده علم الدين إبراهيم القبطي بن كاتب سيدي، ثم عزل في رمضان سنة تسع.
ووزر كريم الدين بن غنام، ثم وزر موفق الدين أبو الفرج في صفر سنة اثنتين وتسعين.
ثم وزر سعد الدين الله بن البقري في ربيع الآخر من السنة، ثم عزل في رمضان سنة اثنتين وتسعين.
وأعيد أبو الفرج، ثم عزل في صفر.
ووزر ركن الدين عمر بن قيماز، ثم عزل في رجب.
ووزر تاج الدين بن أبي شاكر، ثم عزل في المحرم سنة خمس وتسعين.
وأعيد موفق الدين، ثم عزل سنة ست وتسعين.
ووزر الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلبك بن الحسام، ولقب وزير الوزراء إلى أن مات سنة ثمان وتسعين.
ووزر مبارك شاه، ثم صرف في رجب.
وأعيد ابن البقري، ثم عزل في ربيع الأول سنة تسع وتسعين.
ووزر بدر الدين محمد الطوخي، ثم صرف في ربيع الآخر سنة إحدى وثمانمائة.
ووزر الشهاب أحمد بن عمر بن قطنة، ثم صرف في ذي الحجة من السنة.
ووزر فخر الدين ماجد بن غراب، ثم صرف في ربيع الآخر سنة اثنتين.
وأعيد بدر الدين الطوخي، ثم عزل.
وأعيد ابن غراب، ثم عزل في رجب سنة ثلاث.
ووزر الأمير مبارك شاه الحاجب، ثم صرف.
ووزر تاج بن البقري، ثم صرف في المحرم.
ووزر فخر الدين بن غراب، ثم عزل سنة خمس.
ووزر علاء الدين الأخمص، ثم عزل في شوال.
ووزر مبارك شاه، ثم صرف.
وولي تاج الدين بن البقري، ثم توارى في المحرم سنة ست وثمانمائة.
وأعيد علم الدين أبوكم، ثم هرب بعد ثمانية أيام.
وأعيد ابن البقري، ثم هرب في ربيع الأول.
وأعيد تاج الدين بن عبد الرزاق، ثم هرب أيضا بعد أيام.
وأعيد ابن البقري، ثم صرف في ذي الحجة سنة سبع.
وأعيد فخر الدين ماجد بن غراب، ثم صرف سنة تسع.
ووزر جمال الدين البيري الأستادار، ثم صرف في سنة اثنتي عشرة.
ووزر تاج الدين بن الهيصم.
ثم وزر تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر في المحرم سنة تسع عشرة، فأقام إلى ذي القعدة من السنة، ومات.
فوزر فخر الدين الأستادار في سنة عشرين.
ووزر أرغون شاه، ثم صرف في جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين.
ووزر بدر الدين بن محب الدين، ثم صرف في ذي القعدة من عامه.
ووزر بدر الدين بن نصر الله، ثم صرف في المحرم سنة أربع وعشرين.
ووزر تاج الدين كاتب المناخات، ثم صرف في ذي الحجة سنة خمس وعشرين.
ووزر أرغون شاه، ثم صرف في شوال سنة ست وعشرين.
ووزر كريم الدين بن كاتب المناخات، ثم صرف في رجب سنة سبع وثلاثين.
ووزر أمين الدين بن الهيصم، ثم صرف في سنة ثمان وثلاثين.
ووزر سعد الدين إبراهيم بن كاتب حكم.
ثم وزر أخوه جمال الدين يوسف في ربيع الأول من السنة، ثم صرف في جمادى الآخرة من السنة.
ووزر تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير، ثم صرف في رمضان سنة تسع وثلاثين.
ووزر الأمير خليل بن شاهين نائب الإسكندرية، ثم صرف.
ووزر كريم الدين بن كاتب المناخ في ربيع الأول سنة أربعين.
ثم جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وزر عوضاً عن أمين الدين بن الهيصم، ثم صرف. (1/292)
ووزر سعد الدين فرج بن النجار، ثم صرف في جمادى سنة ثمان وخمسين.
وأعيد أمين الدين بن الهيصم، ثم صرف في ذي القعدة من السنة.
وأعيد سعد الدين.
ثم وزر علي بن محمد الأهناسي، ثم صرف في صفر سنة أربع وستين.
ووزر فارس المحمدي يوما واحدا، ثم صرف.
ووزر منصور الكاتب ثم صرف.
ووزير منصور الكاتب ثم صرف.
ووزر محمد الأهناسي والد علي المذكور عشرة أيام.
ثم وزر منصور الأسلمي ثم صرف في ربيع الآخر.
وأعيد سعد الدين بن النجار، ثم صرف في ربيع الأول سنة خمس وستين.
وأعيد علي بن الاهناسي، ثم صرف.
ووزر شمس الدين بن صنيعة، ثم صرف في صفر سنة سبع وستين.
وأعيد ابن الاهناسي، ثم صرف في شوال.
ووزر مجد الدين بن البقري، ثم صرف في المحرم سنة ثمان وستين.
ووزر يونس بن عمر بن جربغا، ثم صرف عن قرب.
وأعيد المجد بن البقري ثم صرف في ربيع الأول.
ووزر محمد البباوي إلى أن غرق آخر ذي الحجة سنة تسع وستين.
وأعيد الشرف يحيى بن صنيعة، ثم صرف في جمادى الآخرة.
ووزر قاسم القرافي، ثم صرف.
ووزر الأمير يشبك الدوادار، ثم صرف.
ووزر الأمير خشقدم الطواشي، ثم صرف.
ووزر ابن الزرازيري كاشف الصعيد ثم صرف عن قرب.
وأعيد قاسم، ثم صرف.
ووزر الأمير أقبردي الدوادار.
ثم ولي بعده الأمير كربتاي الأحمر يوم الخميس، مستهل ذي الحجة سنة إحدى وتسعمائة.
ذكر كتاب السر
قال أبن الجوزي في التلقيح: كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت الأنصاري ومعاوية بن أبي سفيان وحنظلة بن الربيع الأسدي وخالد بن سعيد بن القاضي وأبان بن سعيد والعلاء بن الحضرمي؛ وكان المداوم على الكتابة زيد ومعاوية.
وكان كاتب أبي بكر الصديق عثمان بن عفان، وكاتب عمر زيد بن ثابت وكاتب عثمان مروان بن الحكم، وكاتب علي عبد الله بن رافع وسعيد بن أبي نمر، وكاتب الحسن كاتب أبيه، وكاتب معاوية عبيد الله بن أوس الغساني. وكاتب يزيد عبيد الله بن أوس، وشعبان الأحول، وكاتب عبد الملك بن مروان روح بن زنباع الجذامي وقبيصة بن ذؤيب، وكاتب أبنه الوليد قبيصة بن ذؤيب وقرة بن شريك والضحاك بن زمل، وكاتب سليمان يزيد بن المهلب وعبد العزيز بن الحارث، وكاتب عمر بن عبد العزيز رجاء بن حيوة الكندي وليث بن بي رقية، وكاتب يزيد بن عبد الملك سعيد بن الوليد الأبرش ومحمد أبن عبد الله بن حارثة الأنصاري، وكاتب هشام هذان وسالم مولاه، وكاتب الوليد العباس أبن مسلم، وكاتب يزيد بن الوليد ثابت بن سليمان، وكاتب إبراهيم بن الوليد ثابت هذا، وكاتب مروان الحمار عبد الحميد بن يحيى مولى بني عامر.
وقال ابن فضل الله: كانت كتابة الإنشاء في المشرق في خلافة بني العباس منوطة بالوزراء، وربما أنفرد بها رجل، واستقل بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزارة، فكان يسمى في المشرق كتاب الإنشاء. ثم لما كثر عددهم سمى رئيسهم رئيس ديوان الإنشاء، ثم بقي يطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء وتارة كاتب السر. قال: وهي عندي أنبه، وعند الناس أدل، وكانت في دولة السلاجقية وملوك الشرق يسمى ديوان الطغراوية، والطغراء، هي الطرة بالفارسية. وأهل المغرب يسمون صاحب ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى. انتهى.
وقال غيره: إنما حدثت وظيفة كتابة السر في أيام قلاوون، وكانت هذه الوظيفة قديما في ضمن الوزارة، والوزير هو المتصرف في الديوان، وتحت يده جماعة من الكتاب، وفيهم رجل كبير يسمى صاحب ديوان الإنشاء، وصاحب ديوان الرسائل، فكان الكاتب للسفاح عبد الجبار بن عدي ثم كتب للمنصور، وكتب أيضا عبد الله بن المقفع المشهور بالبلاغة وأبو أيوب المورياني، وكتب للمهدي وزيره معاوية بن عبد الله والربيع بن يونس الحاجب، وكتب للهادي عمرو بن بزيع، فلما استخلف الرشيد ولي يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الإنشاء، فكان هو الذي قام خطيبا بين يديه، حتى أخذت له البيعة، وكنب للمأمون أحمد بن يوسف والقاسم بن صبيح الكاتب وأحمد أبن الضحاك الطبري، وعمرو بن مسعدة والمعلى بن أيوب وعمرو بن مهبول، وكتب للمعتصم والواثق إبراهيم الموصلي. وكتب للمتوكل أحمد بن المدبر وإبراهيم بن العباس الصولي. وكتب للطائع أبو القاسم عيسى بن الوزير علي بن عيسى بن الجراح. وكتب للقادر إبراهيم بن هلال الصابئ، وكان على دين الصابئة إلى أن مات. (1/293)
وكتب لجماعة من الخلفاء أبو سعيد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموجلايا، قال بعضهم: كتب في الإنشاء للخلفاء خمسا وستين سنة، وكان نصرانيا، فأسلم على يد المقتدي.
وكتب للمقتدي سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الكريم أبن الأنباري. قال أبن كثير: كان كاتب الإنشاء ببغداد للخلفاء، وانفرد بصناعة الإنشاء.
وكتب للناصر قوام الدين يحيى بن سعيد الواسطي المشهور بابن زيادة صاحب ديوان الإنشاء ببغداد، ومن انتهيت إليه رياسة الترسل.
وكتب للمستعصم عز الدين عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد المدائني الكاتب ومات سنة خمس وخمسين وستمائة، وقتل الخليفة عقب موته. فهو آخر كتاب الإنشاء خلفاء بغداد.
قلت: ومن الاتفاق الغريب أن آخر خلفاء بني أمية كتب له عبد الحميد الكاتب وآخر خلفاء بني العباس ببغداد كتب له من اسمه عبد الحميد.
وأما مصر فلم يكن بها ديوان إنشاء من حين فتحت إلى أيام أحمد بن طولون، فقوى أمرها، وعظم ملكها، فكتب عنده أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود.
وكتب لولده خمارويه إسحاق بن نصر العبادي.
وتوالت دواوين الإنشاء بذلك إلى أن ملكها العبيدية، فعظم ديوان الإنشاء بها ووقع الاعتناء به واختيار بلغاء الكتاب ما بين مسلم وذمي؛ فكتب للعزيز بن المعز وزيره أبن كلس ثم أبو عبد الله الموصلي، ثم أبو المنصور بن حورس النصراني، ثم كتب للحاكم ومات في أيامه.
وكتب للحاكم بعده القاضي أبو الطاهر الهولي، ثم كتب لابن الحاكم الظاهر.
وكتب للمستنصر القاضي ولي الدين بن خيران وولي الدولة موسى بن الحسن بعد انتقاله إلى الوزارة وأبو سعيد العبدي.
وكتب للآمر والحافظ أبو الحسن علي بن أبي أسامة الحلبي، إلى أن توفى، فكتب ولده أبو المكارم إلى أن توفى ومعه أمين الدين تاج الرياسة أبو القاسم علي بن سليمان المعروف بابن الصرفي والقاضي كافي الكفاة محمود بن الموفق بن قادوس وابن أبي الدم اليهودي. ثم كتب بعد ابن أبي المكارم القاضي موفق الدين أبو الحجاج يوسف بن الخلال بقية أيام الحافظ إلى آخر أيام العاضد، وبه تخرج القاضي الفاضل.
ثم أشرك العاضد مع ابن الخلال في ديوان الإنشاء القاضي جلال الدين محمود الأنصاري.
ثم كتب القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني بين يدي ابن الخلال في وزارة صلاح الدين، فلما ملك صلاح الدين كتب له القاضي الفاضل. ثم أضيفت إليه الوزارة. ثم كتب بعده لابنه العزيز ثم لولده المنصور ومات.
وكتب للكامل أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدرج إلى ان مات، فكتب بعده أمين الدين عبد المحسن بن حمود الحلبي ثم كتب للصالح أيضا.
ثم ولي ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهير الشاعر المشهور، ثم صرف وولي بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الأسعردي، فأقام إلى انقراض الدولة الأيوبية، وكتب بعدها للمعز ايبك ثم للمظفر قطز، ثم للظاهر بيبرس ثم للمنصور قلاوون، ثم نقله قلاوون من ديوان الإنشاء للوزارة.
وولي ديوان الإنشاء مكانه فتح الدين بن عبد الظاهر، وهو أول من سمي كاتب السر، وسبب ذلك ما حكاه الصلاح الصفدي أن الملك الظاهر رفع إليه مرسوم أنكره، فطلب محي الدين بن عبد الظاهر وأنكر عليه، فقال: يا خوند، هكذا قال لي الأمير سيف الدين بن بلبان الدوادار، فقال السلطان: ينبغي أن يكون للملك كاتب سر يتلقى المرسوم منه شفاها - وكان قلاوون حاضرا من جملة الأمراء - فوقرت هذه الكلمة في صدره، فلما تسلطن أتخذ كاتب سر، فكان فتح الدين هذا أول من شهر بهذا الأسم؛ وكان هو والوزير لقمان بين يدي السلطان، فحضر كتاب، فأراد الوزير أن يقرأه، فأخذ السلطان الكتاب منه، ودفعه إلى فتح الدين، وأمره بقراءته، فعظم ذلك على أبن لقمان؛ وكانت العادة إذ ذاك ألا يقرأ أحد على السلطان كتابا بحضرة الوزير. واستمر فتح الدين في كتابة السر إلى أن توفي أيام الأشرف خليل. (1/294)
فولي مكانه تاج الدين بن الأثير إلى أن توفي.
وولي شرف الدين بن عبد الوهاب العمري، ثم نقله الناصر في سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى كتابة السر بدمشق.
وولي مكانه علاء الدين بن تاج الدين بن الأثير إلى أن فلج.
وولي محيي الدين بن فضل الله، وولده شهاب الدين معينا له لكبر سنه، ثم صرفا.
وولي شهاب الدين بن الشهاب محمود ثم صرف، وأعيد أبن فضل الله وولده شهاب الدين ثم صرفا إلى الشام.
وولي علاء الدين بن فضل الله أخو شهاب الدين، فاستمر في الوظيفة نيفاً وثلاثين سنة إلى أن مات سنة تسع وستين وسبعمائة.
وولي ولده بدر الدين محمد إلى أن تسلطن برقوق فصرفه.
وولي أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل التركماني؛ إلى أن مات في ذي الحجة سنة ست وثمانين.
وأعيد بدر الدين إلى أن تسلطن برقوق الثانية، فصرفه.
وولي علاء الدين علي بن عيسى الكركي إلى أن مات سنة أربع وتسعين.
وأعيد بدر الدين إلى أن مات في شوال سنة ست وتسعين.
وولي بدر الدين محمود الكلستاني إلى أن مات في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة.
وولي فتح الدين فتح الله بن مستعصم التبريزي، ثم صرفه الناصر فرج بسعد الدين أبن غراب مدة يسيرة، ثم صرف أبن غراب، وأعيد فتح الله ثم صرف، وولي فخر الدين بن المزوق ثم صرف، وأعيد فتح الله إلى أن قبض عليه المؤيد سنة ست عشرة وثمانمائة.
وولي ناصر الدين محمد بن البارزي إلى أن مات في سنة ثلاث وعشرين.
وولي ولده كمال الدين محمد، ثم صرف.
وولي علم الدين داود بن الكويز إلى أن مات سنة ست وعشرين.
وولي جمال الدين يوسف بن الكركي ثم صرف.
وولي قاضي القضاة شمس الدين الهروي الشافعي، ثم صرف.
وولي نجم الدين عمر بن حجي ثم صرف.
وولي شمس الدين محمد بن مزهر إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين.
وولي ولده جلال الدين محمد، ثم صرف.
وولي الشريف شهاب الدين الدمشقي إلى أن مات بالطاعون.
وولي شهاب الدين أحمد بن السفاح الحلبي إلى أن مات سنة خمس وثلاثين.
وولي الوزير كريم الدين عبد الكريم كاتب المناخ مضافا للوزارة ثم صرف بعد أشهر.
وأعيد الكمال بن البارزي، ثم صرف في رجب سنة تسع وثلاثين.
وولي محب الدين بن الأشقر، ثم صرف.
وولي صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن نصر الله إلى أن مات بالطاعون سنة إحدى وأربعين.
وولي مكانه أبوه الصاحب بدر الدين حسن، ثم صرف في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين.
وأعيد ابن البارزي إلى أن مات في صفر سنة ست وخمسين.
وأعيد أبن الأشقر ثم صرف في ذي القعدة.
وولي محب الدين بن الشحنة ثم صرف بعد ستة أشهر.
وأعيد أبن الأشقر، ثم صرف في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين.
وأعيد أبن الشحنة ثم صرف في شوال سنة ست وستين.
وولي القاضي برهان الدين بن الديري، ثم صرف بعد نصف شهر.
وولي القاضي تقي الدين أبو بكر بن كاتب السر بدر الدين بن مزهر، فاستمر إلى الآن عامله الله بألطافه، وختم لنا وله بخير. آمين! ثم توفي في سادس رمضان سنة ثلاث وتسعين، وولي ولده القاضي بدر الدين أعزه الله تعالى!
ذكر جوامع مصر
أعلم أنه من حين فتحت مصر لم يكن بها مسجد تقام فيه الجمعة سوى جامع عمرو بن العاص إلى أن قدم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس من العراق في طلب مروان الحمار سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فنزل عسكره في شمالي الفسطاط وبنوا هنالك الأبنية، فسمي ذلك الموضع بالعسكر، وأقيمت هناك الجمعة في مسجد فصارت الجمعة تقام بجامع عمرو وبجامع العسكر إلى أن بنى السلطان أحمد بن طولون جامعه حين بنى القطائع، فأبطلت الخطبة من جامع العسكر، وصارت الجمعة تقام بجامع عمرو وبجامع أبن طولون إلى أن قدم جوهر القائد، واختط القاهرة، وبنى الجامع الأزهر في سنة ستين وثلاثمائة، فصارت الجمعة تقام بثلاثة جوامع. (1/295)
ثم أن العزيز بالله بنى في ظاهر القاهرة من جهة باب الفتوح الذي يعرف اليوم بجامع الحاكم سنة ثمانين وثلاثمائة، وأكمله ابنه الحاكم، ثم بنى جامع المقس وجامع راشدة، فكانت الجمعة تقام في هذه الجوامع الستة إلى أن انقضت دولة العبيديين في سنة سبع وستين، وخمسمائة، فبطلت الجمعة من الجامع الأزهر، وبقيت فيما عداه.
فلما كانت الدولة التركية أحدثت عدة جوامع، فبني في زمن الظاهر بيبرس جامع الحسينية في سنة تسع وستين؛ ثم بنى الناصر بن قلاوون الجامع الجديد بمصر في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وبنى أمراؤه وكتابه في أيامه نحو ثلاثين جامعا، وكثرت في هذا القرن وما بعده إلى الآن؛ فلعلها الآن في مصر والقاهرة أكثر من مائتي جامع.
قال هشام بن عمار: حدثنا المغيرة بن المغيرة، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه، قال: لما افتتح عمر البلدان كتب إلى أبي موسى وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجد للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك، وكتب إلى أمراء أجناد الشام ألا ينبذوا إلى القرى وأن ينزلوا المدائن، وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدا واحدا، ولا تتخذ القبائل مساجد؛ وكان الناس متمسكين بأمر عمر وعهده.
وقال القضاعي: لم تكن الجمعة تقام في زمن عمرو بن العاص بشيء من أرض مصر إلا بجامع الفسطاط.
قال أبن يونس: جاء نفر من غافق إلى عمرو بن العاص، فقالوا: أنا في الريف، فنجتمع في العيدين الفطر والأضحى، ويؤمنا رجل منا، قال: نعم، قالوا: فالجمعة؟ قال: لا، ولا يصلي الجمعة بالناس إلا من أقام الحدود، وأخذ بالذنوب، وأعطى الحقوق.
جامع عمرو
قال أبن المتوج في إيقاظ المتغفل وإيعاظ المتؤمل: هو الجامع العتيق المشهور بتاج الجوامع، قال الليث بن سعد: ليس لأهل الراية مسجد غيره؛ وكان الذي حاز موضعه أبن كلثوم التجيبي، ويكنى أبا عبد الرحمن، ونزله في حصارهم الحصن، فلما رجعوا من الإسكندرية سأل عمرو وقيسبة في منزله هذا، تجعله مسجدا؟ فقال قيسبة: فإني أتصدق به على المسلمين، فسلمه إليهم؛ فبنى في سنة إحدى وعشرين، وكان طوله خمسين ذراعا في عرض ثلاثين. ويقال إنه وقف على إقامة قبلته ثمانون رجلا من الصحابة، منهم الزبير ابن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت و [أبو] الدرداء وأبو ذر وأبو بصرة ومحمية بن جزء الزبيدي ونبيه بن صواب وفضالة بن عبيد وعقبة بن عامر ورافع بن مالك وغيرهم.
ويقال إنها كانت مشرفة جدا، وأن قرة بن شريك لما هدم المسجد وبناه في زمن الوليد تيامن قليلا.
وذكر أن الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة كانا يتيامنان إذا صليافيه؛ ولم يكن للمسجد الذي بناه عمرو محراب مجوف، وإنما قرة بن شريك جعل المحراب المجوف.
وأول من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ عامل الوليد على المدينة حين هدم المسجد النبوي، وزاد فيه.
وأول من زاد في جامع ومسلمة بن مخلد، وهو أمير مصر سنة ثلاث وخمسين، شكا الناس إليه ضيق المسجد، فكتب إلى معاوية، فكتب معاوية إليه بأمره بالزيادة فيه، فزاد فيه من بحرية، وجعل له رحبة من البحري وبيضه وزخرفه، ولم يغير البناء القديم، وا أحدث في قبلته ولا غربيه شيئا.
وكان عمرو قد اتخذ منبرا، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعزم عليه في كسره: أما بحسبك أن تقوم قائما، والمسلمون جلوس تحت عقبيك! فكسره.
وذكر أنه زاد من شرقيه حتى ضاق الطريق بينه وبين دار عمرو بن العاصي وفرشه بالحصر وكان مفروشا بالحصباء. (1/296)
وقال في كتاب الجند العربي: إن مسلمة نقض ما كان عمرو بن العاصي بناه، وزاد فيه من شرقيه، وبنى فيه أربع صوامع، في أركانه الأربعة برسم الأذان، ثم هدمه عبد العزيز بن مروان أيام إمرته بمصر في سنة تسع وسبعين، وزاد فيه من ناحية الغرب، وادخل فيه الرحبة التي كالت بحرية.
ثم في سنة تسع وثمانين أمر الوليد نائبه بمصر برفع سقفه وكان مطأطئاً، ثم هدمه قرة بن شريك بأمر الوليد سنة اثنتين وتسعين وبناه، فكانوا يجمعون في قيسارية العسل حتى فرغ من بنائه في رمضان سنة ثلاث وتسعين، ونصب فيه المنبر الجديد في سنة أربع وتسعين، وعمل فيه المحراب المجوف، وعمل للجامع أربعة أبواب، ولم يكن له قبل إلا بابان، وبنى فيه بيت المال بناه أسامة بن زيد التنوخي متولي الخراج بمصر سنة تسع وتسعين؛ فكان مال المسلمين فيه، ثم زاد فيه صالح علي بن عبد الله بن عباس، وهو يومئذ أمير من قبل السفاح، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فادخل فيه دار الزبير بن العوام، واحدث له بابا خامسا.
ثم زاد فيه موسى بن عيسى الهاشمي، وهو يومئذ أمير مصر من قبل الرشيد في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة.
ثم زاد فيه عبد الله بن الحسين - وهو أمير مصر من قبل المأمون - في جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة ومائتين؛ فتكامل ذرع الجامع مائتين وتسعين ذراعا بذراع العمل طولا في مائة وخمسين عرضا. ويقال إن ذرع جامع ابن طولون مثل ذلك سوى الأزقة المحيطة بجوانبه الثلاثة. ونصب عبد الله بن طاهر اللوح الأخضر، فلما احترق الجامع احترق ذلك اللوح، فجعل أحمد بن محمد العجيفي هذا اللوح مكانه، وهو الباقي إلى اليوم.
ولما تولى الحارث بن مسكين القضاء من قبل المتوكل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين،أمر ببناء هذه الرحبة لينتفع الناس بها، وبلط زيادة بن طاهر، وأصلح السقف. ثم زاد فيه أبو أيوب أحمد بن محمد بن شجاع صاحب الخراج في أيام المستعصم في سنة ثمان وخمسين ومائتين.
ثم وقع في مؤخر الجامع حريق في ليلة الجمعة لتسع خلون من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، فأمر خمارويه بن أحمد بن طولون بعمارته على يد العجيفي، فأعيد على ما كان، وانفق فيه ستة آلاف وأربعمائة دينار، وكتب اسم خمارويه في دائرة الرواق الذي عليه اللوح الأخضر.
وزاد فيه أبو حفص العباسي أيام نظره في قضاء مصر خلافة لأخيه الغرفة التي يؤذن فيها المؤذنون في السطح؛ وذلك في سنة ست وثلاثين وثلثمائة.
ثم زاد فيه أبو بكر محمد بن عبد الله بن الخازن رواقا مقداره تسعة أذرع، وذلك في رجب سنة سبع وخمسين وثلثمائة، ومات قبل إتمامه فأتمه ابنه علي، وفرغ في رمضان سنة ثمان وخمسين، ثم بنى فيه الوزير أبو الرفج يعقوب بن كلس بأمر العزيز بالله الفوارة التي تحت قبة بيت المال، وهو أول من عمل فيه فوارة.
وفي سنة سبع وثمانين وثلثمائة بيض المسجد، ونقشت ألواحه، وذهب على يد برجوان الخادم، وعمل فيه تنور يوقد كل ليلة جمعة.
وفي سنة ثلاث وأربعمائة انزل إليه من القصر بألف ومائتين وتسعين مصفحاً في ربعات، فيها ما هو مكتوب بالذهب كله، ومكن الناس من القراءة فيها، وأنزل إليه تنور من فضة استعمله الحاكم بأمر الله برسم الجامع، فيه مائة ألف درهم فضة، فاجتمع الناس، وعلق بالجامع بعد أن قلعت عتبتا الجامع حتى أدخل به.
ثم في أيام المستنصر في رمضان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة زيد في المقصورة في شرقيها وغربيها، وعملت منطقة فضة في صدر المحراب الكبير، أثبت عليها اسم أمير المؤمنين، وجعل لعمودي المحراب أطواقاً من فضة، فلم يزل ذلك إلى أن أستبد السلطان صلاح الدين بن أيوب فأزاله.
وفي ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، عمل مقصورة خشب ومحراب ساج منقوش بعمودي صندل برسم الخليفة، تنصب له في زمن الشتاء إذا صلى الإمام في المقصورة الكبيرة.
وفي سنة أربع وستين وخمسمائة تمكن الفرنج من ديار مصر، وحكموا في القاهرة حكما جائرا، فتشعث الجامع، فلما استبد السلطان صلاح الدين جدده في سنة ثمان وستين وخمسمائة، ورخمه ورسم عليه اسمه، وعمر المنظرة التي تحت المئذنة الكبيرة، وجعل لها سقاية.
ولما تولى تاج الدين بن بنت الأعز قضاء الديار المصرية أصلح ما مال منه، وهدم ما به من الغرف المحدثة، وجمع أرباب الخبرة، واتفق الرأي على إبطال جواز الماء إلى الفسقية، وكان الماء يصل إليها من بحر النيل، فأمر بإبطاله لما كان فيه من الضرر على جدار الجامع. (1/297)
وجد السلطان بيبرس في عمارة ما تهدم من الجامع، فرسم بعمارته، وكتب اسم الظاهر بيبرس على اللوح الأخضر، وجليت العمد كلها، وبيض الجامع بأسره، وذلك في رجب سنة ست وستين وستمائة. ثم جدد في أيام المنصور قلاوون سنة سبع وثمانين وسبعمائة.
ولما حدثت الزلزلة في سنة اثنتين وسبعمائة تشعث الجامع فجدده سلار نائب السلطنة.
ثم تشعث في أيام الظاهر برقوق، فعمره الرئيس برهان الدين إبراهيم بن عمر المحلي رئيس التجار، وأزال اللوح الأخضر، وجدد لوحا آخر بدله وهو الموجود الآن، وانتهت عمارته في سنة أربع وثمانمائة.
وقال ابن المتوج، ذرع هذا الجامع اثنان وأربعون ألف ذراع بذراع البز المصري القديم، وهو ذراع الحصر المستمر الآن، وذرعه بذراع العمل ثمانية وعشرون ألف ذراع، وعدد أبوابه ثلاثة عشر بابا.
وممن تولى إمامة هذا الجامع أبو رجب العلاء بن عاصم الخولاني، وهو أول من سلم في الصلاة تسليمتين بهذا الجامع، بكتاب ورد عليه من المأمون يأمره بذلك؛ وصلى خلفه الإمام الشافعي حين قدم مصر، فقال: هكذا تكون الصلاة، ما صليت خلف أحد أتم صلاة من أبي رجب ولا أحسن.
ولما تولى القصص حسن بن الربيع بن سليمان في زمن المتوكل سنة أربعين ومائتين، أمر بترك قراءة " بسم الله الرحمن الرحيم " في الصلاة، وأمر أن تصلي التراويح، وكانت تصلى قبل ذلك ست تراويح.
قال القضاعي: ولم يكن الناس يصلون بالجامع صلاة العيد، حتى كانت سنة ست وثلثمائة صلى فيها رجل يعرف بعلي بن أحمد بن عبد الملك الفهمي صلاة الفطر، ويقال إنه خطب من دفتر نظرا، وحفظ عنه أنه قال: " اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مشركون " ، فقال بعض الشعراء:
قام في العيد لنا خطيباً ... فحرض الناس على الكفر
وذكر بعضهم انه كان يوقد في الجامع العتيق كل ليلة ثمانية عشر ألف فتيلة وأن المطلق برسمه خاصة لوقود كل ليلة أحد عشر قنطارا زيتاً طيباً.
وقال المقريزي: أخبرني شهاب الدين أحمد بن عبد الله الأوحدي، أخبرني المؤرخ ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات، أخبرنا العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن ابن الصائغ الحنفي، انه أدرك بجامع عمرو قبل الوباء الكائن في سنة تسع وأربعين وسبعمائة بضعاً وأربعين حلقة لإقراء العلم لا تكاد تبرح منه.
جامع أحمد بن طولون
هذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر، قال ابن عبد الظاهر: وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل: إن موسى عليه صلاة والسلام ناجى ربه عليه بكلمات.
وابتداء في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بنائه القطائع، وهي مدينة بناها ما بين سفح الجبل حيث القلعة الآن، وبين الكبارة وما بين كوم الجارح وقناطر السباع؛ فهذه كانت القطائع.
وكان ابتداء بنائه في سنة ثلاث وستين ومائتين، وفرغ منه سنة ست وستين، وبلغت النفقة عليه في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. وقيل: إنه قال: أريد أن ابني بناء إن احترقت مصر بقى، وإن غرقت بقى، فقيل: تبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر، ولا تجعل فيه أساطين خام، فإنه لا صبر له في النار؛ فبنى هذا البناء، فلما كمل بناؤه أمر بان يعمل دائرة منطقه عنبر معجون ليفوح ريحها على المصلين، وأشعر الناس بالصلاة فيه، فلم يجتمع فيه أحد، وظنوا انه بناه من مال حرام، فخطب فيه، وحلف أنه ما بنى هذا المسجد بشيء من ماله، وإنما بناه بكنز ظفر به، وإن العشار الذي نصبه على منارته وجده في الكنز.
فصلى الناس فيه، وسألوه أن يوسع قبلته، فذكر أن المهندسين اختلفوا في تحرير قبلته، فرأى في المنام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: يا أحمد، ابن قبلة هذا الجامع على هذا الموضع؛ وخط له في الأرض صورة ما يعمل. فلما كان الفجر مضى مسرعا إلى ذلك الموضع؛ فوجد صورة القبلة في الأرض مصورة، فبنى المحراب عليها، ولا يسعه أن يوسع فيه لأجل ذلك، فعظم شأن الجامع، وسألوه أن يزيد فيه زيادة، فزاد فيه.
قال الخطيب: ركب أحمد بن طولون يوماً يتصيد بمصر، فغاصت قوائم فرسه في الرمل، فأمر بكشف ذلك الموضع، فظهر له كنز فيه ألف ألف دينار، فأنفقها في أبواب البر والصدقات، وبنى منها الجامع، وانفق عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وبنى المارستان، وانفق عليه ستين ألف دينار. (1/298)
وقال صاحب مرآة الزمان: قرأت في تاريخ مصر أن ابن طولون كان لا يعبث قط، وأنه أخذ يوما درجا من الكاغد، وجعل يعبث به، وبقى بعضه في يده، فعجب الحاضرون فقال: اصنعوا منارة الجامع على هذا المثال، وهي قائمة اليوم على ذلك. قال: ولما تم بناء الجامع رأى ابن طولون في منامه كان الله تجلى للقصور التي حول الجامع، ولم يتجل للجامع، فسأل المعبرين، فقالوا: يخرب ما حوله، ويبقى الجامع قائما وحده. قال: ومن أين لكم هذا؟ قالوا: من قوله تعالى: )فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً(. وقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا تجلى الله لشيء خضع له " ، فكان كما قالوا.
وفي الخطط للمقريزي: بنى أحمد بن طولون جامعه على بناء جامع سامراء، وكذلك المنارة، وبيضه وحلقه وفرشه بالحصر العبدانية، وعلق فيه القناديل المحكمة بالسلاسل النحاس المفرغة الحسان الطوال، وحمل إليه صناديق المصاحف، وكان في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها، وهي مذهبة على عشرة عمد رخام مفروشة كلها بالرخام، وتحت القبة قصعة رخام سعتها أربعة أذرع، وسطها فوارة تفور بالماء، وكانت على السطح علامات للزوال والسطح بدر ابزين ساج، فاخترق هذا كله في ساعة واحدة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، فلما كان في محرم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة؛ أمر العزيز بالله بن المعز ببناء فوارة عوضا عن التي احترقت.
قال المقريزي: ولما كمل بناء جامع بن طولون صلى فيه القاضي بكار إماما، وخطب فيه أبو يعقوب البلخي، وأملى فيه الحديث الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي، ودفع إليه بن طولون في ذلك اليوم كيسا فيه ألف دينار. وعمل الربيع كتاباً فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة " ، ودس أحمد بن طولون عيونا لسماع ما يقوله الناس من العيوب في الجامع، فقال رجل: محرابه صغير، وقال آخر: ما فيه عمود، وقال آخر: ليس له ميضأة، فجمع الناس وقال: أما المحراب فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خطه لي، وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إما أن تكون من مسجد أو كنيسة، فنزهته عنهما؛ وأما الميضأة، فها أنا خلفه، ثم عمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها، جمع الأشربة والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث من الحاضرين للصلاة، وأوقف على الجامع أوقافاً كثيرة سوى الرباع ونحوها، ولم يتعرض إلى شيء من أراضي مصر البتة.
ثم لما وقع الغلاء في زمن المستنصر خربت القطائع بأسرها، وعدم السكن هنالك، وصار ما حول الجامع خرابا.
وتوالت الأيام على ذلك، فتشعث الجامع، وخرب أكثره، وصارت المغاربة تنزل فيه بإبلها ومتاعها عند ما تقدم الحج، وتمادى الأمر على ذلك.
ثم إن لاجين لما قتل الأشرف خليل بن قلاوون هرب، فاختفى بمنارة هذا الجامع فنذر إن نجاه الله من هذه الفتنة ليعمرنه، فنجاه الله، وتسلطن، فأمر بتجديده، وفوض أموره إلى الأمير علم الدين سنجر الزيني، فعمره ووقف عليه وقفاً، ورتب فيه دروس التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة والقراءات والطب والميقات حتى جعل من جملة ذلك وقفا على الديكة تكون في سطح الجامع في مكان مخصوص بها لأنها تعين الموقتين وتوقظهم في السحر. فلما قرئ كتاب الوقف على السلطان أعجبه، كل ما فيه إلا أمر الديكة، فقال: أبطلوا هذا لا تضحكوا الناس علينا، فأبطل.
وأول من ولي نظره بعد تجديده الأمير علم الدين سنجر العادلي، وهو إذ ذاك دودار السلطان لاجين.
ثم ولي نظره قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم وليه أمير مجلس في أيام الناصر محمد بن قلاوون؛ فلما مات وليه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة. ثم ولاه الناصر للقاضي كريم الدين، فجدد فيه مئذنتين، فلما نكبه السلطان عاد نظره للقاضي الشافعي إلى أيام السلطان حسن، فتولاه الأمير صرغتمس؛ وتوفر في مدة نظره من مال الوقف مائة ألف درهم فضة، وقبض عليه وهي حاصلة، فباشره قاضي القضاة إلى أيام الأشرف شعبان، ففوض نظره إلى الأمير الجاي اليوسفي إلى ان غرق، فتحدث فيه القاضي الشافعي إلى أن فوض الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلوبغا الصفوي، ثم عاد نظره إلى القضاة بعد الصفوي، وهو بأيديهم إلى اليوم. (1/299)
وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدد الرواق البحري الملاصق للمئذنة البازدار مقدم اثنتين وتسعين وسبعمائة جدد الرواق البحري الملاصق للمئذنة البازدار مقدم الدولة عبيد بن محمد بن عبد الهادي، وجدد فيه أيضا ميضأة بجانب الميضأة القديمة.
الجامع الأزهر
هذا الجامع أول جامع أسس بالقاهرة، أنشأه القائد جوهر الكاتب الصقلي مولى المعز لدين الله لما اختط القاهرة، وابتدأ بناءه في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وكمل بناؤه لسبع خلون من رمضان سنة إحدى وستين، وكان به طلسم، لا يسكنه عصفور ولا يمام ولا حمام، وكذا سائر الطيور.
ثم جدده الحاكم بأمر الله، ووقف عليه أوقافاً، وجعل فيه تنورين فضة وسبعة وعشرين قنديلا فضة، وكان نضده في محرابه منطقة فضة، كما كان في محراب جامع عمرو، فقلعت في زمن صلاح الدين يوسف بن أيوب، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم نقرة، وقلع أيضا المناطق من بقية الجوامع.
ثم إن المستنصر جدد هذا الجامع أيضا وجدده الحافظ، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة بجوار الباب الغربي الذي في مقدم الجامع.
ثم جدد في أيام الظاهر بيبرس.
ولما بنى الجامع كانت الخطبة تقام فيه، حتى بنى الجامع الحاكمي، فانتقلت الخطبة إليه، وكان الخليفة يخطب في جامع عمرو جمعة، وفي جامع ابن طولون جمعة، وفي الجامع الأزهر جمعة، ويستريح جمعة. فلما بنى الجامع الحاكمي صار الخليفة يخطب فيه.
ولم تنقطع الجمعة من الجامع الأزهر بالكلية. فلما ولي السلطان صلاح الدين بن أيوب، قلد وظيفة القضاء صدر الدين بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين في بلد واحد، كما هو مذهب الشافعي رضي الله عنه، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، وأقرها بالجامع الحاكمي لكونه اوسع، فلم يزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الخطبة فيه إلى أيام الظاهر بيبرس، فتحدث في إعادتها فيه، فامتنع قاضي القضاة ابن بنت الأعز وصمم، فولى السلطان قاضيا حنفيا، فأذن في إعادتها فأعيدت.
جامع الحاكم
أول من أسسه العزيز بالله ابن المعز، وخطب فيه، وصلى بالناس، ثم أكمله الحاكم بأمر الله، وكان أولا يعرف بجامع الخطبة، ويعرف اليوم بجامع الحاكم، ويقال له الجامع الأنور، وكان تمام عمارته في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وحبس عليه الحاكم عدة قياسر وأملاك بباب الفتوح، وقد قدم في الزلزلة الكائنة في سنة اثنتين وسبعمائة، فجدده بيبرس الجاكشنكير، ورتب فيه دروسا على المذاهب الأربعة، ودرس حديث ودرس نحوي، ودرس قراءات.
ومن بناء الحاكم أيضا جامع راشدة، بجوار رباط الآثار، وعرف بجامع راشدة؛ لأنه في خطة راشدة؛ قبيلة من لخم. وصلى به الحاكم الجمعة أيضا.
ومن بنائه أيضا الجامع الذي بالمقس على شاطئ النيل، ووقف عليه أوقافا، ثم جدده في سنة سبعين وسبعمائة الوزير شمس الدين المقسي.
ومن الجوامع التي بنيت في خلافة بني عبيد الجامع الأقمر، بناه الآمر بأحكام الله.
والجامع الأفخر؛ وهو الذي يقال له اليوم جامع الفكاهيين بناه الخليفة الظافر.
وجامع الصالح خارج باب زويلة بناه الملك الصالح طلائع بن رزيك وزير الخليفة الفائز.
ذكر أمهات المدارس والخانقاه العظيمة
بالديار المصرية
قال: أول من بنى المدارس في الإسلام الوزير نظام الملك قوام الدين الحسن بن علي الطوسي، وكان وزير السلطان البارسلان السلجوقي عشر سنين، ثم وزر لولده ملكشاه عشرين سنة. وكان يحب الفقهاء والصوفية ويكرمهم، ويؤثرهم، بنى المدرسة النظامية ببغداد، وشرع فيها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، ونجزت سنة تسع وخمسين، وجمع الناس على طبقاتهم فيها يوم السبت عاشر ذي القعدة ليدرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فجاء الشيخ ليحضر الدرس، فلقيه صبي في الطريق، فقال: يا شيخ كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فرجع الشيخ؛ واختفى. فلما يئسوا من حضوره، ذكر الدرس بها أبو نصر بن الصباغ عشرين يوما. ثم عن نظام الملك احتال على الشيخ أبي إسحاق ولم يزل يرفق به حتى درس بها، فحضر يوم السبت مستهل ذي الحجة، وألقى الدرس بها إلى أن توفي. وكان يخرج أوقات الصلاة فلا يصلي بمسجد خارجها احتياطا. وبنى نظام الملك أيضا مدرسة بنيسابور تسمى النظامية، درس بها إمام الحرمين، واقتدى الناس به في بناء المدارس. (1/300)
وقد أنكر الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام على من زعم أن نظام الملك أول من بنى المدارس وقال: قد كانت المدرسة البيهقية بنيسابور قبل أن يولد نظام الملك، والمدرسة السعيدية بنيسابور أيضا، بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود لما كان واليا بنيسابور، ومدرسة ثالثة بنيسابور، بناها أبو سعد إسماعيل بن علي بن المثنى الأستراباذي الصوفي الواعظ شيخ الخطيب، ومدرسة رابعة بنيسابور أيضا بنيت للأستاذ أبي إسحاق.
قال الحاكم في ترجمة الأستاذ أبي إسحاق: لم يكن بنيسابور مدرسة قبلها مثلها؛ وهذا صريح في أنه بنى قبلها غيرها. قال القاضي تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى؛ قد أدرت فكري، وغلب على ظني أن نظام الملك أول من رتب فيها المعاليم للطلبة، فأنه لن يصح لي: هل كان للمدارس قبله معاليم أم لا؟ والظاهر أنه لم يكن لهم معلوم. انتهى.
وأما مصر، قال ابن خلكان: لما ملك السلطان صلاح الدين بن أيوب بالديار المصرية، لم يكن بها شيء من المدارس، فأن الدولة العبيدية كان مذهبها مذهب الرافضة والشيعة، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فبنى السلطان صلاح الدين بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة للأمام الشافعي، وبنى مدرسة مجاورة للمشهد الحسيني بالقاهرة، وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريين خانقاه، وجعل دار العباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية، وهي المعروفة بالسيوفية، وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار الشافعي، وتعرف الآن بالشريفية، وبنى بمصر مدرسة أخرى للمالكية وهي المعروفة الآن بالقمحية.
وقد حكي أن الخليفة المعتضد بالله العباسي لما بنى قصره ببغداد استزاد في الذرع، فسئل عن ذلك، فذكر أنه يريده ليبني فيها دورا ومساكن ومقاصر، يرتب في كل موضع رؤساء، كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري الأرزاق السنية، ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيسا، فيأخذ عنه.
وقد ذكر الواقدي أن عبد الله بن أم مكتوم قدم مهاجرا إلى المدينة، فنزل دار القراء.
ذكر المدرسة الصلاحية
بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه، وينبغي أن يقال لها: تاج المدارس، وهي اعظم مدارس الدنيا على الإطلاق لشرفها بجوار الغمام الشافعي، ولان بانيها أعظم الملوك، ليس في ملوك الإسلام مثله، لا قبله ولا بعده، بناها السلطان صلاح الدين بن أيوب رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وجعل التدريس والنظر بها للشيخ نجم الدين الخبوشاني، وشرط له من المعلوم في كل شهر أربعين دينار معالمة، صرف كل دينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم عن التدريس وجعل عن معلوم النظر في أوقاف المدرسة عشرة دنانير، ورتب له من الخبز في كل يوم ستين رطلا بالمصري، وراويتين من ماء النيل.
قال المقريزي: ولي تدريسها جماعة من الأكابر الأعيان، ثم خلت من مدرس ثلاثين سنة، واكتفي فيها بالمعيدين، وهم عشرة انفس، فلما كان سنة ثمان وسبعين وستمائة، ولي تدريسها تقي الدين بن رزين، وقرر له نصف المعلوم، فلما مات وليها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بربع المعلوم، فلما ولي الصاحب برهان الدين الخضر السنجاري التدريس قرر له المعلوم الشاهد به كتاب الوقف.
وقد استمرت بيد الخبوشاني إلى أن مات سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فوليها شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن حمويه الجويني في حياة الواقف، فلما مات الواقف عزل عنها واستمرت عليها أيدي بني السلطان، واحدا بعد واحد، ثم خلصت بعد ذلك وعاد إليها الفقهاء والمدرسون. كذا في تاريخ ابن كثير. (1/301)
وذكر المقريزي في الخطط أن صدر الدين بن حموي ولي تدريس الشافعي، وانه وليها ولده كمال الدين احمد، ومات سنة سبع وثلاثين وستمائة، ثم وليها قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، ثم وليها قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، ثم وليها قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز ثم وليها قاضي القضاة شخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد، ثم وليها عز الدين محمد بن محمد بن الحارث بن مسكين، ثم وليها في سنة إحدى وعشرة وسبعمائة ضياء الدين عبد الله بن احمد بن منصور النشائي، ومات سنة ست عشرة وسبعمائة، ثم وليها مجد الدين حرمي بن قاسم بن يوسف الفاقوسي إلى أن مات سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، ثم وليها شمس الدين بن القماح، ثم ضياء الدين محمد بن إبراهيم المناواي، ثم شمس الدين بن اللبان، ثم شمس الدين محمد بن أحمد بن خطيب بيروت الدمشقي، ثم بهاء الدين بن الشيخ تقي الدين السبكي، ثم أخوه تاج الدين لما سافر بهاء الدين عوضه قاضيا بالشام، ثم لما عاد تاج الدين إلى القضاء عاد إليها إلى التدريس إلى أن مات.
ثم ابن عمه قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر السبكي، ثم ولده بدر الدين محمد، ثم البرهان بن جماعة، ثم الشيخ سراج الدين البلقيني، ثم أعيد البرهان بن جماعة، ثم أعيد بدر الدين أبو البقاء السبكي، ثم قاضي القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى الكركي، ثم أعيد البدر بن أبي البقاء، ثم وليها بعده ولده جلال الدين محمد إلى أن مات، فوليها بعده شمس الدين البيري أخو جمال الدين الأستادار، ثم عزل في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة لما نكب أخوه. ووليها نور الدين علي بن عمر التلواني، فأقام بها مدة طويلة إلى أن مات في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وثمانمائة؛ وهو أطول شيوخها مدة، ووليها بعده العلاء القلقشندي، ثم ابن حجر الوناني، ثم القاياتي، ثم السفطي، ثم الشرف المناوي، ثم السراج الحمصي ثم أعيد المناوي إلى أن مات، ثم ولده زين العابدين، ثم ابنه ثم إمام الكاملية، ثم الحمصي، ثم الشيخ زكريا.
خانقاه سعيد السعداء
وقفها السلطان صلاح بن أيوب، وكانت دارا لسعيد السعداء قنبر - ويقال عنبر - عتيق الخليفة المستنصر، فلما استبد الناصر صلاح الدين بالأمر، وقفها علي الصوفية في سنة تسع وستين وخمسمائة، ورتب لهم كل يوم طعاما ولحما وخبرزا، وهي أول خانقاه عملت بديار مصر، ونعت شيخها بشيخ الشيوخ، وما زال ينعت بذلك إلى أن بنى الناصر محمد بن قلاوون خانقاه سرياقوس، فدعى شيخها بشيخ الشيوخ، فاستمر ذلك بعدهم إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة، وضاعت الأحوال، وتلاشت الرتب، تلقب كل شيخ خانقاه بشيخ الشيوخ، وكان سكانها من الصوفية، يعرفون بالعلم والصلاح، وترجى بركتهم.
وولي مشيختها الأكابر، وحيث أطلق في كتب الطبقات في ترجمة أحد انه ولي " مشيخة الشيوخ " فالمراد مشيختها ولشيخها شيخ الشيوخ؛ هذا هو المراد عند الإطلاق.
وقد وليها عن الواقف صدر الدين محمد بن حمويه الجويني، ثم ولده كمال الدين احمد، ثم ولده معين الدين حسن أخو كمال الدين، ثم وليها كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الآملي، ثم وليها قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، ثم وليها الشيخ صابر الدين حسن البخاري، ثم وليها شمس الدين محمد بن بكر الأبلي، ثم وليها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم وليها الآملي، ثم وليها العلامة علاء الدين القونوي، ثم وليها مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي، ثم وليها شمس الدين محمد بن إبراهيم النقشواني، ثم وليها كمال الدين أبو الحسن الجواري، ثم سراج الدين عمر الصدى إلى أن مات سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم وليها الشيخ بدر الدين حسن بن العلامة بن العلامة علاء الدين القونوي إلى أن مات سنة ست وسبعين وسبعمائة، ثم جلال الدين جار الله الحنفي إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ثم وليها علاء الدين أحمد بن السرائي، ثم الشيخ برهان الدين الأبناسي، ثم شمس الدين محمد بن محمود بن عبد الله ابن أخي جار الله، ثم أعيد البرهان الأبناسي، ثم شهاب الدين أحمد بن محمد الانصاري، ثم أعيد محمد بن أخي جار الله، ثم وليها شمس الدين محمد بن علي البلالي مدة متطاولة إلى أن مات سنة عشرين وثمانمائة، ثم وليها شمس الدين البيري أخو جمال الدين الاستادار، ثم وليها الشيخ شهاب الدين بن المحموه، ثم جمال الدين يوسف بن أحمد التزمنتي المعروف بابن المجبر، ثم أعيد ابن المحموه، ثم القاياتي، ثم الشيخ خالد، ثم تقي الدين القلقشندي، ثم السراج العبادي، ثم الكوراني، ثم السنتاوي. (1/302)
المدرسة الكاملية
وهي دار الحديث، وليس بمصر دار حديث غيرها، وغير دار الحديث التي بالشيخونية. قال المقريزي: وهي ثاني دار عملت للحديث، فإن أول من بنى دار حديث على وجه الأرض الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، ثم بنى الكامل هذه الدار، بناها الملك الكامل، وكملت عمارتها في سنة إحدى وعشرين وستمائة، وجعل شيخها أبو الخطاب عمر بن دحية، ثم وليها بعده أخوه أبو عمر وعثمان بن دحية، ثم وليها الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، ثم وليها شرف الدين بن أبي الخطاب بن دحية، ثم وليها بعده المحدث محيي الدين بن سراقة، ثم وليها تاج الدين بن القسطلاني المالكي، ثم وليها النجيب عبد اللطيف الحراني، ثم وليها ابن دقيق العيد، ثم وليها أبو عمر بن سيد الناس والد الحافظ فتح الدين، فانتزعها منه البدر بن جماعة، ثم وليها الدين محمد بن علي بن حرمي الدمياطي ومات سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم البدر بن جماعة، ثم نزل للجمال ابن التركماني إلى أن مات سنة تسع وستين وسبعمائة، ووليها الحافظ زين الدين العراقي، ثم لما أن ولي قضاء المدينة سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، استقر فيها الشيخ سراج الدين بن الملقن.
المدرسة الصالحية
بين القصرين هي أربع مدارس للمذاهب الأربعة، بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، شرع في بنائها سنة تسع وثلاثين. قال المقريزي: وهذه المدرسة من أجل مدارس القاهرة، إلا إنها قد تقادم عهدها، فرثت، ولما فتحت أنشد فيها الأديب أبو الحسين الجزار:
إلا هكذا يبني المدارس من بنى ... ومن يتغالى في الثواب وفي البنا
في أبيات أخر.
قال السراج الوراق:
مليك له في العلم حب واهله ... فلله حب ليس فيه ملام!
فشيدها للعلم مدرسة غدا ... عراق أهلها إذ ينسبون وشام
ولا تذكرن يوما نظامية لها ... فليس يضاهي ذا النظام نظام
قال ابن السنبرة الشاعر - وقد نظر إلى قبر الملك الصالح، وقد دفن إلى ما يختص بالمالكية من مدرسته:
بنيت لأرباب العلوم مدارساً ... لتنجو بها من هول يوم المهالك
وضاقت عليك الأرض لم تلق منزلا ... تحل به إلا إلى جنب مالك
المدرسة الظاهرية القديمة
للملك الظاهر بيبرس البندقداري شرع في بنائها سنة إحدى وستين وستمائة، وتمت في أول سنة اثنتين وستين، ورتب لتدريس الشافعية بها تقي الدين بن رزين، والحنفية محب الدين عبد الرحمن بن الكمال عمر بن العديم، ولتدريس الحديث الحافظ شرف الدين الدمياطي، ولإقراء القراءات بالروايات كمال الدين القرشي ووقف بها خزانة كتب.
المدرسة المنصورية
أنشأها هي والبيمارستان الملك المنصور قلاوون، وكان على عمارتها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، فلما دخل عليه الشرف البوصيري، فمدحه بقصيدة أولها: (1/303)
أنشأت مدرسة ومارستانا ... لتصحح الأديان والأبدانا
فأعجبه ذلك واجزل عطاءه، ورتب في هذه المدرسة دروس فقه على المذاهب الأربعة، ودرس تفسير ودرس حديث، ودرس طب.
المدرسة الناصرية
ابتدأها العادل كتبغا، واتمها الناصر محمد بن قلاوون، فرغ من بنائها سنة ثلاث وسبعمائة، ورتب بها درسا للمذاهب الأربعة.
قال المقريزي: أدركت هذه المدرسة وهي محترمة إلى الغاية، يجلس بدهليزها عدة من الطواشية، ولا يمكن غريب أن يصعد إليها.
الخانقاه البيبرسية
بناها الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيري في سنة سبع وسبعمائة موضع دار الوزارة، ومات بعد أن تسلطن، فأغلقها الناصر بن قلاوون في سلطنته الثالثة مدة، ثم أمر بفتحها. قال المقريزي: وهي اجل خانقاه بالقاهرة بنياناً، وأوسعها مقدارا، وأتقنها صنعة، والشباك الكبير الذي بها هو الشباك الذي كان بدار الخلافة ببغداد. وكانت الخلفاء تجلس فيه، حمله الأمير البساسيري من بغداد لما غلب على الخليفة القائم العباسي وأرسل به إلى صاحب مصر.
خانقاه قوصون بالقرافة
بنيت في سنة ست وثلاثين وسبعمائة، وأول من ولي مشيختها الشمسي محمود الأصفهاني الإمام المشهور صاحب التصانيف المشورة، وكانت من أعظم جهات البر، وأعظمها خيرا، إلى أن حصلت المحن سنة ست وثمانمائة، فتلاشى أمرها كما تلاشى غيرها.
خانقاه شيخو
بناها الأمير الكبير راس نوبة الأمراء الجمدارية سيف الدين شيخو العمري جالبه خواجا عمر وأستاذه الناصر محمد بن قلاوون، أبتدأ عماراتها في المحرم سنة ست وخمسين وسبعمائة، وفرغ من عمارتها في سنة سبع وخمسين وسبعمائة ورتب فيها أربع دروس على المذاهب الأربعة، ودرس حديث، ودرس قراءات ومشيخة إسماع الصحيحين والشفاء، وفي ذلك يقول ابن أبي حجلة:
ومدرسة للعلم فيها مواطن ... فشيخو بها فرد وإيتاره جمع
لئن بات منها في القلوب مهابة ... فواقفها ليث وأشياخها سبع
ومات شيخو بعد فراغها بسنة في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، وشرط في شيخها الأكبر وهو شيخ حضور التصوف وتدريس الحنفية بالديار المصرية، وان يكون عارفا بالتفسير والأصول، وألا يكون قاضيا؛ وهذا الشرط عام في جميع أرباب الوظائف بها.
وأول من تولى المشيخة بها الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي.
وأول من تولى تدريس الشافعية بها الشيخ بهاء الدين بن الشيخ تقي الدين السبكي.
وأول من تولى تدريس المالكية بها الشيخ خليل، صاحب المختصر.
وأول من تولى تدريس الحنابلة بها قاضي القضاة موفق الدين.
وأول من تولى تدريس الحديث بها جمال الدين عبد الله بن الزولي، واقام الشيخ أكمل الدين في المشيخة إلى أن مات في رمضان سنة ست وثمانين.
وولي بعده عز الدين يوسف بن محمود الرازي إلى أن مات في المحرم سنة أربع وتسعين.
وولي بعده جمال الدين محمود بن أحمد القيصري المعروف بابن العجمي، ثم عزل في سنة خمس وتسعين.
وولي الشيخ الدين السيرامي مضافا لمشيخة الظاهرية.
ثم ولي بدر الدين الكلساني، ثم عزل وولي الشيخ زاده.
ثم ولي بعده جمال الدين بن العديم سنة ثمان وثمانمائة، ثم ولده ناصر الدين سنة إحدى عشرة وثمانمائة.
ثم وليها أمين الدين بن الطرابلسي سنة اثنتي عشرة، ثم أعيد ابن العديم، ثم وليها شرف الدين بن التباني، سنة خمس عشرة إلى أن مات في صفر سنة سبع وعشرين، وولي الشيخ سراج قارئ الهداية إلى أن مات سنة تسع وعشرين، ووليها الشيخ زين الدين التفهني، ثم صرف في سنة ثلاث وثلاثين بالقضاء، ووليها صدر الدين بن العجمي، فمات في رجب من عامه، ووليها البدر حسن بن أبي بكر القدسي، ثم وليها الشيخ باكير.
مدرسة صرغتمش
ابتدأ بعمارتها في رمضان سنة ست وخمسين وسبعمائة، وتمت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، وهي من أبدع المباني وأجلها، ورتب فيها درس فقه على مذهب الحنفية، قرر فيه القوام الإتقاني، ودرس حديث.
وقال العلامة شمس الدين بن الصائغ:
ليهنك يا صرغتمش ما بنيته ... لأخراك في دنياك من حسن ينيان
به يزدهي الترخيم كالزهر بهجة ... فلله من زهر ولله من بان! (1/304)
مدرسة السلطان حسن بن الناصر
محمد بن قلاوون
شرع في بنائها في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وكان في موضعها دور وإسطبلات. قال المقريزي: لا يعرف ببلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكى هذه المدرسة في كبر قالبها، وحسن هندامها، وضخامة شكلها، قامت العمارة فيها مدة ثلاث سنين، لا تبطل يوما واحدا، وارصد لمصروفها في كل يوم عشرين ألف درهم، منها نحو ألف مثقال ذهباً، حتى قال السلطان: لولا أن يقال: ملك مصر عجز عن إتمام ما بناه لتركت بناءها؛ من كثر ما صرف.
وذرع إيوانها الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها، ويقال إنه أكبر من إيوان كسرى بخمسة أذرع، وبها أربع مدارس للمذاهب الأربعة.
قال الحافظ ابن حجر في إنباء الغمر: يقال إن السلطان حسن أراد ان يعمل في مدرسته درس فرائض، يقال البهاء السبكي: هو باب من أبواب الفقه، فاعرض عن ذلك. فاتفق وقوع قضية في الفرائض مشكلة، فسئل عنها السبكي، فلم يجب عنها، فأرسلوا إلى الشيخ شمس الدين الكلاني فقال: إذا كانت الفرائض باباً من أبواب الفقه، فما له لا يجيب! فشق ذلك على بهاء الدين وندم على ما قال.
وكان السلطان قد عزم على أن يبنى أربع منائر، يؤذنون عليها، فتمت ثلاث منائر إلى أن كان يوم السبت سادس ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة، سقطت المنارة التي على الباب، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذي كانوا قد رتبوا بمكتب السبيل ومن غيرهم، فلهج الناس بان ذلك ينذر بزوال الدولة، فقال الشيخ بهاء الدين السبكي في ذلك أبياتا:
أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى ... بشيره بمقال سار كالمثل
إن المنارة لم تسقط لمنقصة ... لكن لسر خفي قد تبين لي
من تحتها قرئ القرآن فاستمعت ... فالوجد في الحال أداها إلى الميل
لو أنزل الله قرآنا على جبل ... تصدعت رأسه من شدة الوجل
تلك الحجارة لم تنقض بل هبطت ... من خشية الله لا للضعف والخلل
وغاب سلطانها فاستوحشت فرمت ... بنفسها لجوى في القلب مشتعل
فالحمد لله خط العين زال بما ... قد كان قدره الرحمن في الأزل
لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة ... شيدت بنيانها للعلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت ... علماً فليس بمصر غير مشتغل
فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المئذنة بثلاثة وثلاثين يوما.
المدرسة الظاهرية
كان الشروع في عمارتها في رجب سنة ست وثمانين، وانتهت في رجب سنة ثمان وثمانين، وكان القائم على عمارتها جركس الخليلي أمير أخور، وقال الشعراء في ذلك واكثروا، فمن أحسن ما قيل:
الظاهر الملك السلطان همته ... كادت لرفعته تسمو على زحل
وبعض خدامه طوعاً لخدمته ... يدعو الجبال فتأتيه على عجل
قال ابن العطار:
قد أنشأ الظاهر السلطان مدرسة ... فاقت على إرم مع سرعة العمل
يكفي الخليلي أن جاءت لخدمته ... شم الجبال لها تأتي على عجل
قال الحافظ ابن حجر: ومن رأى الأعمدة التي بها عرف الإشارة. ونزل السلطان غليها في الثاني عشر من رجب، ومد سماطا عظيما، وتكلم فيها المدرسون، واستقر علاء الدين السيرامي مدرس الحنفية بها، وشيخ الصوفية، وبالغ السلطان في تعظيمه حتى فرش سجادته بيده، واستقرأ أوحد الدين الرومي مدرس الشافعية وشمس الدين ابن مكين مدرس المالكية، وصلاح ابن الأعمى مدرس الحنابلة، وأحمد زاده العجمي مدرس الحديث، وفخر الدين الضرير إمام الجامع الأزهر مدرس القراءات.
قال ابن حجر: فلم يكن منهم من هو فائق في فنه على غيره من الموجودين غيره، ثم بعد مدة قرر فيها الشيخ سراج الدين البلقيني مدرس التفسير وشيخ الميعاد.
المدرسة المؤيدية
انتهت عمارتها في سنة تسع عشرة وثمانمائة، وبلغت النفقة عليها أربعين ألف دينار، واتفق بعد ذلك بسنة ميل المئذنة التي بنيت لها على البرج الشمالي بباب زويلة، وكان الناظر على العمارة بهاء الدين بن البرجي، فانشد تقي الدين بن حجة في ذلك أبياتا:
على البرج من بابي زويلة أنشئت ... منارة بيت الله للعمل المنجي
فاخذ بها البرج اللعين آمالها ... ألا صرحوا يا قوم باللعن للبرج
وقال شعبان الأثاري: (1/305)
عتبنا على ميل المنار زويلة ... وقلنا تركت الناس بالميل في هرج
فقالت قريني برج نحس أمالني ... فلا بارك الرحمن في ذلك البرج
قال الحافظ ابن حجر:
لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارته بالحسن تزهو وبالزين
تقول وقد مالت عن القصد أمهلوا ... فليس على جسمي أضر من العين
وقال العيني:
منارة كعروس الحسن إذ جليت ... وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط ... ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر
وقال نجم الدين بن النبيه:
يقولون في تلك المنار تواضع ... وعين وأقوال وعندي جليها
فلا البرج أخنى والحجارة لم تعب ... ولكن عروس أثقلتها حليها وقال أيضا:
بجامع مولانا المؤيد أنشئت ... عروس سمت ما خلت قط مثالها
ومذ علمت أن لا نظير لها إن ثنت ... وأعجبها والعجب عنا أمالها
رباط الآثار
بالقرب من بركة الحبش عمره الصاحب تاج الدين بن الصاحب فخر الدين بن الصاحب بهاء الدين حنا، وفيه قطعة خشب وحديد وأشياء آخر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتراها الصاحب المذكور بمبلغ ستين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع؛ ذكروا إنها لم تزل موروثة عندهم من واحد إلى واحد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملها إلى هذا الرباط، وهي به إلى اليوم يتبرك بها. ومات الصاحب تاج الدين في جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة.
وللأديب جلال الدين بن خطيب داريا في الآثار بيتان:
يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشط مزاره
فلقد ظفرت من الزمان بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره
ذكر الحوادث الغريبة الكائنة بمصر في ملة الإسلام
من غلاء ووباء وزلازل وآيات وغير ذلك
في سنة أربع وثلاثين من الهجرة،قال سيف بن عمر: إن رجلا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأظهر الإسلام، وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاماً اخترعه من عند نفسه، مضمونه إنه كان يقول للرجل: أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا؟ فيقول الرجل: بلى، فيقول له: رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه، فما منع أن يعود إلى هذه الدنيا وهو أشرف من عيسى! ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب؛ فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول: فهو أحق بالأمر من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له. فأنكروا عليه، فأفتتن به بشر كثير من أهل مصر وكان ذلك مبدأ تألبهم على عثمان.
وفي سنة ست وستين وقع الطاعون بمصر.
وفي سنة سبعين كان الوباء بمصر، قاله الذهبي.
وفي سنة أربع وثمانين قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، وقطع رأسه، فأمر الحجاج فطيف به في العراق، ثم بعث به إلى عبد الملك بن مروان، فطيف به في الشام، ثم بعث به إلى عبد العزيز بن مروان وهو بمصر، فطيف به فيها، ودفن بمصر، وجثته بالرخج، فقال بعض الشعراء في ذلك:
هيهات موضع جثة من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج
وفي سنة خمس وثمانين كان الطاعون بالفسطاط، ومات فيه عبد العزيز بن مروان أمير مصر.
وفي سنة خمس وأربعين ومائة، انتثرت الكواكب من أول الليل إلى الصباح، فخاف الناس. ذكره صاحب المرآة.
وفي سنة ثمانين ومائة كان بصر زلزلة شديدة سقطت منها رأس منارة الإسكندرية.
وفي سنة ست عشرة ومائتين، وثب رجل يقال له عبدوس الفهري في شعبان ببلاد مصر، فتغلب على نواب أبي إسحاق بن الرشيد، وقويت شوكته، واتبعه خلق كثير، فركب المأمون من دمشق في ذي الحجة إلى الديار المصرية، فدخلها في المحرم سنة سبع عشرة، وظفر بعبدوس، فضرب عنقه، ثم كر راجعا إلى الشام.
وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين ظهر في السماء شيء مستطيل دقيق الطرفين، عريض الوسط، من ناحية المغرب إلى العشاء الآخرة، ثم ظهر خمس ليل وليس بضوء كوكب، ولا كوكب له ذنب، ثم نقص. قاله في المرآة.
وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين، أقبلت الروم في البحر في ثلثمائة مركب، وأبهة عظيمة، فكبسوا دمياط، وسبوا واحرقوا وأسرعوا الكرة في البحر، وسبوا ستمائة امراة، واخذوا من الأمتعة والأسلحة شيئاً كثيرا، وفر الناس منهم في كل منهم، فكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن اسر، ورجعوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد. (1/306)
وفي سنة اثنين وأربعين ومائتين، زلزلة الأرض ورجمت السويداء )قرية بناحية مصر( من السماء، ووزن حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال.
وفي سنة أربع وأربعين ومائتين، اتفق عيد الأضحى وعيد الفطر لليهود وشعانين النصارى في يوم واحد. قال ابن كثير: وهذا عجيب غريب. وقال في المرآة: لم يتفق في الإسلام مثل ذلك.
وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلة مصر، وسمع بتنيس ضجة دائمة طويلة، مات منها خلق كثير.
وفي سنة ست وستين ومائتين قتل أهل مصر عاملهم الكرخي.
وفي سنة ثمان وستين ومائتين، قال ابن جرير: اتفق ان رمضان كان يوم الأحد وكان الأحد الثاني الشعانين، والأحد الثالث الفصح، والأحد الرابع السرور، والأحد الخامس انسلاخ الشهر.
وفي سنة تسع وستين في المحرم، كسفت الشمس وخسف القمر، واجتماعهما في سهر نادر. قاله في المرآة.
وفي سنة ثمان وسبعين ومائتين، قال ابن الجوزي: لليلتين بقيتا من المحرم طلع نجم ذو جمة، ثم صارت النجمة ذؤابة. قال: وفي هذه السنة وردت الأخبار أن نيل مصر غار، فلم يبقى منه شيء، وهذا شيء لم يعهد مثله، ولا بلغنا في الأخبار السابقة، فغلت الأسعار بسبب ذلك. وفي أيام أحمد بن طولون تساقطت النجوم، فراعه ذلك فسأل العلماء والمنجمين عن ذلك، فما أجابوا بشيء، فدخل عليه الجمل الشاعر وهم في الحديث، فأنشد في الحال:
قالوا تساقطت النجو ... م لحادث فظ عسير
فأجبت عند مقالهم ... بجواب محتنك خبير
هذي النجوم الساقطا ... ت نجوم أعداء الأمير
فتفاءل ابن طولون بذلك، ووصله.
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين، زفت قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد ابن طولون، من مصر إلى الخليفة المعتضد، ونقل أبوها في جهازها ما لم ير مثله، وكان من جملته ألف تكة بجوهر وعشرة صناديق جوهر، ومائة هون ذهب، ثم بعد كل حساب معها مائة ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما لا يتهيأ مثله بالديار المصرية. وقال بعض الشعراء:
يا سيد العرب الذي وردت له ... باليمن والبركات سيدة العجم
فأسعد بها كسعودها بك إنها ... ظفرت بما فوق المطالب والهمم
شمس الضحى زفت إلى بدر الدجى ... فتكشفت بها عن الدنيا الظلم
وفي سنة أربع وثمانين ومائتين ظهر بمصر ظلمة شديدة وحمرة في الأفق حتى جعل الرجل ينظر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جدا، وكذلك الجدران، فمكثوا كذلك من العصر إلى الليل، فخرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرعون إليه حتى كشف عنهم. حكاه ابن كثير.
وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ظهر رجل بمصر يقال له الخلنجي، فخلع الطاعة واستولى على مصر، وحارب الجيوش، وأرسل إليه الخليفة المكتفي جيشاً فهزمهم ثم أرسل إليه جيشاً آخر عليهم فاتك المعتضدي، فهزم الخلنجي، وهرب، ثم ظفر به وامسك، وسير إلى بغداد.
وفي سنة تسع وتسعين ومائتين، ظهر ثلاثة كواكب مذنبة، أحدها في رمضان، واثنان في ذي القعدة تبقى أياما، ثم تضمحل حكاه ابن الجوزي. وفيها استخرج من كنز بمصر خمسمائة ألف دينار من غير موانع، ووجد في هذا الكنز ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا وعرضه شبر، فبعث به إلى الخليفة المقتدر، وأهدى معه من مصر تيساً له ضرع يحلب لبنا، حكى ذلك الصولي صاحب المرآة وابن كثير.
وفي سنة إحدى وثلاثمائة، سار عبد الله المهدي المتغلب على المغرب. في أربعين ألفا ليأخذ مصر، حتى بقى بينه وبين مصر أيام، ففجر تكين الخاصة الميل فحال الماء بينهم وبين مصر، ثم جرت حروب فرجع المهدي إلى برقة بعد أن ملك الإسكندرية والفيوم.
وفي سنة اثنتين وثلاثة مائة عاد المهدي إلى الإسكندرية، وتمت وقعة كبيرة، ثم رجع إلى القيروان.
وفي سنة ست وثلاثمائة أقبل القائم بن المهدي في جيوشه، فأخذ الإسكندرية وأكثر الصعيد، ثم رجع.
وفي سنة سبع كانت الحروب والأراجيف الصعبة بمصر، ثم لطف الله وأوقع المرض بالمغاربة، ومات جماعة من أمرائهم، واشتدت علة القائم. (1/307)
وفيها انقض كوكب عظيم، وتقطع ثلاث قطع، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيم.
وفي سنة ثمان ملك العبيديون جزيرة الفسطاط، فجزعت الخلق، وشرعوا في الهرب والجفل.
وفي سنة تسع استرجعت الإسكندرية إلى نواب الخليفة، ورجع العبيدي إلى المغرب.
وفي سنة عشر وثلثمائة في جمادى الأولى ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان، وذلك في برج السنبلة، وفي شعبان منها أهدى نائب مصر إلى الخليفة المقتدر هدايا من جملتها بغلة معها فلوها يتبعها، ويرجع معها، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه. حكاه صاحب المرآة وابن كثير.
وفي سنة ثلاث عشرة وثلثمائة في آخر المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه، وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد.
وفي سنة ثلاث وثلثمائة في المحرم ظهر كوكب بذنب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وكان عظيما جدا وذنبه منتشر، وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحل.
وفي سنة أربع وأربعين زلزلت مصر زلزلة صعبة هدمت البيوت، ودامت ثلاث ساعات، وفزع الناس إلى الله بالدعاء.
وفي سنة تسع وأربعين رجع حجيج مصر من مكة، فنزلوا واديا، فجاءهم سيل فأخذهم كلهم، فألقاهم في البحر عن آخرهم.
وفي سنة خمس وخمسين قطعت بنوا سليم الطريق على الحجيج من أهل مصر، واخذوا منهم عشرين ألف بعير بأحمالها، وعليها من الأموال والأمتعة ما لا يقوم كثرة، وبقية الحاج في البوادي، فهلك أكثرهم. وفي أيام كافور الإخشيدي كثرت الزلازل بمصر، فأقامت ستة اشهر، فأنشد محمد بن القاسم بن عاصم قصيدة منها:
ما زلزلت مصر من سوء يراد بها ... لكنها رقصت من عدله فرحا
كذا رايته في نسخة عتيقة، من كتاب مذهب الطالبيين، تاريخ كتابتها بعد الستمائة، ثم رأيت ما يخالف ذلك كما سأذكر.
وفي سنة تسع وخمسين انقض كوكب في ذي الحجة، فأضاء الدنيا حتى بقى له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد.
وفي سنة ستين وثلثمائة، سارت القرامطة في جمع كثير إلى الديار المصرية، فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالاً شديدا بعين شمس، وحاصروا مصر شهورا؛ ومن شعر أمير القرامطة الحسين بن أحمد بن بهرام:
زعمت رجال الغرب أني هبتهم ... فدمى إذن ما بينهم مطلول
يا مصر إن لم أسق أرضك من دم ... يروى ثراك فلا سقاني النيل
وفي هذه السنة سار رجل من مصر إلى بغداد، وله قرنان، فقطعهما وكواهما وكانا يضربان عليه. حكاه صاحب المرآة.
وفي سنة ثلاث وستين، خرج بنو هلال وطائفة من العرب على الحجاج، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وعطلوا على من بقى منهم الحج في هذا العام، ولم يحصل لأحد حج في هذه السنة سوى أهل درب العراق وحدهم.
وفي سنة سبع وستين كان أمير الحاج المصري الأمير باديس بن زيرى، فاجتمع إليه اللصوص، وسألوا منه أن يضمنهم الموسم هذا العام بما شاء من الأموال، فاظهر لهم الإجابة، وقال: اجتمعوا كلكم حتى أضمنكم كلكم، فاجتمع عنده بضع وثلاثون لصا، فقال: هل بقى منكم أحد؟ فخلفوا أنه لم يبق منهم أحد، فعند ذلك أمر بقطع أيديهم كلهم. ونعما فعل! وفي سنة أربع وثمانين انفرد بالحج أهل مصر، ولم يحج ركب العراق ولا الشام لخوف طريقهم، وكذا في سنة خمس وثمانين والتي بعدها.
وفي سنة ست وثمانين قدمت مصر أربع عشرة قطعة من الأسطول، فقتلت ونهبت، وأحرقت أموال التجار، وأخذت سرايا العزيز وحظاياه، وكان حالاً لم ير اعظم منه. ذكره ابن المتوج.
وفي سنة تسعين أمر الحاكم بمصر بقتل الكلاب فقتلت كلها.
وفي سنة اثنتين وتسعين ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة انقض كوكب أضاء كضوء القمر ليلة التمام، ومضى الضياء، وبقى جرمه يتموج نحو ذراعين في ذراع برأي العين، وتشقق بعد ساعة. وفي هذه السنة انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أحد من بغداد وبلاد المشرق لعبث الأعراب بالفساد، وكذا في سنة ثلاث وتسعين.
وفي سنة ثلاث وتسعين أمر الحاكم يقطع جميع الكروم التي بديار مصر والصعيد والإسكندرية ودمياط، فلم يبق بها كرم، احترازاً من مصر الخمر. وفي هذه السنة أمر الحاكم الناس بالسجود إذا ذكر اسمه في الخطبة.
وفي سنة سبع وتسعين انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أهل العراق لفساد الطريق بالأعراب، وكسا الحاكم الكعبة القباطي البيض. (1/308)
وفي سنة ثمان وتسعين هدم الحاكم الكنائس التي ببلاد مصر، ونادى: من لم يسلم وإلا فليخرج من مملكتي، أو يلتزم بما أمر، ثم أمر بتعليق صلبان كبار على صدور النصارى، وزن الصليب أربعة أرطال بالمصري، وبتعليق خشبة على تمثال رأس عجل وزنها ستة أرطال في عنق اليهود. وفي هذه السنة كان سيل عظيم حتى غرق الخندق، ذكره أبن المتوج.
وفي سنة تسع وتسعين انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة أربعمائة بنى الحاكم دار للعلم وفرشها، ونقل إليها الكتب العظيمة مما يتعلق بالسنة، وأجلس فيها الفقهاء والمحدثين، وأطلق قراءة فضائل الصحابة، وأطلق صلاة الضحى والتراويح، وبطل الأذان بحي على خير العمل، فكثر الدعاء له، ثم بعد ثلاث سنين هدم الدار، وقتل خلقا ممن كان بها من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير والديانة، ومنع صلاة الضحى والتراويح.
وفي سنة إحدى وأربعمائة انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة اثنتين وأربعمائة كتب محضر ببغداد في نسب خلفاء مصر الذين يزعمون أنهم فاطميون وليسوا كذلك، وكتب فيه جماعة من العلماء والقضاة والفقهاء والأشراف والأماثل والمعدلين والصالحين، شهدوا جميعا أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم - حكم الله عليه بالبوار والدمار والخزي والنكال والاستئصال - ابن معد ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد - لا أسعده الله - فإنه لما صار إلى المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، ومن تقدم من سلفه من الأرجاس الأنجاس - عليه وعليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين - أدعياء خوارج، ولا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلقون منه بسبب، وأنه منزه عن باطلهم، وان الذي ادعوه من الانتساب غليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أن أحدا من أهل بيوت الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج انهم أدعياء، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وان هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفار وفساق فجار وملحدون زنادقة، معطلون وللإسلام جاحدون، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج، واحلوا الخمر، وسفكوا الدماء، وسبوا الأبناء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. وكتب في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة.
وقد كتب خطه في المحضر خلق كثيرون، فمن العلويين المرتضى والرضي وابن الأزرق الموسوي وأبو طاهر بن أبي الطيب ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلي، ومن القضاة أبو محمد بن الأكفاني وأبو القاسم الحريري وأبو العباس بن السيوري. ومن الفقهاء أبو حامد الإسفراييني وأبو محمد بن الكشفلي وأبو الحسين القدوري وأبو عبد الله الصيمري وأبو عبد الله البيضاوي وأبو علي بن حمكان. ومن الشهود أبو القاسم التنوخي، في كثير.
وفي سنة ثلاث وأربعمائة، قال ابن المتوج: رسم الحاكم بالا تقبل الأرض بين يديه، ولا يخاطب مولانا ولا بالصلاة عليه، وكتب بذلك سجل في رجب. قال: وفيها حبس النساء ومنعهن من الخروج في الطرقات، وأحرق الزبيب وقطع الكرم، وغرق العسل. قال ابن الجوزي: وفي رمضان انقض كوكب من المشرق إلى المغرب غلب ضوءه على ضوء القمر، وتقطع قطعاً، وبقى ساعة طويلة.
وفي سنة خمس وأربعمائة زاد الحاكم في منع النساء من الخروج من المنازل ومن دخول الحمامات ومن التطلع من الطاقات والأسلحة ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وغرق خلقا.
وفي سنة سبع وأربعمائة ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام، وبسقوط جدار بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبسقوط القبة الكبيرة على صخرة بيت المقدس. قال ابن كثير: فكان ذلك من أغرب الاتفاقات وأعجبها.
وفي سنة سبع أيضا أنفرد المصريون بالحج، ولم يحج أحد من بلاد العراق لفساد الطرقات بالأعراب؛ وكذا في سنة ثمان.
وفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة، قال ابن المتوج: عز القوت، ثم هان بعد أراجيف عظيمة. وفي أيام الحاكم، قال ابن فضل الله في المسالك: زلزلت مصر حتى رجفت أرجاؤها، وضجت الأمة لا تعرف كيف جارها، فقال محمد بن قاسم بن عاصم شاعر الحاكم: (1/309)
بالحاكم العدل أضحى الدين معتلياً ... نجل الهدى وسليل السادة الصلحا
ما زلزلت مصر من كيد يراد بها ... وإنما رقصت من عدله فرحا
وكانت أيام الحاكم من سنة ست وثمانين وثلثمائة إلى سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. قال ابن كثير: جرت كائنة غريبة ومصيبة عظيمة؛ وهي أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، فلما كان يوم الجمعة، وهو يوم النفر الأول، طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود، جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال، إلى متى يعبد هذا الحجر! ولا محمد ولا علي يمنعني عما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت، فاتقاه أكثر الحاضرين، وتأخروا عنه، وذلك أنه كان رجلاً طويلا جسيما، أحمر أشقر، وعلى باب المسجد جماعة من الفرسان وقوف ليمنعوه ممن أراده بسوء، فتقدم غليه رجل من أهل اليمن، معه خنجر، وفاجأه بها، وتكاثر عليه الناس فقتلوه، وقطعوه قطعاً، وتتبعوا أصحابه، فقتل منهم جماعة ونهب أهل مكة ركب المصريين، وجرت فتنة عظيمة جداً، وسكن الحال، وأما الحجر الشريف فإنه سقط منه ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر بضرب إلى صفرة، محبباً، مثل الخشخاش، فاخذ بنو شيبة تلك الفلق، فعجنوها بالمشك واللك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، وذلك ظاهر فيه إلى الآن.
وفي سنة سبع عشرة منع الظاهر صاحب مصر من ذبح البقر السليمة من العيوب التي تصلح للحرث، وكتب عن لسانه كتاب قرئ على الناس، فيه: " إن الله بسابغ نعمته، وبالغ حكمته، خلق ضروب الأنعام، وعلم بها منافع الأنام، فوجب أن تحمي البقر المخصوصة بعمارة الأرض المذللة لمصالح الخلق، فإن ذبحها غاية الفساد، وإضرار بالعباد والبلاد " .
وفيها انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أهل العراق والمشرق لفساد الأعراب، وكذا في سنة ثماني عشرة وفي سنة تسع عشرة لم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية أيضاً، إلا أن قوما من خراسان ركبوا في البحر من مدينة مكران، فانتهوا إلى جدة، فحجوا.
وفي سنة عشرين حج أهل مصر دون غيرهم.
وفيها في رجب انقضت كواكب كثيرة شديدة الصوت، قوية الضوء.
وفي سنة إحدى وعشرين تعطل الحج من العراق أيضا، وقطع على حجاج مصر الطريق، وأخذت الروم أكثره.
وفي سنة ثلاث وعشرين تعطل الحج من العراق أيضا. وفيها قال أبن المتوج؛ استحضر خليفة مصر الظاهر بن الحاكم كل من في القصر من الجواري، وقال لهم: تجتمعون لأصنع لكم يوماً حسنا لم ير مثله بمصر، وأمر كل من كان له جارية فليحضرها، ولا تجئ جارية إلا وهي مزينة بالحلي والحلل، ففعلوا ذلك حتى لم تترك جارية إلا أحضرت، فجعلهن في مجلس، ودعا بالبنائين، فبنى أبواب المجلس عليهن، حتى ماتوا عن آخرهن، وكان يوم جمعهن يوم الجمعة لست خلون من شوال، وعدتهن ألفان وستمائة وستون جارية، فلما مضى لهن ستة أشهر أضرم النار عليهن، فأحرقهن بثيابهن وحليهن، فلا رحمه الله ولا رحم الذي خلفه!.
وفي سنة خمس وعشرين كثرت الزلازل بمصر. وفيها انقض كوكب عظيم، وسمع له صوت مثل الرعد وضوء مثل المشاعل. ويقال: إن السماء انفرجت عند انقضاضه. حكاه في المرآة. ولم يحج أحد سوى أهل مصر، وكذا في سنة ست وعشرين وسنة ثمان وعشرين.
وفي سنة ثمان وعشرين بعث صاحب مصر بمال لينفق على نهر بالكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك، فجمع القائم بالله الفقهاء، وسألهم عن هذا المال، فأفتوا بان هذا فيء للمسلمين يصرف في مصالحهم، فأذن في صرفه في مصالح المسلمين.
وفي سنة ثلاثين وأربعمائة تعطل الحج من الأقاليم بأسرها، فلم يحج أحد، لا من مصر ولا من الشام ولا من العراق ولا من خراسان.
وفي سنة إحدى وثلاثين والتي تليها تفرد بالحج أهل مصر، وكذا في سنة ست وثلاثين وسبع وثلاثين وتسع وثلاثين وثلاث وستين بعدها.
وفي سنة إحدى وأربعين في ذي الحجة ارتفعت سحابة سوداء ليلاً، فزادت على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس لذلك، واخذوا في الدعاء والتضرع، فانكشفت بعد ساعة. (1/310)
وفي سنة خمس وأربعين وثلاث تليها انفرد أهل مصر بالحج.
وفي سنة ثمان وأربعين. قال في المرآة: علم الوباء والقحط مصر والشام وبغداد والدنيا، وانقطع ماء النيل. واتفقت غريبة، قال ابن الجوزي: ورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور، فوجدوا عند الصباح موتى؛ أحدهم على باب النقب، والثاني على راس الدرجة، والثالث على الثياب المكورة. وفيها، في العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر نجم له ذؤابة بيضاء، طولها في رأى العين نحو عشرة أذرع في نحو ذراع، ولبث على هذه الحال إلى نصف رجب ثم اضمحل.
وفي سنة إحدى وخمسين وسنتين بعدها، انفرد أهل مصر بالحج.
وفي شوال من هذه السنة لاح في السماء في الليل ضوء عظيم كالبرق يلمع في موضعين؛ أحدهما ابيض، والآخر أحمر إلى ثلث الليل، وكبر الناس وهللوا. حكاه في المرآة.
وفي سنة ثلاث وخمسين في جمادى الآخرة لليلتين بقيتاً منه، كسفت الشمس كسوفا عظيما، جميع القرص، فمكنت أربع ساعات حتى بدت النجوم، وأوت الطيور إلى أوكارها لشدة الظلمة.
وفي سنة خمس وخمسين وقع بمصر وباء شديد، كان يخرج منها في كل يوم ألف جنازة.
وفي سنة ست وخمسين وقعت فتنة عظيمة بين عبيد مصر والترك، واقتتلوا. وغلب العبيد على الجزيرة التي في وسط النيل بين مصر والجيزة، واتصل الحرب بين الفريقين.
وفي سنة ثمان وخمسين، في العشر الأول من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير، له ذؤابة عرضها نحو عرضها نحو ثلاثة أذرع وطولها أذرع كثيرة، وبقي إلى أواخر الشهر، ثم ظهر كوكب آخر عند غروب الشمس، قد استدار نوره عليه كالقمر، فارتاع الناس وانزعجوا، فلما اعتم الليل، رمى ذؤابة نحو الجنوب، وأقام إلى أيام في رجب، وذهب.
وفي سنة ستين وأربعمائة كان ابتداء الغلاء العظيم بمصر، الذي لم يسمع بمثله في الدهور؛ من عهد يوسف الصديق عليه السلام، واشتد القحط والوباء سبع سنين متوالية بحيث أكلوا الجيف والميتات، وأفنيت الدواب، وبيع الكلب بخمسة دنانير والهر بثلاثة دنانير، ولم يبق لخليفة مصر سوى ثلاثة أفراس بعد العدد الكثير، ونزل الوزير يوما عن بغلته، فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر اذبحوها وأكلوها، فاخذوا فصلبوا وأصبحوا وقد أكلهم الناس، ولم يبق إلا عظامهم. وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم ويدفن رءوسهم وأطرافهم فقتل. وبيعت البيضة بدينار، وبلغ الإردب القمح مائة دينار ثم عدم أصلاً، حتى حكى صاحب المرآة أن امرأة خرجت من القاهرة، ومعها مد جوهر، فقالت: من يأخذه بمد قمح؟ فلم يلتفت إليها أحد، وقال بعضهم يهنئ القائم ببغداد:
وقد علم المصري أن جنوده ... سنو يوسف هولا وطاعون عمواس
أقامت به حتى استراب بنفسه ... وأوجس منها خيفة أي إيجاس
وفي سنة اثنتين وستين، زلزلت مصر حتى نفرت إحدى زوايا جامع عمرو. وفيها ضرب صاحب مصر اسم ابنه ولي العهد على الدينار، وسمى الآمري، ومنع التعامل بغيره.
وفي سنة خمس وستين اشتد الغلاء والوباء بمصر حتى أن أهل البيت كانوا يموتون في ليلة، وحتى إن امرأة أكلت رغيفا بألف دينار، باعت عروضها قيمته ألف دينار، واشترت بها جملة قمح، وحمله الحمال على ظهره فنهبه الناس، فنهبت المرأة مع الناس فصح لها رغيف واحد، وكان السودان يقفون في الأزقة، يصطادون النساء بالكلاليب، فيأكلون لحومهن، واجتازت امرأة بزقاق القناديل، فعلقها السودان بالكلاليب، وقطعوا من عجزها قطعة، وقعدوا يأكلونها وغفلوا عنها، فخرجت من الدار، واستغاثت، فجاء الوالي وكبس الدار، فأخرج منها ألوفاً من القتلى.
وفي سنة ست وثمانين وسنتين بعدها انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة إحدى وتسعين حدثت بمصر ظلمة عظيمة، غشيت أبصار الناس، حتى لم يبق أحد يعرف أين يتوجه.
وفي سنة سبع وتسعين عز القمح بمصر، ثم هان. وفيها تولى الآمر بمصر فضرب الفضة السوداء المشهورة بالآمرية.
وفي سنة خمس عشرة وخمسمائة هبت ريح سوداء بمصر، فاستمرت ثلاثة أيام، فأهلكت خلقاً كثيراً من الناس والدواب والأنعام. قاله ابن كثير.
وفي سنة سبع عشرة بلغ النيل ستة عشر ذراعاً سواء بعد توقف. (1/311)
وفي سنة ثمان عشرة أوفى النيل بعد النيروز بتسعة أيام، وزاد عن الستة عشر ذراعا أحد عشر إصبعا لا غير، وعز السعر ثم هان. وفي حدود هذه السنين أحترق جامع عمرو.
وفي سنة خمس وستين حاصرت الفرنج دمياط خمسين يوما، بحيث ضيقوا أهلها، وقتلوا منهم، فأرسل نور الدين محمود الشهيد إليهم جيشاً عليهم صلاح الدين يوسف بن أيوب، فأجلوهم عنها، وكان الملك نور الدين شديد الاهتمام بذلك؛ حتى إنه قرا عليه بعض طلبة الحديث جزءا فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه ان يبتسم ليتصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال: إني لأستحي من الله أن يراني متبسما، والمسلمون تحاصرهم الفرنج بثغر دمياط. وذكر أبو شامة أن بعضهم رأى في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له: سلم على نور الدين، وبشره بان الفرنج قد رحلوا عن دمياط، فقال له الرائي: يا رسول الله، بأي علامة؟ فقال: بعلامة لما سجد يوم كذا، وقال في سجوده: اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب! فاصبح الرائي، وبشر نور الدين بذلك، وأعلمه بالعلامة، ففرح، ثم جاء الخبر بإجلائهم تلك الليلة. فرحم الله هذا الملك وأمثاله! وفي سنة ثلاث وثمانين، قال ابن الأثير في الكامل: كان أول يوم منها يوم السبت، وكان يوم النيروز؛ وذلك أول سنة الفرس، واتفق انه أول سنة الروم ايضا، وفيه نزلت الشمس برج الحمل، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضا، قال: وهذا شيء يبعد وقوع مثله.
وفي سنة ثلاث وتسعين ورد كتاب من [القاضي] الفاضل من مصر إلى القاضي محيي الدين بن الزكي يخبره فيه بأن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوى أهويتها، واشتد هبوبها، فتدافعت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صواعق مصعقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار بين السماء والأرض عجاج فقيل: لعل هذه على هذه أطبقت، ولا نحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد، وعدا منها عاد، وزاد عصف الرياح إلى أن انطفأت سرج النجوم، ومزقت أديم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم؛ فكنا كما قال الله: )يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق(، وكما قلنا: ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم من الخطف للأبصار، ولا ملجأ من الخطب غلا معاقل الاستغفار، وفر الناس نساء ورجالا وأطفالا، ونفروا من دورهم خفافاً وثقالا، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، ووجوه عاينة، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي، ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعيت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم قادمون، وقاموا إلى صلاتهم، وودوا أن لو كانوا من الذين هم عليها دائمون، إلى أن أذن الله في الركود، وأسعف الهاجدين بالهجود، واصبح كل ليسلم على رفيقه، ويهنئه بسلامة طريقه، ويرى انه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأدبه بعد أن كان يأخذه على الغرة. ووردت الأخبار بأنها كسرت المراكب في البحار والأشجار في القفار، وأتلفت خلقا كثيرا من السفار، ومنهم من فر فلم ينفعه الفرار. إلى أن قال: ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفاً، والقول مجزفا، فالأمر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجوا أن يكون الله قد أيقظنا بما وعظنا، ونبهنا بما ولهنا، فما من عباده من رأى القيامة عيانا، ولم يلتمس عليها من بعده برهانا، إلا أهل بلد يافا، اقتص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات، والحمد لله الذي من فضله جعلنا نخبر عنها ولا تخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا، عارضي الحرص والغرور إذا عنا.
وفي سنة ست وتسعين، قال الذهبي، في العبر: كسر النيل من ثلاثة عشر ذراعا غلا ثلاثة أصابع، فاشتد الغلاء، وعدمت الأقوات، ووقع البلاء وعظم الخطب، إلى أن آل بهم الأمر إلى أكل الآدميين الموتى. قال ابن كثير في هذه السنة والتي بعدها: كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك الغني والفقير، وعم الجليل والحقير، وهرب الناس منها نحو الشام، ولم يصل منها إلا القليل من الفئام، وتخطفتهم الفرنج من الطرقات، وعزوهم في أنفسهم، واغتالوهم بالقلي بالقليل من الأقوات. وكان الأمير لؤلؤ أحد الحجاب بالديار المصرية يتصدق في هذا الغلاء في كل يوم باثني عشر ألف رغيف على أثنى عشر ألف فقير. (1/312)
وفي سنة سبع وتسعين، قال الذهبي في العبر: كان الجوع والموت المفرط بالديار المصرية، وجرت أمور تتجاوز الوصف، ودام ذلك إلى نصف العام الآتي، فلو قال القائل: مات ثلاثة أرباع أهل الإقليم لما بعد، والذي دخل تحت قلم الحصرية في مدة اثنين وعشرين شهرا مائة ألف وأحد وعشرين ألفا بالقاهرة، وهذا نزر في جنب ما هلك بمصر والحواضر، وفي البيوت والطرقات ولم يدفن، وكله نزر في جنب ما هلك بالأقاليم. وقيل إن مصر كان فيها تسعمائة منسج للحصر، فلم يبق إلا خمسة عشر منسجاً، فقس على هذا؛ وبلغ الفروج مائة درهم، ثم عدم الدجاج بالكلية، لولا ما جلب من الشام، وأما أكل لحوم الآدميين فشاع وتواتر، هذا كلام الذهبي.
وقال صاحب المرآة: في هذه السنة كان هبوط النيل، ولم يعهد ذلك في الإسلام غلا مرة واحدة في دولة الفاطميين، ولم يبق منه إلا شيء يسير، واشتد الغلاء والوباء بمصر، فهرب الناس إلى المغرب والحجاز واليمن والشام، وتفرقوا وتمزقوا كل ممزق. قال: وكان الرجل يذبح ولده، وتساعده أمه على طبخه وشيه؛ وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرجل يدعوا صديقه وأحب الناس إليه إلى منزله ليضيفه، فيذبحه ويأكله، وفعلوا بالأطباء ذلك، وفقدت الميتات والجيف، وكانوا يخطفون الصبيان من الشوارع فيا كلونهم، وكفن السلطان في مدة يسيرة مائتي ألف وعشرين ألفا، وامتلأت طرقات المغرب والحجاز والشام برمم الناس، وصلى إمام جامع إسكندرية في يوم واحد على سبعمائة جنازة.
قال العماد الكاتب: في سنة سبع وتسعين وخمسمائة اشتد الغلاء، وامتد الوباء وحدثت المجاعة، وتفرقت الجماعة، وهناك القوى فكيف الضعيف! ونحف السمين فكيف العجيف! وخرج الناس حذر الموت من الديار، وتفرقت فرق مصر في الأمصار، ولقد رأيت الأرامل على الرمال، والجمال باركة تحت الأحمال، ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللقم، تسترق الجياع باللقم.
قال صاحب المرآة وغيره: وكان في هذه السنة، في شعبان، زلزلة هائلة من الصعيد، هدمت بنيان مصر، فمات تحت الهدم خلق كثير.
وفي سنة تسع وتسعين في ليلة السبت سلخ المحرم ماجت النجوم في السماء شرقاً وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق، وضجوا بالدعاء، ولم يعهد مثل ذلك غلا في عام البعث وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. قاله صاحب المرآة وغيره.
وفي سنة ستمائة، كانت زلزلة عظيمة كانت زلزلة عظيمة بديار مصر، قاله ابن الأثير في الكامل، وفيها أخذت الفرنج فوة واستباحوها، دخلوا من فم رشيد في النيل. ذكره الذهبي في العبر.
وفي سنة سبع وستمائة، دخلت الفرنج من البحر من غربي دمياط، وساروا في البر فاخذوا قرية بورة، واستباحوا قتلاً وسبيا، وردوا في الحال، ولم يدركهم الطلب.
وفي سنة ثمان وستمائة، كانت زلزلة شديدة، هدمت بمصر والقاهرة دورا كثيرة، ومات خلق تحت الهدم.
وفي سنة خمس عشرة وستمائة، في جمادى الأولى، نزلت الفرنج على دمياط، واخذوا برج السلسلة، ثم استحوذوا على دمياط في سنة ست عشرة، فاستمرت بأيديهم إلى أن استردت منهم في سنة ثمان عشرة.
قال الذهبي في العبر: في سنة ست عشرة وستمائة، حاصر الفرنج أهل دمياط، ووقعت حروب كثيرة يطول شرحها، وجدت الفرنج في المحاصرة، وعملوا عليهم خندقاً كبيرا، وثبت أهل البلد ثباتا لم يسمع بمثله، وكثير فيهم القتل والجرح والموت، ودمت الأقوات، ثم سلموها بالأمان في شعبان، وطار عقل الفرنج، وتسارعوا إليها من كل فج، وشرعوا في تحصينها، وأصبحت دار هجرتهم، ورجوا بها أخذ ديار مصر، واشرف الإسلام على خطة خسف، وأقبل التتار من المشرق والفرنج من المغرب، وعزم المصريون على الجلاء؛ فثبتهم الكامل إلى أن سار إليه أخوه الأشرف والمعظم، وحصل الفتح ولله الحمد. (1/313)
وفي سنة ثمان وعشرين وستمائة، كان غلاء شديد بديار مصر، قال ابن كثير. وبلغ النيل ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع فقط، بعد توقف عظيم، ووصل القمح خمسة دنانير الإردب، فرسم السلطان بفتح الأهراء وشون الأمراء، وأن يباع بثمانين درهما الإردب من غير زيادة، فانحط السعر إليه. ذكره ابن المتوج.
وفي سنة تسع وعشرين، وصل النيل ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع، وتأخر نزوله حتى خاف الناس من عدم نزوله، فغلا السعر، ثم نزل، فانحط السعر.
وفي سنة إحدى وثلاثين، قدم إلى الملك الكامل هدية من الإفرنج، فيها دب ابيض وشعره مثل شعر السبع، ينزل البحر فيصعد بالسمك فيأكله.
وفي سنة اثنتين وثلاثين كان الوباء العظيم بمصر.
وفي سنة ثلاث وأربعين كان الغلاء بمصر، وقاسي أهلها شدائد.
وفي سنة سبع وأربعين نزلت الفرنج دمياط براً وبحرا، وملكوها، ثم استنقذت منهم.
وفي سنة تسع وأربعين، قال ابن كثير: صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، قال: وهذا اتفاق غريب.
وفي سنة سبع وخمسين، حصلت بديار مصر زلزلة عظيمة جداً.
وفي سنة إحدى وستين، جهز الظاهر بيبرس رحمه الله تعالى أخشاباً وآلات كثيرة لعمارة المسجد النبوي بهد حريقه، فطيف بها بالديار المصرية، فرحاً بها، وتعظيما لشانها ثم ساروا بها إلى المدينة.
وفي سنة اثنتين وستين كان بديار غلاء عظيم، وفرق الظاهر الفقراء على الأمراء والأغنياء، وألزمهم بإطعامهم، وفرق هو قمحا كثيراً، ورتب كل يوم للفقراء مائة إردب تخبز وتفرق عليهم.
وفي هذه السنة ولد بمصر ولد ميت، له رأسان وأربعة أعين وأربعة أيد وأربعة أرجل.
وفي سنة ثلاث وستين وقع حريق عظيم ببلاد مصر، اتهم به النصارى، فعاقبهم السلطان عقوبة عظيمة، وفيها استجد الظاهر بمصر القضاة الثلاثة، من كل مذهب قاض.
وفي سنة أربع وستين، قال ابن المتوج: حفر الظاهر بحر مصر بنفسه، وعسكره ما بين الروضة والمنشأة.
وفي سنة خمس وستين كبا الفرس بالملك الظاهر، فانكسرت فخذه، وحصل له عرج.
وفي سنة ست وستين كانت كائنة الحبيس النصراني، كان كاهناً ثم ترهب وأقام بمفازة بجبل حلوان، فقيل إنه ظفر بكنز للحاكم صاحب مصر، فواسى منه الفقراء والمستورين من كل ملة، واشتهر أمره وشاع ذكره، وانفق في ثلاث سنين أموالاً عظيمة، فأحضره السلطان، وتلطف به، فأبى عليه أن يعرفه بجلية أمره، وأخذ يراوغه ويغالطه، فلما أعياه حنق عليه، وبسط عليه العذاب فمات. قال الذهبي: وقد أفتى غير واحد بقتله خوفاً على ضعفاء الإيمان من المسلمين أن يضلهم ويغويهم.
وفي سنة سبع وستين، رسم السلطان بإراقة الخمور، وإبطال المفسدات والخواطئ من الديار المصرية والشامية، وحبست الخواطئ حتى يتزوجن، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وأسقطت الضرائب التي كانت مرتبة عليها.
وفي هذه السنة حج السلطان فأحسن إلى أهل الحرمين، وغسل الكعبة بماء الورد بيده. وفي أواخر ذي الحجة من هذه السنة هبت ريح شديدة بديار مصر، غرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع مطر شديد جداً، وأصابت الثمار صعقة أهلكتها، حكاه ابن كثير.
وفي سنة تسع وستين شدد السلطان في أمر الخمور، وهدد من يعصرها بالقتل، وأسقط الضمان في ذلك، وكان ألف دينار كل يوم بالقاهرة وحدها، وكتب بذلك توقيع قرئ على منبر مصر والقاهرة، وسارت البرد بذلك إلى الآفاق.
وفي سنة سبعين، قال قطب الدين: في جمادى الآخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل، وأرضعت من بقرة، قال: وهذا شيء لم يعهد مثله.
وفي سادس عشر شوال سنة خمس وسبعين، قال ابن كثير: طيف بالمحمل، وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوما مشهودا.
قلت: كان هذا مبدأ ذلك، واستمر ذلك كل عام إلى الآن. (1/314)
وفي سنة تسع وسبعين، في يوم عرفة وقع ببلاد مصر برد كبار، اتلف كثيرا من الغلال، ووقعت صاعقة بالإسكندرية، وأخرى تحت الجبل الأحمر على حجر فأحرقته، فأخذ ذلك الحجر وسبك، فخرج منه من الحديد أواق بالرطل المصري.
وفي سنة ثمان وستمائة تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل اتجاه قرية بولاق واللوق، وانقطع بسببها مجرى البحر، ما بين قلعة المقس وساحل باب البحر، واشتد ونشف بالكلية، واتصل ما بين المقص وجزيرة الفيل بالمشي، ولم يعهد فيما تقدم، وحصل لأهل القاهرة مشقة من نقل الماء لبعد النيل، فأراد السلطان حفره، فقالوا: إنه لا يفيد، ونشف إلى الأبد.
وفي سنة إحدى وثمانين في شعبان، طافوا بكسوة الكعبة، ولعبت مماليك الملك المنصور ايام الكسوة بالرماح والسلاح؛ وهو أول ما وقع ذلك بالديار المصرية، واستمر ذلك إلى الآن، يعمل سنين ويبطل سنين.
وفي سنة إحدى وتسعين في الرابع والعشرين من المحرم، وقع حريق عظيم بقلعة الجبل، أتلفت شيئاً كثيرا من الذخائر والنفائس والكتب.
وفي سنة ثلاث وتسعين، قال ابن المتوج: كثرت النفوس وردها أرباب المعائش، وجعلت بالميزان بربع نقرة كل أوقية، ثم بسدس الأوقية، وتحرك السعر بسبب ذلك. وكان القمح في أول السنة بثلاثة عشرة درهما الإردب، فأنتقل إلى ستين درهما الإردب. وفيها، قال ابن المتوج: كانت زلزلة بديار مصر.
وفي سنة أربع وتسعين، أوفى النيل في السادس من أيام النسيء وكسر، وبلغ مجموع زيادته ستة عشرة ذراعا وسبعة عشر إصبعا، وحصل في هذه السن بديار مصر غلاء شديد. واستهلت سنة خمس وتسعين وأهل الديار المصرية في قحط شديد ووباء مفرط، حتى أكلوا الجيف، ونفدت حواصل السلطان من العليق، فأقامت خيول السلطان ثلاثة أيام حتى أحضرت التقاوى المخلد في البلاد، وبلغ الإردب القمح مائة وسبعين درهما نقرة، وذلك عبارة عن ثمانية مثاقيل ذهب ونصف مثقال، والخبز كل رطل وثلث بالمصري بدرهم نقرة، وأكلت الضعفاء الكلاب، وطرحت الأموات في الطرقات، وكانوا يحفرون الحفائر الكبار، فيلقون فيها الجماعة الكثيرة. وبيع الفروج بالإسكندرية بستة وثلاثين درهما نقرة، وبالقاهرة بتسعة عشر، والبيض كل ثلاثة بدرهم، وفنيت الحمر والخيل والبغال والكلاب، ولم يبقى شيء من هذه الحيوانات يلوح، وفي جمادى الآخرة خف الأمر، وأخذ بالرخص، وانحط سعر القمح إلى خمسة وثلاثين درهما الإردب.
وفي سنة ست وتسعين، بلغت زيادة النيل إلى أول توت خمسة عشرة ذراعا وثمانية عشر إصبعا، ثم نقص ولم يوف.
وفي سنة سبع وتسعين توقف النيل، ثم أوفى آخر أيام النسيء.
وفي سنة ثمان وتسعين في المحرم، ظهر كوكب له ذؤابة.
وفي سنة تسعين، أوفى النيل في ثالث عشر توت.
وفي شعبان سنة سبعمائة، أمر بمصر والشام اليهود بلبس العمائم الصفر، والنصارى بلبس الزرق، والسامرة بلبس الحمر، واستمر ذلك إلى الآن.
وقال الشعراء في ذلك، فقال العلاء الوادعي:
لقد ألزموا الكفار شاشات ذلة ... تزيدهم من لعنة الله تشويشا
فقلت لهم: ما ألبسوكم عمائماً ... ولكنهم قد ألبسوكم براطيشا
وقال آخر:
تعجبوا للنصارى واليهود معاً ... والسامريين لما عمموا الخرقا
كأنما بات بالأصباغ منسهلا ... نسر السماء فأضحى فوقهم فرقا
وفي سنة اثنتين وسبعمائة في ذي الحجة، كانت الزلزلة العظمى بمصر، وكان تأثيرها بالإسكندرية اعظم من غيرها، وطلع البحر إلى نصف البلد، وأخذ الحمال والرجال، وغرقت المراكب، وسقطت بمصر دور لا تحصى، وهلك تحت الردم خلق كثير.
وفي هذه السنة، قال البرزالي في تاريخه: قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة إنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة، ظهرت دابة عجيبة الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، وصفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كآذان الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنبها، طوله شبر ونصف، طرفه كذنب السمك، ورقبتها مثل غلظ المسند المحشو تبنى، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب، اثنان من فوق واثنان من أسفل، طولها دون الشبر، وعرض إصبعين، وفي فمها ثمانية وأربعون ضرسا وسنا، مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف، ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما، وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها احمر، وزفرته مثل السمك، وطعمه كطعم الجمل، وغلظ جلدها أربعة أصابع، ما تعمل به السيوف، وحمل جلدها على خمسة أجمال في مقدار ساعة، من ثقله على جمل بعد جمل، وأحضروه إلى القلعة بين يدي السلطان، وحشوه تبنا، وأقاموه بين يديه. (1/315)
وفي هذه السنة أبطل الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عيد الشهيد بمصر، وذلك أن النصارى كان عندهم تابوت فيه إصبع، يزعمون أنه من أصابع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يلق فيه هذا التابوت، وكان يجتمع النصارى من سائر النواحي إلى شبرا، ويقع هناك أمور فظيعة؛ من سكر وغيره، فابطل ذلك إلى يومنا هذا، ولله الحمد.
وفي سنة أربع وسبعمائة ظهر من معدن الزمرد قطعة زنتها مائة وخمسة وسبعون مثقالا، فأخفاها الضامن، ثم حملها إلى بعض الملوك، فدفع له فيها مائة ألف وعشرين ألف درهم، فأبى أن يبيعها بذلك، فأخذها الملك منه غصبا، وبعث بها إلى السلطان، فمات الضامن غما.
وفيها أوفى النيل رابع توت، وكذا في سنة خمس.
وفي سنة تسع وسبعمائة توقف النيل، واستسقى الناس فلم يسقوا، وانتهت زيادته في سابع عشري توت إلى خمسة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا، ثم زاد.
وأوفى ستة عشر ذراعا في تاسع عشر بابه، وتشاءم الناس بسلطنة بيبرس، وغنت العامة في ذلك: سلطاننا ركين، ونائبنا، يجيئنا الماء من أين! يجيب لنا الأرعج، يجيء الماء ويدحرج.
وفي هذه السنة لما عاد ابن قلاوون تكلم الوزير ابن الخليلي في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وانهم قد التزموا للديوان سبعمائة ألف في كل سنة زيادة على الجالية، فسكت أهل المجلس، وقام الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وتكلم كلاما عظيما، ورد على الوزير مقالته، وقال للسلطان: حاشاك أن تكون ممن ينصر أهل الذمة! فأصغى إليه السلطان، واستمر لبسهم للأصفر والأزرق، ثم عمد ذلك ببغداد أيضا في سنة أربع وثلاثين اقتداء بملك مصر.
وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة وقع الشروع في روك الإقطاعات بمصر، وابطل السلطان مكوسا كثيرة، وأفردت جهات التي بقيت من المكس، وأضيفت للوزير. وأفرد لكل راتب من الدولة، ولكل فريق جهة من البلاد، ولم يكن الوزير يتعلق به جهة مكس قديما، ولذا كان يتولاه العلماء وقضاة القضاة.
وفي سنة عشرين وسبعمائة حصل بالديار المصرية مرض كثير، قل أن سلمت منه دار، وغلت الأدوية والاشربة، وبيعت الرومانة الحامضة بثلاثة أرباع نقرة، والعناب الرطل المصري بستة دراهم نقرة، وكذلك الإجاص والقراصيا والقلب اللوز، وتمت مدة عظيمة؛ ولكن كان المرض سليما والموت قليلا. ذكره في العبر.
وفي سنة إحدى وعشرين، كان بالقاهرة حريق كبير متتابع خارج عن الوصف، ودام أياما في أماكن، وأحرق جامع ابن طولون وما حوله بأسره، ثم ظفر بفاعليه، وهم جماعة من النصارى يعملون قوارير النفط، فقتلوا وأحرقوا، وهدم غالب كنائس النصارى بمصر، ونهب الباقي، وبقيت القاهرة أياماً لم يظهر فيها أحد من النصارى، وبقي لا يظهر نصراني غلا ضربه العوام، وربما قتلوه.
وفي هذه السنة، قال الذهبي في العبر: نقلت من خط بدر الدين العزازي أن كلبة ولدت بالقاهرة ثلاثين جروى، وإنها أحضرت بين يدي السلطان، فعجب منها وسأل المنجمين عن ذلك، فلم يكن عندهم علم منه.