تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة
المؤلف : السيوطي
مصدر الكتاب : موقع الوراق
http://www.alwarraq.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

أرجوزة الجزار في الأمراء المصرية
وقد نظم الأديب جمال الدين المصري المعروف بالجزار الشاعر المشهور أرجوزة سماها " العقود الدرية في الأمراء المصرية " ، ضمنها أمراء مصر من عمرو بن العاص إلى الملك الظاهر، هذا فقال:
الحمد لله العلي ذكره ... ومن يفوق كل أمر أمره
أحمده وهو ولي الحمد ... على توالي بره والرفد
ثم الصلاة بعد هذا كله ... على أجل خلقه ورسله
محمد خير بني عدنان ... ومن أتاه الوحي بالتبيان
دامت عليه صلوات ربه ... ثم على عترته وصحبه
يا سائلي عن أمراء مصر ... منذ حباها عمر لعمرو
خذ من جوابي ما يزيل اللبسا ... واحفظه حفظ ذاكر لا ينسى
أول من كان إليه الأمر ... مفوضاً بعد الفتوح عمرو
وأبن أبي سرح تولى أمرها ... وقيس ساس نفعها وضرها
ثم تولى النخعي الأشتر ... وأبن أبي بكر كما قد ذكروا
ثم أعيدت بعده لعمرو ... ثانية وعتبة في الأثر
وعقبة ثم الأمير مسلمة ... وأبن يزيد وهو نجل علقمة
ثم تولى الأمر عبد الرحمن ... وبعده تأمر أبن مروان
إذ كان ولاها له أبوه ... وهو بمصر حوله ذووه
ثم لعبد الله تعزى الإمره ... وبعده نجل شريك قره
ثم تولى بعده عبد الملك ... نقلا صحيحا غير نقل مؤتفك
وأبن شرحبيل الأمير أيوب ... وبشر فالأمر إليه منسوب
ثم أخو بشر الأمير حنظلة ... ثم غدا محمد والأمر له
والحر نجل يوسف وحفص ... من بعده جاء بذلك النص
ثم فتى رفاعة عبد الملك ... ثم الوليد صنوه كل ملك
ثم أبن خالد بعد تاليه ... ثم أبن صفوان تولى ثانية
وحفص قد عاد إليها والياً ... وقام حسان الأمير تاليا
ثم تولى حفص وهي الثالثة ... وأبن سهيل جاء فيها وارثه
وابن عبيد واسمه المغيرة ... دبر إقليماً غدا أميره
ثم ابن مروان ولي لخم ... وكان للدولة أي ختم
وصالح أول من تولى ... ثم ابن عون وهو نعم المولى
ثم أعيد صالح لمصر ... ثانية بنهيه والأمر
ثم أبو عون لها أعيدا ... ثانية وأدرك المقصودا
وجاء موسى بعده ابن كعب ... محكماً في سلمها والحرب
ثم أتى محمد بن الأشعث ... فاسمع لما حدثته وحدث
ثم حميد وهو ابن قحطبه ... ثم يزيد نال أيضاً منصبه
وقام عبد الله فيها يحمد ... ثم أخوه بعده محمد
ثم غدا الأمير موسى بن علي ... وبعده عيسى بن لقمان ولي
وواضح وكان مولى المنصور ... وبعد ذاك ابن يزيد منصور
وجاء يحيى بعده ابن ممدود ... وسالم في الأمراء معدود
وبعده إبراهيم نجل صالح ... ولم يزل ينظر في المصالح
وجاء موسى وهو نجل مصعب ... وبعده أسامة بها حبي
والفضل نجل صالح أيضا ولي ... وبعده نجل سليمان على
ثم حوى موسى بن عيسى حرمه ... ثم تولاها ابن يحيى مسلمة
وابن زهير واسمه محمد ... وجاء داود وهذا مسند
وجاء موسى نجل عيسى ثانية ... ونال في إمرتها أمانيه
كذاك إبراهيم أيضاً ولي ... فيها كما قد قيل بعد العزل
وحاز عبد الله منها الآفاق ... وابن سليمان المسمى إسحاق
ثم أتى هرثمة وهو الملك ... وبعده ابن صالح عبد الملك
ثم عبيد الله نجل المهدي ... وكان رب حلها والعقد
وبعده موسى بن عيسى ثالثه ... حتى رأى من دهره حوادثه
ثم عبيد الله نجل المهدي ... ثانية في حلها والعقد
وجاء إسماعيل نجل صالح ... يأمر في الغادي بها والرائح
وبعده سميه ابن عيسى ... تحدو إليه القاصدون العيسا
ثم تولى الليث نجل الفضل ... وأحمد من بعده ذو الفضل
وجاء عبد الله يقفو جنده ... ثم الحسين بن جميل بعده
ثم تولى مالك ثم الحسن ... كلاهما أوضح في العدل السنن
ثم غدا الأمير فيها حاتم ... وجابر بالأمر فيها قائم
ثم لعباد غدت تنتسب ... وبعده أميرها المطلب
ثم تولى أمرها العباس ... وفوض الأمر إليه الناس

(1/221)


ثم أعيد الأمر للمطلب ... ثانية ثم السرى فاعجب
ثم سليمان له الأمر حصل ... ثم السرى بعد ما كان انفصل
ثم تولى ابن السرى الأمرا ... وطالما ساء بها وسرا
ثم عبيد الله وهو ابن السرى ... وبعده ابن طاهر فحرر
وبعده عيسى فتى يزيد ... ثم عمير من بني الوليد
قد كان ولاها له لما قدم ... على البلاد ابن الرشيد المعتصم
وعاد عيسى وهو فيها والي ... وعبدويه ذو المحل العالي
وقد تولى بعده ابن منصور ... عيسى وهذا الأمر أمر مشهور
وعند ذاك قدم المأمون ... لمصر والدنيا له تدين
في سنة تعد سبع عشرة ... ومائتين بعد عام الهجرة
ثم تولى نصر وهو كيدر ... ثم تولاها ابنه المظفر
ثم تولى ابن أبي العباس ... موسى بلا شك ولا التباس
ومالك بن كيدر ثم علي ... وبعده عيسى بن منصور ولي
وبعده هرثمة بن النضر ... وحاكم وكان رب الأمر
ثم على نجل يحيى ثانية ... وجاء إسحاق بن يحيى تاليه
وبعده الأمير عبد الواحد ... وهو ابن يحيى فارض بالفوائد
وبعده عنبسة بن إسحاق ... ثم يزيد حاز منها الآفاق
ثم تولى أمرها مزاحم ... ثم ابنه أحمد فيها القائم
ونال أرجوز بها ما يقصد ... ثم ابن طولون الأمير أحمد
ثم أبو الجيش ابنه من بعده ... ثم أتى جيش ولي عهده
ثم تولى بعده هارون ... وبعده من جده طولون
وبعده عيسى فتى محمد ... ثم تكين صار رب السؤدد
ثم تولاها ذكا الأعور ... ثم تكين وهو وقت آخر
ثم هلال وهو ابن بدر ... أصب فيها وهو رب الأمر
ثم تولى أحمد بن كيغلغ ... ثم تكين إذا له الأمر بلغ
ثم أتى محمد بن طغج ... وأحمد ثانيه في النهج
ثم تولاها ابن طغج ثانيه ... ثم أبو القاسم جاء تاليه
ثم أتى الإخشيد من بعد علي ... وبعد ذاك الأمر كافور ولي
وبعد كافور تولى أحمد ... ثم أتى جوهر وهو أيد
ثم تولاها المعز إذ أتى ... ثم العزيز نجله خير فتى
ثم ابنه الحاكم ثم الظاهر ... وكلهم في المأثرات باهر
ثم تولى أمرها المستنصر ... وهو لعمري يقظ مستبصر
ثم تولى أمرها المستعلي ... وكان رب عقدها والحل
وبعد ذلك قد حواها الآمر ... ولم تكد تعصي له أوامر
ثم تولاها الإمام الحافظ ... وهو على تدبيرها محافظ
وجاء إسماعيل وهو الظافر ... ثم ابنه الفائز وهو الآخر
اعني بمن قلت الإمام العاضدا ... محررا فاغتنم الفوائدا
وشيركوه مدة يسيره ... تناهز الشهرين منه السيره
ثم تولاها الصلاح يوسف ... ثم العزيز وابنه مستضعف
ثم أتى الأفضل نور الدين ... وبعده العادل ذو التمكين
ثم ابنه الكامل ثم العادل ... كلاهما بالحكم فيها عادل
ثم أتى الصالح وهو الأعظم ... ثم تولاها ابنه المعظم
وبعده أم خليل ملكت ... وطابت الأفعال فيها وزكت
والملك الأشرف كان طفلا ... فلم يدبر عقدها والحلا
ثم أستبد الملك المعز ... ثم أبنه ووافقته الغز
ثم حواها الملك المظفر ... وحظه من نصره موفر
ثم حوى الأمر المليك الظاهر ... لا زال للأعداء وهو قاهر!
ذكر من قام بمصر من الخلفاء العباسيين
كان لانقراض الخلافة ببغداد وما جرى على المسلمين بتلك البلاد مقدمات نبه عليها العلماء: منها، أنه في يوم الثلاثاء ثامن عشر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وستمائة، هبت ريح عاصفة شديدة بمكة، فألقت ستارة الكعبة المشرفة، فما سكنت الريح إلا والكعبة عريانة، قد زال عنها شعار السواد، ومكثت إحدى وعشرين يوما ليس عليها كسوة.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير؛ وكان هذا فألا على زوال دولة بني العباس؛ ومنذراً بما سيقع بعد هذا من كائنة التتار لعنهم الله.
ومنا، قال أبن كثير في حوادث سنة سبع وأربعين: طغى الماء ببغداد، حتى أتلف شيئاً كثيرا من المحال والدور الشهيرة، وتعذرت إقامة الجمعة بسبب ذلك.

(1/222)


وفي هذه السنة هجمت الفرنج على دمياط؛ فاستحوذوا عليها وقتلوا خلقاً من المسلمين.
وفي سنة خمسين وقع حريق بحلب أحترق بسببه ستمائة دار؛ فيقال: إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيها قصداً.
وفي سنة اثنتين وخمسين، قال سبط أبن الجوزي في مرآة الزمان: وردت الأخبار من مكة شرفها الله، بأن نارا ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها، بحيث أنه يطير شررها إلى البحر في الليل، ويصعد منها دخان عظيم في أثناء النهار، فتاب الناس وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا في أفعال الخير والصدقات.
وفي سنة أربع وخمسين زادت دجلة زيادة مهولة، فغرق حلق كثير من أهل بغداد، ومات خلق تحت الهدم، وركب الناس في المراكب، واستغاثوا بالله، وعاينوا التلف، ودخل الماء من أسوار البلاد، وأنهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون دارا، وأنهدم مخزن الخليفة، وهلك شيء كثير من خزانة السلاح.
قال أبن السبكي في الطبقات الكبرى: وكان ذلك من جملة الأمور، التي هي مقدمة لواقعة التتار.
وفي هذه السنة، في يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، وقع بالمدينة الشريفة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، وأقام على هذه الحالة يومين، فلما كان ليلة الأربعاء تعقب الصوت زلزلة عظيمة، رجفت منها الأرض والحيطان، واضطرب المنبر الشريف، واستمرت تزلزل ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة خامس الشهر، ظهر من الحرة نار عظيمة، وسالت أودية منها سيل الماء، وسالت الجبال نارا، وسارت نحو طريق الحاج العراقي، فوقفت وأخذت تأكل الأرض أكلا، ولها كل يوم صوت عظيم من آخر الليل إلى الضحوة، واستغاث الناس بنبيهم صلى الله عليه وسلم، واقلعوا عن المعاصي، واستمرت النار فوق الشهر، وخسف القمر ليلة الاثنين منتصف الشهر، وكسفت الشمس في غدوة، وبقيت أياما متغيرة اللون ضعيفة النور، واشتد فزع الناس، وصعد علماء البلد إلى الأمير يعظونه، فطرح المكوس، ورد على الناس ما كان تحت يده من أموالهم.
وقال سيف الدين علي بن عمر بن قذل المشد في هذه النار:
ألا سلما عني على خير مرسل ... ومن فضله كالسيل ينحط من عل
واشرف من شدت إليه رحالنا ... لتورد هيم الشوق أعذب منهل
تحملن منا كل أشعث أغبر ... فيا عجبا من رحلها المتحمل!
إلى سيد جاءت بعالي محله ... ومعجزه آي الكتاب المنزل
نبي هدانا للهدى بأدلة ... فهمنا معانيها بحسن التأول
محمد المبعوث والغي مظلم ... فأصبح وجه الرشد مثل السجنجل
وقولا له: إني إليك لشيق ... عسى الله يدني من محلك محملي
فتخمد أشواقي وتسكن لوعتي ... وأصبح عن كل الغرام بمعزل
ولما نفى عني الكرى خبر التي ... أضاءت بإذن ثم رضوى ويذبل
ولاح سناها من جبال قريظة ... لسكان تيما فاللوى فالعقنقل
وأخبرت عنها في زمانك منذراً ... بيوم عبوس قمطرير مطول
فقلت كلاما لا يدين لقائل ... سواك ولا يسطيعه رب مقول
ستظهر نار بالحجاز مضيئة ... كأعناق عيس نحو بصرى لمخيل
فكانت كما قد قلت بلا مرى ... صدقت وكم كذبت كل معطل
لها شرر كالبرق لكن شهيقها ... فكالرعد عند السامع المتأمل
وأصبح وجه الشمس كالليل كاسفاً ... وبدر الدجى في ظلمة ليس تنجلي
وغابت نجوم الجو قبل غروبها ... وكدرها دور الدخان المسلسل
وهبت سموم كالحميم فأذبلت ... من الباسقات الشم كل مذلل
وأبدت من الآيات كل عجيبة ... وزلزلت الأرضون أي تزلزل
وأيقن كل الناس أن عذابهم ... تعجل في الدنيا بغير تمهل
وأعولت الأطفال مع أمهاتها ... فيا نفس جودي، يا مدامعي أهملي
جزعت فقام الناس حولي وأقبلوا ... يقولون: لا تهلك أسى وتجمل
لعل إله الخلق يرحم ضعفهم ... وما أظهروه من عظيم التذلل
وتاب الورى واستغفروا لذنوبهم ... ولاذوا بمنوال الكريم المبجل
شفعت لهم عند الإله فأصبحوا ... من النار في أمن وبر معجل
أغاثهم الرحمن منك بنفحة ... ألذ وأشهى من جنى ومعسل
طفى النار نور من ضريحك ساطع ... فعادت سلاما لا تضر بمصطلي
وعاش رجاء الناس بعد مماتهم ... فيالك من يوم أغر محجل!

(1/223)


فيا راحلا عن طيبة إن طيبة ... هي الغاية القصوى لكل مؤمل
قفا نبك ذكراها فإن الذي بها ... أجل حبيب وهي أشرف منزل
دخلت إليها محرما وملبيا ... وأضربت عن سقط الدخول فحومل
مواقف أما تربها فهي عنبر ... وأما كلاها فهو نبت القرنفل
يفوح شذاها ثم يعقب نشرها ... لما راوحتها من جنوب وشمأل
فيا خير مبعوث وأكرم شافع ... وأنجح مأمول وأفضل موئل
عليك سلام الله بعد صلاته ... كما شفع المسك العبيق بمندل
وقال بعضهم في ذلك:
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها ... حملا ونحن بها حقا أحقاء
زلازلاً تخشع الصم الصلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شماء
أقام سبعا ترج الأرض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء
بحر من النار تجري فوقه فن ... من الهضاب لها في الأرض إرساء
كأنما فوقه الأجبال طافية ... موج عليه لفرط الهيج وعثاء
ترى لها شررا كالقصر طائشة ... كأنها ديمة تنصب هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت ... رعباً، وترعد مثل السعف أضواء
منها تكاثف في الجو الدخان إلى ... أن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سفعةً في البدر لفحتها ... قليلة التم بعد النور ليلاء
وقال آخر في هذه النار، وغرق بغداد:
سبحان من أصبحت مشيئته ... جارية في الورى بمقدار
أغرق بغداد بالمياه كما ... أحرق أرض الحجاز بالنار
قال أبو شامة: والصواب أن يقال:
في سنة أغرق العراق وقد ... أحرق أرض الحجاز بالنار
وذكر أبن الساعي أن النجاب لما جاء إلى بغداد بخبر هذه النار، قال له الوزير: إلى أي الجهات ترمي شررها؟ قال: إلى جهة الشرق.
قال أبو شامة: وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان من هذه السنة، أحترق المسجد الشريف النبوي، أبتدأ حريقه من زاويته الغربية من الشمال، وكان دخل أحد القومة إلى خزانة ثم، ومعه نار فعلقت في الآلات، واتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبت في السقوف، فأعجلت النار في قطعها، فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقعت بعض أساطينه، وذاب رصاصها [ وكل ذلك قبل أن ينام الناس]، واحترق سقف الحجرة النبوية الشريفة، واحترق المنبر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عليه.
قال أبو شامة: وعد ما وقع من تلك النار وحريق المسجد من الآيات، وكأنها كانت منذرة بما يعقبها في السنة الآتية من الكائنات.
وقال أبو شامة في ذلك:
نار أرض الحجاز مع حرق المسجد مع تغرق دار السلام
بعد ست من المئتين وخمسي ... ن لدى أربع جرى في العام
ثم أخذ التتار بغداد في أو ... ل عام من بعد ذاك وعام
لم يعن أهلها وللكفر أعوا ... ن عليهم يا ضيعة الإسلام!
وانقضت دولة الخلافة منها ... صار مستعصم بغير اعتصام
فحناناً على الحجاز ومصر ... وسلاماً على بلاد الشآم
وفي تاريخ أبن كثير عن الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال أحد الزهاد، قال: كنت بمصر، فبلغني ما وقع ببغداد من القتل الذريع، فأنكرته بقلبي، وقلت: يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له! فرأيت في المنام رجلا وفي يده كتاب فأخذته فإذا فيه:
دع الاعتراض فما الأمر لك ... ولا الحكم في حركات الفلك
ولا تسأل الله عن فعله ... فمن خاض لجة بحر هلك قلت: أجرى الله تعالى عادته إن العامة إذ زاد فسادها وانتهكوا حرمات الله، ولم تقم عليهم الحدود أرسل الله عليهم آية في إثر آية، فإن لم ينجح ذلك فيهم أتاهم بعذاب من عنده، وسلط عليهم من لا يستطيعون له دفاعا؛ وقد وقع في هذه السنين ما يشبه الآيات الواقعة في مقدمات واقعة التتار، وأنا خائف من عقبى ذلك، فاللهم سلم سلم! فأول ما وقع في سنة ثلاث وثمانين حصول قحط عظيم بأرض الحجاز.
وفي سنة خمس وثمانين لم يزد النيل القدر الذي يحصل به الري، ولا ثبت المدة التي يحتاج إلى ثبوته فيها، فأعقب ذلك غلاء الأسعار في كل شيء.

(1/224)


وفي سنة ست وثمانين في سابع عشر المحرم زلزلت مصر زلزلة منكرة لها دوي شديد، وقع بسببها قطعة من المدرسة الصالحية على قاضي الحنفية شمس الدين بن عيد، وكان من خيار عباد الله فقتلته.
وفي ليلة ثالث عشر رمضان من هذه السنة، نزلت صاعقة من السماء على المسجد الشريف النبوي فأحرقته بأسره وما فيه من خزائن وكتب، وأحرقت الحجرة الشريفة والمنبر والسقوف، ولم يبق سوى الجدران، واحترقت فيه جماعة من أهل الفضل والخير؛ وكان أمراً مهولا.
وفي هذه السنة وقع بالغربية برد كبار بحيث قتل كثيرا من الطير؛ وقيل إن وزن البردة سبعون درهما.
وفي سنة سبع وثمانين ورد الخبر بأن صاعقة نزلت بحلب، وبأن الفناء وقع ببغداد وبلاد الشرق عظيما جداً حتى قيل إنه عد ببغداد من تأخر من الرجال؛ فكانوا مائتين واثنين وأربعين نفسا.
وفي ذي الحجة وردت الأخبار بأنه حصل بمكة في يوم الأربعاء رابع عشر ذي القعدة سيل عظيم بحيث دخل البيت الشريف، فكان فيه قامة، وأخرب بيوتا كثيرة، وهدم جملة من أساطين الحرم، ووجد في المسجد من الغرقاء سبعين إنساناً وخارج المسجد خمسمائة نفس، واستمر الماء في المسجد إلى يوم السبت، ولم تصل الجمعة. وكتب القاضي برهان الدين بن ظهيرة إلى مصر كتابا بذلك يقول فيه: إن هذا السيل لم يعهد مثله لا في جاهلية ولا في إسلام، وإنه ذرع موضع وصوله في المسجد؛ فكان سبع أذرع وثلث الذراع؛ وقد قلت في ذلك هذه الأبيات:
في عام ست أتى المدينة في المسجد ناراً فأفنته بالحرق
وعام سبع أتى لمكة في المسجد سيل قد عم بالغرق
وقبلها القحط بالحجاز فشا ... ومصر قد زلزلت من الفرق
وأنهبط النيل غير منتفع ... به وضاقت معايش الفرق
فهذه جملة أتت نذراً ... مستوجبات للخوف والقلق
فليحذر الناس أن يحل بهم ... ما حل بالأولين من حنق
ولما أخذ التتار بغداد، وقتل الخليفة، وجرى ما جرى، أقامت الدنيا بلا خليفة ثلاث سنين ونصف سنة؛ وذلك من يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة ست وخمسين، وهو يوم قتل الخليفة المستعصم رحمه الله إلى أثناء سنة تسع وخمسمائة؛ فلما كان في رجب من هذه السنة قدم أبو القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله وهو عم الخليفة المستعصم وأخو المستنصر، وقد كان معتقلاً ببغداد ثم أطلق، فكان مع جماعة من الأعراب بالعراق، ثم قصد الملك الظاهر حين بلغه ملكه، فقدم عليه الديار المصرية صحبة جماعة من أمراء الأعراب عشرة، منهم الأمير ناصر الدين مهنا وكان دخوله إلى القاهرة في ثاني رجب فخرج السلطان للقائه، ومعه القاضي تاج الدين والوزير والعلماء والأعيان والشهود والمؤذنون فتلقوه، وكان يوماً مشهودا، وخرج اليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم، ودخل من باب النصر بأبهة عظيمة.
فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب، جلس السلطان والخليفة في الإيوان بقلعة الجبل والقاضي والوزير والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نسب الخليفة على القاضي تاج الدين؛ فلما ثبت قام قاضي القضاة قائماً، وأشهد على نفسه بثبوت النسبة الشريفة. ثم كان أول من بايعه شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، ثم السلطان الملك الظاهر، ثم القاضي تاج الدين، ثم الأمراء والدولة، وركب في دست الخلافة بمصر والأمراء بين يديه، والناس حوله، وشق القاهرة، وكان يوما مشهوداً ولقب المستنصر بالله بلقب أخيه، وخطب له على المنابر، وضرب أسمه على السكة، وكتبت بيعته إلى الآفاق، وأنزل بقلعة الجبل هو وحشمه وخدمه، فلما كان يوم الجمعة سابع عشر رجب، ركب في أبهة السواد، وجاء إلى الجامع بالقلعة فصعد المنبر، وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس، ودعا للسلطان، ثم نزل فصلى بالناس، وكان وقتا حسنا ويوما مشهودا.
ثم في يوم الاثنين رابع شعبان ركب الخليفة والسلطان والقاضي والوزراء والأمراء، واهل الحل والعقد إلى خيمة عظيمة قد ضربت ظاهر القاهرة؛ فالبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء وعمامة سوداء، وطوقاً في عنقه من ذهب، وقيداً من ذهب في رجليه. وفوض إليه الأمور في البلاد الإسلامية وما سيفتحه من بلاد الكفر، ولقبه بقسيم أمير المؤمنين؛ وصعد فخر الدين بن لقمان رئيس الكتاب منبرا، فقرأ عليه تقليد السلطان، وهو من إنشائه وصورته:

(1/225)


الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشيد ما وهى من علائه حتى أنسى به ذكر من سلف، وقيض لنصره ملوكا أتفق عليهم من أختلف.
أحمده على نعمته التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقف الشاكر عليها فليس له عنها منصرف. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة توجب من المخاوف أمناً، وتسهل من الأمور ما كان حزناً.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي جبر من الدين وهنا، والذي أظهر من المكارم فنوناً لا فناً، صلى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة بالحسنى، وبعد: فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى سعيه للحمد متقدما، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجداً ومتهما، وما بدت يد المكرمات إلا كان لها زندا ومعصما، ولا استباح بسيفه حمى الوغى إلا أضرم منه نارا وأجرى منه دما.
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله وأعلاه. ذكره الديوان العزيز النبوي الإمامي المستنصري أعز الله سلطانه تنويهاً بشريف قدره، واعترافاً بصنيعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره.
وكيف لا، وقد أقام للدولة العباسية، بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان، وعتب دهرها المسيء لها فأعتب، وأرضى عنها زمنها. وقد كان صال عليها صولة مغضب، فأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حرباً، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعا رحباً.
ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنواً وعطفا، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام بأمر الشريعة والبيعة أمرا لو رامه غيره لأمتنع عليه، ولو تمسك بحبله متمسك لأنقطع به قبل وصوله إليه، ولكن الله أدخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامة حسابه والسعيد من خفف من حسابه. فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة تضمنت لهذا البيت الشريف بجمعه، بعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع؛ ويعترف أنه لولا اهتمامك لأتسع الخرق على الراقع، وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية، والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية، وما يتجدد من الفتوحات غوراً ونجداً، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فردا، ولا جعل منها بلداً من البلاد ولا حصنا من الحصون يستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا في الأدنى.
فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملا، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسئولا لا سائلا، ودع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلا، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها حائلا زائلا؛ فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى؛ فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة. وأبسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل وحث على الإحسان، وكرر ذكره في مواضع القرآن، وكفر به عن المرء ذنوبا كتبت عليها وآثاما، وجعل يوماً واحدا منها كعبادة العابد ستين عاما، وما سلك أحد سبيل العدل إلا واجتنيت ثماره من أفنان، ورجع الأمر به بعد تداعي أركانه وهو مشيد الأركان، وتحصن به من حوادث زمانه؛ والسعيد من تحصن من حوادث الزمان.
وكانت أيامه في الأيام أبهى من الأعياد، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عاطل الأجياد.
وهذه الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نواب وحكام، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام؛ فإذا استعدت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيبا، وأجعل عليه في تصرفاته رقيباً، وأسأل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسؤولا، وبما أجترم مطلوبا. ولا تول منهم إلا من تمون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا.

(1/226)


وأمرهم بالأناة في الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق؛ وألا يعاملوا أحداً على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعايا إخوانا، وأن يوسعوهم برا وإحسانا، وألا يستحلوا حرماتهم إذا أستحل الزمان لهم حرمانا، فالمسلم أخو المسلم ولو كان أميرا عليه وسلطانا. والسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستنوا بسنته في تصرفاته وأواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله؛ ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيئ السنن، وجدد من المظالم التي هي من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالها المحامد، فإن المحامد رخيصة بأغلى ثمن. ومهما جبى منها من الأموال فإنما هي باقية في الدم حاصلة، وأجياد الخزائن وإن أضحت بها خالية؛ فإنما هي على الحقيقة منها عاطلة؛ وهل أشقى ممن أحتقب إثما، وأكتسب بالمساعي الذميمة ذما، وجعل السواد الأعظم له يوم القيامة خصما، وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله، وقد خاب من حمل ظلما! وحقيق بالمقام الشريف المولوي السلطان الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وعزائمه تخفف ثقلا لا طاقة له بحمله؛ فقد أضحى على الإحسان قادرا، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لغيره ممن تقدم من الملوك وإن جاء آخراً.
فأحمد الله على أن وصل إلى جانبك إمام هدى أوجب لك مزية التعظيم، ونبه الخلائق على ما فضل الله به من هذا الفضل العظيم. وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى، وأن يوالى عليها حمد الله؛ فإن الحمد يجب عليها عقلا وشرعا، وقد تبين أنك صرت في الأمور أصلاً وصار غيرك فرعا. ومما يجب أيضا تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً.
وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم.
وقد تقدمت لك في الجهاد يد بيضاء أسرعت في سواد الجهاد، وعرفت منك عزيمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول؛ وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع من الخلافة ما كان عليه في الأيام الأول.
فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان غافيا ولا هاجعا، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعا لا تابعا، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعا سامعا، ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها تبسم لك الثغور، واحتفال يبدل ما دجى من ظلماتها بالنور، وأجعل أمرها على الأمور مقدما، وشيد منها كل ما غادره العدو منهدماً؛ فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وهي على العدو داعية الافتراق والاجتماع، وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاورا، والعدو له متلفتاً ناظرا؛ لا سيما ثغور الديار المصرية، فإن العدو وصل إليها وأتى وراح خاسرا، واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثرا. وكذلك أمر الأسطول الذي تزجى خيله كالأهلة، وركائب سائقه بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني فإن ذاك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكفلت بحمله المياه السائلة. وإذا لحظها جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال: هذه ليال تقلع بالأيام. وقد ساق الله لك من السعادة كل مطلب، وآتاك من أصالة الرأي الذي يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل. وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليها، وألزمك المراشد ولا تحتاج إلى تنبيه عليها. والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه، فإن النعمة تستتم بشكره! ثم ركب السلطان بهذه الأبهة والقيد في رجليه، والطوق في عنقه، والوزير بين يديه، على رأسه التقليد، والأمراء والدولة مشاة سوى القاضي والوزير. فشق القاهرة وقد زينت له، وكان يوما عظيما.

(1/227)


ثم طلب الخليفة من السلطان أن يجهزه إلى بغداد، فرتب له جندا، وأقام له كل ما يحتاج إليه، وعزم عليه ألف ألف دينار. وسار السلطان صحبته إلى دمشق، فدخلاها يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وصليا فيها الجمعة. ثم رجع السلطان إلى مصر وسار الخليفة ومعه ملوك الشرق، ففتح الحديثة ثم هيت، فجاءه عسكر من التتار فتصافوا، فقتل من المسلمين جماعة وعدم الخليفة، فلا يدري: أقتل أم هرب! وذلك في ثالث المحرم سنة ستين. فكانت خلافته دون ستة أشهر.
وكان ممن شهد الوقعة معه وهرب فيمن هرب أبو العباس أحمد بن الأمير أبي علي الحسن القبي بن الأمير علي بن الأمير أبي بكر أمير المؤمنين المسترشد بالله فقصد الرحبة، وجاء إلى عيسى بن مهنا، فكاتب فيه الملك الظاهر فطلبه، فقدم القاهرة ومعه ولده وجماعة، فدخلها في سابع عشري ربيع الآخر فتلقاه السلطان، وأظهر السرور به، وأنزله بقلعة الجبل، وأغدق عليه، واستمر بقية العام بلا مبايعة، والسكة تضرب باسم المستنصر المقتول أول العام.
فلما كان يوم الخميس ثامن المحرم سنة إحدى وستين جلس السلطان مجلسا عاما، وجاء أبو العباس المذكور راكباً إلى الإيوان الكبير، وجلس مع السلطان، وذلك بعد ثبوت نسبه، فقرئ نسبه على الناس، ثم أقبل عليه السلطان وبايعه بإمرة المؤمنين. ثم اقبل هو على السلطان، وقلده الأمور، ثم بايعه الناس على طبقاتهم، ولقب الحاكم بأمر الله؛ وكان يوما مشهودا.
فلما كان من الغد يوم الجمعة خطب الخليفة بالناس، فقال في خطبته: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركناً وظهيراً، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما اسبغ من النعماء، وأستنصره على الأعداء، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء، وأئمة الاقتداء [لاسيما] الأربعة الخلفاء، وعلى العباس عمه، وكاشف غمه، وعلى السادة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعلى بقية الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الناس، اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم علم الجهاد، إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم، ولا سفكن الدماء إلا بارتكاب المآثم، فلو شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والأموال، وقتلوا الرجال والأطفال [وسبوا الصبيان والبنات، وأيتموهم من الآباء والأمهات]، وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وأذاقوا من استبقوا العذاب الأليم؛ فارتفعت الأصوات بالبكاء والعويل، وعلت الضجات من هول ذلك اليوم الطويل؛ فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه! فشمروا ساق الاجتهاد في إحياء فرض الجهاد.
)فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا، وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون(، فلم تبق معذرة في القعود عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين.
وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد، ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود.
فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا، ولا يرد عنكم ما جرى؛ فالحرب سجال والعاقبة للمتقين. والدهر يومان والآخر للمؤمنين؛ جمع الله على التقوى أمركم، وأعز بالإيمان نصركم، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ثم خطب الثانية، ونزل فصلى بالناس، وكتب بيعته إلى الآفاق ليخطب له، وتكتب السكة باسمه.
قال أبو شامة: فخطب له بجامع دمشق وبسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرم.

(1/228)


قال ابن فضل الله: ونقش اسمه على السكة، وضرب بها الدينار والدرهم. قال: ثم خاف الظاهر عاقبة أمره، فاسكنه عنده في القلعة، وعند حريمه وخدمه وغلمانه، موسعاً عليه في النفقات والكساوي، يتردد إليه العلماء والقراء على أكمل ما يكون من أنواع الإكرام، وملاحظة جانب الإجلال والمهابة، ممنوعا من اجتماع أحد من أهل الدولة. ثم أسقط اسمه من سكة النقود، وأبقاه على المنابر.
ثم لاحظه الملك الأشرف خليل بن قلاوون أتم من تلك الملاحظة، ورعى لود نعمة الخلافة فيه حقها، من جميل المحافظة. انتهى.
قال غيره: وقد خطب بالقلعة مرة ثانية يوم الجمعة رابع شوال سنة تسعين بسؤال الملك الأشرف له في ذلك، وذكر في خطبة توليته السلطنة للأشرف. ثم خطب مرة ثالثة بالمنصورية بحضرة السلطان والقضاة، وحض على غزو التتار واستنقاذ بلاد العراق من أيديهم؛ وذلك في ذي القعدة سنة تسعين. ثم خطب مرة رابعة في التاسع والعشرين من ربيع الأول سنة إحدى وتسعين، وحث على الجهاد والتنفير، وصلى بالناس الجمعة، وجهر بالبسملة.
قال الذهبي في العبر: آخر خليفة خطب يوم الجمعة الراضي بالله، ولم يخطب بعده خليفة إلى الحاكم العباسي هذا، فإنه خطب في خلافته. انتهى.
قال ابن فضل الله: ثم لما ملك المنصور لاجين زاد في إكرامه وصرفه في الركوب والنزول، فبرز إلى قصر الكبش، وسكن به. ثم إنه حج في سنة سبع وتسعين، فأعطاه المنصور لاجين سبعمائة ألف درهم، ورجع من الحج، فأقام بمنزله إلى أن مات ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة، ودفن بجوار السيدة نفيسة في قبة بنيت له؛ وهو اول خليفة مات بها من بني العباس. وأرسل نائب السلطنة الأمير سلار خلف كل من في البلد من المراء والقضاة والعلماء والصوفية ومشايخ الزوايا والربط وغيرهم؛ حتى حضروا الصلاة عليه.
وولي الخلافة بعده بعهد منه ولده أبو الربيع سليمان، ولقب المستكفي بالله، وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية وسارت البشارة بذلك إلى جميع الأقطار والممالك الإسلامية.
قال ابن كثير: قدم البريد من القاهرة سادس جمادى الآخرة، فأخبر بوفاة أمير المؤمنين الحاكم ومبايعة المستكفي، وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة.
فخطب يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة للخليفة المستكفي بجامع دمشق، وكتب له تقليد بالخلافة، وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة، ولم يكن السلطان أمضى له عهدا والده؛ حتى سأل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وهو قاضي القضاة يومئذ: هل يصلح للخلافة أم لا؟ فقال الشيخ تقي الدين: نعم يصلح، وإنما احتيج إلى ذلك لأنه كان صغير السن، لم يبلغ عشرين سنة، فإن مولده في أربع وثمانين وستمائة، وكان له أبن أخ أسن منه، فكان ينازعه الأمر، فلما أشار الشيخ باستخلافه، أمضى عهد والده، وهذه صورة العهد: الحمد لله الذي رفع المستكفي به لما انتصب بشريف همته للمحل الأسمى، ومنح الأمة به ربيع خفض العيش، وجزم أمرهم على الصلاح والتوفيق جزماً، وأدام الأئمة من قريش ونظم لآلي حكم أحكامهم في جيد الزمان نظما، وجعل الناس تبعا لهم في هذا الأمر فغيرهم بالخلافة المعظمة لا يدعى ولا يسمى، فالحاكم الحسن المسترشد المستظهر بذخيرة الدين القائم بأمر الله القادر المقتدر المعتضد الموفق المتوكل المعتصم الرشيد المهدي الكامل من اقتفى لسنن سنتهم رسماً، استودع الخلافة في بني العباس الذي كان لنبيه الكريم عما، وفرج عنه ليلة العقبة بمبايعة الأنصار كربة وغما، فبشره بأن الخلافة في عقبه فعمه بالسرور عما. فلما انتهى ذلك السر في العوالم إلى الحاكم قيل وقد أمسكت هيبة الخلافة عن معرفة حقوقها العظيمة من كل عظيم فما )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما(.
أحمده حمد من لم يثن عن طاعته وطاعة رسوله وأولى الأمر عزما، ويورثها من يشاء من خلقه اختيارا ورغما، واشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي دعا إلى مودة أولى القربى ومن أفضل من قرابته زكاة وأقرب رحماً، صلى الله عليه وآله وصحبه وخلفائه وعترته، الذين هم أعدل البرية حكما، وبعد:

(1/229)


فإن الملك السلام منذ أسجد لآدم ملائكته الكرام في سالف الزمان قدماً، جعل طاعة خلفائه في بلاده على سائر عباده حتماً، كيف لا وبهم يعمر الوجود، وتقام الحدود وتهدم أركان الجحود هدماً، فبحياتهم تأمن البلاد وربما صادف قرب وفاتهم أن لبس القمر ليلة التم السواد وأخفى جرما. ولما كان سنة من تقدم من الأئمة الخلفاء إذا خاف أن يهجم عليه الحمام هجماً، أو تهدي إليه الأيام ألماً وسقاً، تفويض الأمر بولاية العهد على الخلق لخير ذويه وبنيه نجدة وحزما، أشهد على نفسه الشريفة مولانا الإمام الحاكم - والحاكم عليه تقواه - المراقب لله في سره ونجواه، الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، أبن عم سيد المسلين، وارث الخلفاء الراشدين، أبو العباس أحمد بن الأمير الحسن بن الأمير أبي بكر بن الأمير علي القبي بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين أبي القاسم عبد الله بن المرحوم الذخيرة للدين ولي عهد المسلمين محمد بن الإمام القائم بأمر الله أبي عبد الله محمد بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين أبي الفضل جعفر المقتدر بالله بن أمير المؤمنين المعتضد بالله أبي العباس بن الأمير محمد الموفق بالله طلحة ولي عهد المسلمين بن أمير المؤمنين جعفر المتوكل بن أمير المؤمنين أبي إسحاق محمد المعتصم بن أمير المؤمنين هارون الرشيد بن أمير المؤمنين محمد المهدي أمير المؤمنين عبد الله المنصور بن محمد الكامل بن علي السجاد بن عبد الله حبر الأمة بن العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، أعز الله به الدين، وأمتع ببقاء نسله الشريف الإسلام والمسلمين؛ وهو في حالة يسوغ معها الشهادة عليه، ويرجع في الأمور المنوطة للخلافة الشريفة إليه: أنه عهد إلى ولده لصلبه الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، شيد الله به أركان الإيمان، ونصر ببركة سلفه العصابة المحمدية على أهل الكفر والطغيان، وجعله ولي عهده، واستخلفه من بعده، لما علمه من أهليته وعدالته وكفالته، وصلاحه لذلك وكفايته، وشخصه لشهود هذا المكتوب الشريف، ونبه على استحقاقه لذلك ومحله العالي المنيف، عهداً صحيحاً شرعياً، معتبراً تاماً مرعياً، وفوض إليه أمر الخلافة المعظمة تفويضاً شرعياً صريحا، وعقد له عقد ولاية العهد على الأمة عقدا صحيحا، وقبل ذلك منه القبول الشرعي المعتبر المرضي، فالله تعالى يجمع به كلمة الإسلام، ويصحبه في خلافته الشريفة رأياً موفقا، ويقمع ببركة سلفه الكرام أهل الطغيان، ويهيئ له من أمره مرفقاً؛ بمنه وكرمه آمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيد المرسلين نبيه وآله وصحبه أجمعين. وبه شهد في اليوم المبارك السابع عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة، أحسن الله العقبى في ختامها، وأجرى الخيرات فيما بقى من شهورها وأيامها، وشهد عليه بذلك أربعة شهود، ورسموا خطوطهم تحت نسخة العهد بما نصه: أشهدني مولانا الإمام جامع كلمة الإيمان، ناظم شمل الإسلام، سيد الخلفاء الأعلام، إمام المسلمين، والمناضل عن شريعة سيد المرسلين - الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، أعز الله به الدين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين، على نفسه الزكية الشريفة، وهو على الحالة التي يسوغ معها تحمل الشهادة عليه بما نسب إليه أعلاه وشخص، إلى مولانا وسيدنا الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين في التاريخ المذكور فيه، وثبت هذا العهد على قاضي القضاة شمس الدين الحنفي.
وكتب صورة الإسجال بما نصه: ثبت إشهاد مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، سليل الأئمة المهديين، بركة الإسلام والمسلمين، المنتظم به عقد جواهر زواهر أحكام الدين، ابن عم سيد المرسلين، أبي العباس بن أحمد الراقي بهمة شرفه أعالي الدرجات، المنقول برحمة الله ومنه وحسن سيرته إلى روضات الجنات، المشار إليه بأعاليه، قرن الله بمن خلّفه خَلْفَه تأييداً وتسديداً وتوفيقا، وقرب له إلى مشاهدة ابن عمه والخلفاء الراشدين في دار كرامته طريقاً، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

(1/230)


وإشهاد ولده لصلبه ولي عهده للخلافة الشريفة المعظمة من بعده مولانا الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، ثبت الله به أركان الإيمان، وسلك به مسالك الخلفاء الراشدين وآبائه الطاهرين التابعين لهم بإحسان، وبارك الأمة المحمدية فيه، ونصرهم ببركة سلفه على أهل الطغيان، على أنفسهما الشريفة المكرمة، الطاهرة الزاكية المعظمة، بجميع ما نسب إليهما في كتاب العهد الشريف المسطر بأعاليه، على ما نص وشرح فيه المؤرخ بالسابع عسر من جمادى الأولى سنة تاريخ هذا الإسجال، ثبوتاً صحيحاً شرعياً، معتبرا تاماً مرعياً، عند سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى الكريم، الحامد فيض فضله العميم، قاضي القضاة، حاكم الحكام، مفتي الأنام، حجة الإسلام، عمدة العلماء الأعلام، شمس الدين، خالصة أمير المؤمنين، أبي العباس أحمد بن الشيخ الصالح الورع الزاهد، برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الغني الحنفي، عامله الله بلطفه الخفي، الناظر في الحكم بالقاهرة ومصر المحروستين، وسائر أعمال الديار المصرية بالتولية الصحيحة الشرعية. أدام الله أيامه الزاهرة، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة؛ وذلك بشهادة الشهود المعلم لهم بالأداء أعلاه، بعد أن أقام كل واحد منهم شهادته بذلك بشروط الأداء المعتبرة، وذلك إنه شهد على مولانا الإمام الحاكم بأمر الله المشار إليه، تغمده الله بالرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان؛ وهو على الحالة التي تسوغ معها الشهادة عليه أحسن الله في آخرته إليه. فقبل ذلك منه، وأعلم له ما جرت به العادة من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود في مثله. وحكم مولانا قاضي القضاة شمس الدين الحاكم المذكور، وقاه الله كل محظور، بذلك كله الحكم الشرعي، المعتبر المرعي، وأجاز ذلك وامضاه، وأختاره وارتضاه، وألزم ما اقتضاه مقتضاه، بسؤال من جازت مسألته، وسوغت في الشريعة المطهرة إجابته، وذلك بعد استيفاء الشرائط الشرعية، والقواعد المحررة المرعية، وتقدم الدعوى المعتبرة المرضية. وتقدم هذا الحاكم وفقه الله لمراضيه، وأعانه على ما هو متوليه، بكتابه هذا الاسجال، فكتب عن إذنه الكريم على هذا المنوال، بعد قراءته وقراءة ما يحتاج إلى قراءته من كتابة العهد الشريف المسطر أعلاه، على شهود هذا الاسجال، وهو وهم يستمعون لذلك في اليوم المبارك من العشر الأخير من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة، أحسن الله تقضيها في خير وعافية.
وبايعه السلطان والقضاة والأعيان، وألبس جبة سوداء وطرحة سوداء، وخلع على أولاد أخيه خلع الأمراء، وأشهد عليه أنه ولى الملك الناصر جميع ما ولاه والده، وفوضه إليه.
ثم نزل إلى داره بالكبش، ونقش اسمه على سكة الدينار والدرهم. ثم رسم السلطان في جمادى الآخرة بأن ينتقل الخليفة وأولاده وجميع من يلوذ به إلى القلعة إكراما لهم. فنزلوا في دارين، وأجرى عليهم الرواتب الكثيرة، واستمر دهراً وهو والسلطان كالأخوين يلعبان بالأكرة، ويخرجان إلى السرحات وسافرا معا إلى غزوة التتار نوبة غازيين، حتى وشى الواشين بينهما، فتغير خاطر الناصر منه، وذلك في سنة ست وثلاثين.
فأمره أن ينتقل من القلعة إلى مناظر الكبش حيث كان أبوه ساكناً، ثم أمره أن يخرج إلى قوص، فيقيم بها وذلك في ثامن عشر ذي الحجة سنة سبع وثلاثين، فخرج إليها هو وأولاده وأهله، وهم قريب من مائة نفس، ورتب له على واصل المكارم أكثر مما كان له بمصر، وتوجع الناس لذلك كثيرا.
قال الحافظ أبن حجر: وكان يطول مدة خطبته له على المنابر؛ حتى في مدة إقامته بقوص، وأستمر بها إلى أن مات في شعبان سنة أربعين وسبعمائة، ودفن بها وقد عهد بالخلافة إلى ابنه أحمد وأشهد عليه أربعين عدلا، وأثبت ذلك على قاضي قوص.
فلما بلغ الناصر ذلك لم يلتفت إلى ذلك العهد، وطلب أبن أخي المستكفي إبراهيم أبن ولي العهد المستمسك بالله أبي بكر عبد الله محمد بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد وكان جده الحاكم عهد إلى ابنه محمد، ولقبه المستمسك بالله، فمات في حياته.

(1/231)


فعهد إلى ابنه إبراهيم هذا ظنا أنه يصلح للخلافة، فرآه غير صالح لما هو فيه من الانهماك في اللعب ومعاشرة الأرذال، فنزل عنه، وعهد إلى ولد صلبه المستكفي، وهو عم إبراهيم؛ وكان إبراهيم قد نازعه لما مات الحاكم، فلم يلتفت إلى منازعته اعتمادا على قول الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فأقام على ضغينته حتى كان هو السبب في الوقيعة بينه وبين عمه وبين الناصر، وجرى ما جرى.
فلم يمض الناصر عهد المستكفي لولده، وبايع إبراهيم هذا في يوم الاثنين ثالث رمضان، ولقب الواثق بالله، وراجع الناس السلطان في أمره، ووسموه بسوء السيرة، خصوصا قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، فإنه جهد كل الجهد في صرف السلطان عنه، فلم يفعل؛ وما زال بهم حتى بايعوه.
ثم إن الله فجع الناصر بموت أعز أولاده الأمير أنوك، فكانت أول عقوباته ولم يمتع بالملك بعد وفاة المستكفي، فأقام بعده سنة وأياما، وأهلكه الله.
وقد قيل: إن وفاة المستكفي كانت سنة إحدى وأربعين، فعلى هذا لم يتم الحول على الناصر، حتى مات بعد ثلاثة أشهر؛ سنة الله فيمن مس أحداً من الخلفاء بسوء، فإن الله يقصمه عاجلا، وما يدخره له في الآخرة من العذاب أشد.
ثم إن الله انتقم من الناصر في أولاده فسلط عليهم الخلع والحبس والتشريد في البلاد والقتل، فجميع من تولى الملك من ذريته؛ إما أن يخلع عاجلا، وإما أن يقتل؛ فأول ولد تولى بعده، عوجل بخلعه ونفيه إلى قوص، حيث كان سير الخليفة، ثم قتل بها. وغالب من تولى من ذريته لم تطل مدته كما سيأتي.
وقد أقام الناصر في قوص نيفاً وأربعين سنة، وتولى من ذريته اثنا عشر نفرا، لم يتموا هذه المدة، بل عجلوا واحدا في إثر واحد، فما أشبههم إلا بملوك الفرس حيث قال الكاهن لكسرى لما سقطت من إيوانه أربع عشرة شرفة ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ يملك منكم أربعة عشر ملكا؛ ثم يذهب الملك منكم، فقال كسرى: إلى أن يمضي أربعة عشر ملكا تكون أمور وأمور! فانقرضوا في أقصر مدة، وكان آخرهم في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم إن الله نزع الملك من ولد قلاوون، وأعطاه بعض مماليكهم، ولم يعد إليهم إلى وقتنا هذا، وبعض ذريته أحياء إلى الآن في أسوأ حال، ديناً ودينا. ومن تأمل بدائع صنع الله رأى العجب العجاب؛ ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وإنما يتذكر أولو الألباب! ولما حضر الناصر الوفاة ندم على ما فعل من مبايعة إبراهيم، فأوصى الأمراء برد العهد إلى ولي عهد المستكفي، فلما تسلطن ولده أبو بكر المنصور عقد مجلسا يوم الخميس حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، وطلب الواثق إبراهيم وولي العهد أحمد أبن المستكفي والقضاة، وقال: من يستحق الخلافة شرعا؟ فقال أبن جماعة: إن الخليفة المستكفي المتوفي بمدينة قوص أوصى بالخلافة من بعده لولده أحمد، وأشهد عليه أربعين عدلا بمدينة قوص، وثبت ذلك عندي بعد ثبوته على نائبي بمدينة قوص.
فخلع السلطان الواثق حينئذ وبايع أحمد، وبايعه القضاة.
قال الحافظ أبن حجر. ولقب أولا بالمستنصر، ثم لقب الحاكم بأمر الله لقب جده وكتب له أبن فضل الله صورة المبايعة؛ وهي هذه: بسم الله الرحمن الرحيم: )إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما(، هذه بيعة رضوان وبيعة إحسان، وبيعة رضا يشهدها الجماعة ويشهد عليها الرحمن. بيعة يلزم طائرها العنق، ويحوم بسائرها وكل أنبائها البراري والبحار مشحونة الطرق، بيعة يصلح الله بها الأمة، ويمنح بسببها النعمة، ويتجارى الرفاق، ويسري الهناء في الآفاق، وتتزاحم زهر الكواكب على حوض المجرة الدقاق. بيعة سعيدة ميمونة، بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعية، بيعة ملحوظة مرعية، تسابق إليها كل نية، وتطاوع كل طوية، ويجمع عليها شتات البرية بيعة يستهل بها العام، ويتهلل البدر التمام، بيعة متفق على الإجماع عليها، والإجماع يبسط الأيدي إليها، انعقد عليها الإجماع فاعتقد صحتها من سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، حصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه وأقر الخصم وأنقطع النزاع. تضمنها كتاب مرقوم يشهده المقربون، وتلقاه الأئمة الأقربون.

(1/232)


)الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله(، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، وإلينا بحمد الله وإلى بني العباس. أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل، من أصحاب الكلام فيما قل وجل وولاة الأمور والحكام، وأرباب المناصب والأحكام، وحملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسروات قريش ووجوه بني هاشم، والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة وعامة الناس، بيعة ترى بالحرمين خيامها، ويخفق بالمأزمين أعلامها، وتتعرف عرفات بركاتها، وتعرف بمنى ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر، ويوم ما بين الركن والمقام والمنبر، ولا يبتغي بها إلا وجه الله الكريم. بيعة لا يحل عقدها، ولا ينبذ عهدها، لازمة جازمة، دائبة دائمة، تامة عامة شاملة كاملة، صحيحة صريحة، متعبة مريحة، ولا من يوصف بعلم ولا قضاء، ولا من يرجع إليه في اتفاق ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا ذو فتوى ينال فيجيب، ولا من حشى المساجد، ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطئ أو يصيب، ولا مجادل بحديث، ولا متكلم في قديم وحديث، ولا معروف بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساع بقدم ولا طائر بجناح، ولا مخالط الناس ولا قاعد في عزلة، ولا جمع تكسير ولا قلة، ولا من يستقل بالجوزاء لواؤه، ولا من يعلو فوق الفرقدين ثواؤه، ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أول ولا آخر، ولا مسر في باطن ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي إبل ولا غنم، ولا صاحب إناة ولا بدار، ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد ولا جدار، ولا ملجلج في البحار الزاخرة والبراري القفار، ولا من يعتلي صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل، ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه أسماء على اختلافها وترفع درجات بعضهم على بعض؛ حتى آمن بهذه البيعة وأمن عليها، وآمن بها ومن الله عليه وهداه إليها، وأقر بها وصدق، وخفض لها بصره خاشعا وأطرق، ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، ورضى بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها، ودخل تحت طاعتها. وعمل بمقتضاها، )وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين(.
وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين كرم الله مثواه، وعوضه عن دار السلام بدار السلام، ونقله مزكى به عن شهادة الإسلام، بشهادة الإسلام حيث آثره بقربه، ومهد لجنبه، وأقدمه على ما قدمه من مرجو عمله وكسبه، وحاز له في جواره فريقا، وأنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

(1/233)


الله أكبر ليومه لولا مخلفة كانت تضيق الأرض بما رحبت، وتجزى كل نفس بما كسبت، وتنبئ كل سريرة ما ادخرت وما خبأت. لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجوانح، لقد اضطرب منبر وسرير لولا خلفه الصالح، لقد اضطرب مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح؛ ولم يكن في النسب العباسي ولا في البيت المسترشدي، ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء وجدود، ولا من تلده أخرى الليالي وهي عاقر غير ولود؛ من تسلم إليه أمة محمد عقد نياتها، وسر طوياتها، إلا واحد وأين ذلك الواحد! هو والله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده [الأخيار]، ولا شيء هو إلا ما اشتمل عليه رداء الليل والنهار؛ وهو ولد المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه، المجمع على أنه في الأيام فرد الأنام، وواحد وهكذا في الوجود الإمام، وأنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفائز لملك ما بين المشارق والمغارب، الرامي في صفيح السماء هذه الذروة المنيفة، الراقي بعد الأئمة الماضين ونعم الخليفة، المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله وهو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي يفضح السحاب نائله، والذي لا يعزه عادله ولا يغيره عاذله، والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه، إلا قال ناصره وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف أنه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته وابن عمه، وتابع عمله الصالح ووارث علمه، سيدنا ومولانا عبد الله، ووليه أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين، أيد الله ببقائه الدين، وطوق سيفه رقاب الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكب بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين، والأئمة المهذبين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، واسكن في القلوب سكينته ووقاره، ومكن له في الجود وجمع له أقطاره.

(1/234)


ولما انتقل إلى الله ذلك السيد ولقي أسلافه، ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة، وخلا العصر من إمام يمسك ما بقى من نهاره، وخليفة يغالب مزيد الليل بأنواره، ووارث نبي بمثله ومثل آبائه استغنى [الوجود] بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي يقتفي على آثاره، ومضى ولم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع، وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف منه معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود؛ فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم ير بائعه وقد مد يده طائعا لمزيدها وقد تكلف، وأجمعوا على رأى واد استخاروا الله فيه فخار، وأخذ يمين تمد لها الأيمان، ويشد بها الإيمان، وتعطي عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق؛ حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط على المصحف الكريم يده وحلف بالله وأتم أيمانه، ولم يقطع ولا استثنى ولا تردد، ومن قطع عن غير قصد أعاد وجدد، وقد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت له هذه البيعة ونية من خلف له، وتذمم بالوفاء له في ذمته وتكفله، على عادة أيمان البيعة وشروطها وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة، بأن يبذل لهذا الإمام المفترض الطاعة الطاعة، ولا يفارق الجمهور ولا يفر عن الجماعة الجماعة، وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول الثقات عمن لم يكتبوا وأذنوا أن يكتب عنهم، حسبما يشهد به بعضهم على بعض، وتتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعة تم بمشيئة الله تمامها، وعم بالصوب المغدق غمامها؛ وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الوافي لمن تضاعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد لله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب إلا أن يقاتل أعداء الله بإمدادها، ويرأب بها من أثر في منابر ممالكه ما بان من مباينة أضدادها؛ نحمده والحمد لله، ثم الحمد لله، كلمة لا يمل من تردادها، ولا تخل بما تفوق السهام من سدادها، ولا تبطل إلا على ما يوجب تكثير أعدادها، وتكبير أقدار أهل ودادها، وتصغير التحقير لا التحبيب لأندادها.
ونشهد أن لا الله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تتقايس بدماء الشهداء وإمداد مدادها، وتتنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها والليالي من دثارها والأعداء من حدادها؛ صلى الله عليه وعلى جماعة أهله، ومن خلف من أبنائها وسلف من أجدادها، ورضى الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

(1/235)


وبعد؛ فإن أمير المؤمنين لما ألبسه الله من ميراث النبوة ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني مالا ينبغي لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير بما تحمله حمائم النطائق من بدائع البيان، وسخر له من البريد على متون الخيل ما سخره من الريح لسليمان، وآتاه من خاتم الأنبياء ما أمتد به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار به ما أطاعه كل مخلوق ولم يتخلف، وجعل له من لباس العباس ما يقضي سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على ظل الهدب ما فضل عن سويداء القلب وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض وكل مكان دار ملك وكل مدينة بغداد، وهو في ليله السجاد، وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفر وهو الجواد؛ يديم الابتهال إلى الله في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه.وتبدأ بعد المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، وصالح الأعمال فيما تتحلى به الأيام، ويقدم التقوى أمامه، ويقرر عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعا على العين يحمله غصباً على الرأس، ويعجل أمير المؤمنين بما استقرت به النفوس، ويرد به كيد الشيطان إنه يئوس، ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غنى عن هذا ولكنه يسوس وأمير المؤمنين يشهد الله وخلقه عليه، أنه أقر ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله، واستمر به في مقيله تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وطرقات الممالك والثغور، براً وبحرا، سهلا وغرا، شرقاً وغربا، بعداً وقرباً، وكل جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، وملك ومملك وأمير، وجندي يرى له سيف شهير، ورمح ظهير، ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب، ومن له تدقيق في إنشاء وتحقيق في حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج، ومن في التدريس والمدارس، والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب، وأصحاب الرواتب، ومن له من الله رزق مقسوم، وحق مجهول أو معلوم، استمراراً لكل امرئ على ما هو عليه، حتى يستخير الله ويتبين له ما بين يديه، فمن أزداد تأهيله زاد تفضليه، وإلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله، ولا يحابى أحداً في دين الله، ولا يحابي حقاً في حق؛ فأن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين، وكل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله مما فهمه الله له، وفهمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه شكراً الله على نعمه، وهكذا يجازي من شكر، ولا يكدر على أحد موردا نزه الله نعمه الصافية عن الكدر، ولا يتأول في ذلك متأول إلا من جحد النعمة أو كفر، ولا يتعلل متعلل؛ فإن أمير المؤمنين يعوذ بالله ويعيذ أيامه إلا من جحد النعمة أو كفر، ولا يتعلل متعلل؛ فغن أمير المؤمنين يعوذ بالله ويعيذ أيامه [الغرر] من الغير، وأمر أمير المؤمنين - أعلى الله أمره - أن يعلن الخطباء بذكره، وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق، وأن تضرب باسمهما النقود وتسير بالإطلاق، ويوشح بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق به وجه الدرهم والدينار.
وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يايتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب، ومختصره أن الله أمر بأوامر ونهى عن نواه وهو ريقب، وسيفرغ لها الأولياء السجايا، ويفرع الخطباء لها شعوب الوصايا، وتتصل بها المزايا، وتخرج من المشايخ الخبايا من الزوايا، ويسمر بها السمار ويترنم بها الحادي والملاح، ويرق شجوها في الليل المقمر ويرقم على جبين الصباح، وتعظ بها مكة بطحاءها، ويحيا بحدائها فناه، ويلقنها كل أب فهمه ابنه ويسأل كل ابن نجيب أباه: وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين من سدد عليكم سنة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة. ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة. ولولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر ودحى الأرض وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه:
ولم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها

(1/236)


وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح لكم من أبواب الأرزاق وأسباب الارتزاق، وآجركم على وفاقكم وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم، ولم يمسك خشية الإنفاق، ولم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بما يسعد به من يجئ - أطال الله بقاء أمير المؤمنين - من بعده، ويزيد على ما تقدم، ومقيم فروض الحج والجهاد، ويقيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد.
وأمير المؤمنين يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام، ويشمل بره سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام، ويجهز السبيل على حالته، ويرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام، ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاخر ويرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام، ويقيم بعدله قبور الأنبياء صلى الله عليه وسلم أينما كانوا وأكثرهم في الشام.
والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سنتها وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن تضم إليه، وفيما يتسلم من بلاد الكفر ويسلم منهم على يديه.
وأما الجهاد فكفى باجتهاد القائم عن أمير المؤمنين بمأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره. وأمير المؤمنين قد وكل منه - خلد الله ملكه وسلطانه - عيناً لا تنام، وقلد سيفا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام؛ وسيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب العدا.
وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول براً وبحراً. ولا يكف عمن ظفر به منهم قتالا ولا أسراً، ولا يفك أغلالا ولا إصراراً، ولا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقباناً وفي البحر غرباناً، تحمل كل منهما من كل فارس صقرا، ويحمي الممالك مما يخترق أطرافها بإقدام، ويتحول أكنافها بإقدام، وينظر في مصالح القلاع والحصون والثغور، وما يحتاج إليه من آلات وأمهات الممالك التي هي مرابط البنود، ومرابض الأسود، والأمراء والعساكر والجنود، وترتيبهم في الميمنة والميسرة والجناح الممدود، ويتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد موضون، وبيض مسها ذائب ذهب فكانت كأنها بيض مكنون، وسيوف قواضب، ورماح بسبب دوامها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسى وتفارقها، فتحن حنين مفارق وتزمجر القوس زمجرة مغاضب.
وهذه جملة أراد بها أمير المؤمنين إطابة قلوبكم، وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر، ويزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفي منكم ويظهر. وأما جزيئات الأمور فقد علمتم بأن من بعد عن أمير المؤمنين عني عن مثل هذه الذكرى، وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين، وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين، وله عليكم أداء النصيحة، وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة؛ فقد دخل كل منهم في كنف أمير المؤمنين وتحت رقه، ولزمه حكم بيعته وألزم طائره في عنقه؛ وسيعلم كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليما، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما.
هذا هو قول أمير المؤمنين؛ وقال وهو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال، وعلى هذا عهد غليه وبه يعهد، وما سوى ذلك فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد؛ وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ به من الإهمال، ويسأله أن يمده لما يحب من الآمال، ولا يمد له حبل الإهمال.
ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، والحمد لله وهو من الخلق أحمد، وقد آتاه الله ملك سليمان، والله يمتع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملكه أقطار الأرض ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، فلا يزال على سدة العلياء قعوده، ولد ست الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره ولا أورى مهديه ولا رشيده.
ومن قصيدة ابن فضل الله التي سماها حسن الوفاء بمشاهير الخلفاء:
وطار منهم نحو مصر قشعم ... قد جاءها كما يجيء الطائر
قال أخي مستنصر ووالدي ... والده وهو الغمام الظاهر
فلقبوه مثله مستنصرا ... ذاك أن جد هذا الناصر
وكان منه الظاهر السلطان ذا ... خوف ومن باسائه يحاذر
فبايعوه الحاكم بعد أن أتى ... وفر فالتفت به العشائر
وهو أبو العباس احمد الرضا ... من ولد الراشد نجم زاهر

(1/237)


وقام مستكف كفاه ربه ... جميع ما يخاف ناه آمر
وبعده الواثق إبراهيم لا ... عاد ولا دارت له الدوائر
والحاكم الآن إمام عصرنا ... بشرى لنا إنا له نناصر
في يوم الاثنين ثاني محرم سنة اثنتين وأربعين الدرجة العلياء، وعليه خلعة خضراء، وفوق عمامته طرحه سوداء مرقومة بالذهب، وجلس السلطان دونه، فقام الخليفة وخطب خطبة افتتحها بقوله: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وبقوله: )وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون( ثم أوصى الأمراء بالرفق بالرعية وإقامة الحق، وتعظيم شعائر الإسلام ونصرة الدين، ثم قال: فوضت إليك جميع أحكام المسلمين، وقلدتك جميع ما تقلدته من أمور الدين )فمن نكث فإنما ينكث على نفسه( وقرأ الآية، وجلس. ثم جيء بخلعة سوداء ألبسها الخليفة السلطان بيده، ثم قلده سيفا عربياً، ثم أخذ علاء الدين بن فضل لله كاتب السر في قراءة عهد الخليفة للسلطان، حتى فرغ منه، ثم قدمه إلى الخليفة، فكتب عليه ثم كتب بعده القضاة الأربعة بالشهادة عليه، واستمر الخليفة في منصبه الشريف إلى أن مات بالطاعون شهيدا في منتصف سنة ثلاث وخمسين، ولم يعهد بالخلافة لأحد.
فجمع الأمراء شيخو ورفقته القضاة، وطلب جماعة من بني العباس، فوقع الاختيار على أخيه أبي بكر المستكفي، فبايعوه ولقب المعتضد بالله، وكنى أبا الفتح، وضم إليه نظر المشهد النفيسي، فأقام إلى أن مات ليلة الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين.
قال بدر الدين بن حبيب في ترجمته: أمير المؤمنين، وقائد المذعنين، وغمام الأئمة، وقدوة المتكلمين في براءة الذمة، علت أركانه، وبسقت أغصانه، وتجملت به ديار مصره، وصغت إلى رأيه ملوك عصره، راس وساد، ومنح وأفاد، ورفل في حلل النعيم، وهدى إلى سلوك الطريق المستقيم، واعتضد بالله في أموره، ولم يختف عن الناس بحجبه ولا ستوره، واستمر سائراً في منهاج عزه وبقائه، إلى أن لحق بعد عشرة أعوام بالخلفاء الكرام من آبائه.
وعهد بالخلافة لولده أبي عبد الله محمد، فقام بعده ولقب المتوكل على الله؛ هذه صورة العهد: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي ميز أبناء الخلفاء برتب العدالة، وألبس من نشأ منهم على ستر العفاف خلعها المذالة، ورفع قدره على أقرانه حين سلك سبل الرشاد التي أوضحها له.
أحمده على نعمه التي هي على عبده منها له، وأشكره شكراً أستزيد به نعمه وإفضاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة امرئ أخلص بها نيته ومقاله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المخصوص بعموم الرسالة، والمبعوث بأوضح حجة ودلالة، والصادق الأمين الذي أخلص لله أقواله وأفعاله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولى الصدر والأصالة، والمفاخر الباهرة والجلالة، وسلم تسليما كثيرا. ورضى الله عن أول الخلفاء بعد نبينا محمد المصطفى الذي صحبه بوفاء شيخ الوقار، ومعدن الجود والافتخار، وأنيس سيد المرسلين في الغار، ذي الكرم العريق، والرأي الوثيق، والإخلاص والتصديق. السابق للنبوة والرسالة بالتصديق، المكنى بعتيق؛ هو الإمام أبو بكر الصديق. وعن عمي نبيه حمزة والعباس، المطهرين من الدنس والأرجاس.

(1/238)


وبعد، فالخلافة أشرف ملابس أهل الديانة، وأزهى حلل الصيانة، وهي أصل كل سيادة يتوصل إليها، ورياسة جل الاعتماد عليها؛ إذ هي أجل المناصب وأنماها، وأشرفها وأربعها وأسناها، وانفسها وأعلاها وأغلاها، ومن لوازمها ألا يؤتي تقليدها إلا من اتصف بصفاتها المرضية، وتحلى بحلالها المرعية، ورقى بجميل سيرته إلى مراتبها العلية. ولما كان من يأتي اسمه في هذا المكتوب ممن هو حقيق بها لا محالة، وجدير بأن يبلغه حسن الظن منها آماله؛ إذ كان متصفا بصفاتها الحميدة، متقيداً بآرائها السديدة؛ وقد لاحت عليه أثار الخلافة وظهرت، وذاعت محامده واشتهرت، وقامت الأدلة بأهليته لتقليدها، وأنه كفء لتناول طريفها وتليدها؛ استخار الله سيدنا ومولانا الغمام المعتضد بالله، المستمسك بتقواه، المراقب له في سره ونجواه، أمير المؤمنين، خليفة رب العالمين، ابن عم سيد المرسلين أبو الفتح أبو زكريا بن سيدنا ومولانا المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أمير المؤمنين، أعز الله به الدين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين، واشهد على نفسه الكريمة، أسبغ الله عليه نعمه العميمة، إنه عهد إلى ولده لصلبه الإمام المتوكل على الله ابي عبد الله محمد نصر الله به الإسلام وأيده، ونفع به نفعا مستمرا مؤبده وجعله ولي عهده، ورضيه خليفة على الرعية من بعده؛ لما علم من ديانته وعدالته وكفالته وكفايته ومروءته وحسن قصده، عهدا صحيحا شرعياً، تاماً معتبرا مرضيا، وفوض إليه أمر الخلافة تفويضاً صريحا، وعقد له ولاية العهد على الرعية عقداً صحيحاً وقبل ذلك قبولا شرعياً، جعله الله لشريعة نبيه محمد ناصراً مؤيداً، وجمع به كلمة الإسلام.
وصدر الإشهاد بذلك في اليوم المبارك يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
فاستمر إلى أن قتل الأشرف شعبان وأقيم ولد المنصور علي، وكان أينبك البدري مدبر دولته، وقد حقد على المتوكل أموراً، فطلب نجم الدين زكريا بن إبراهيم بن ولي العهد المستمسك بن الخليفة يوم الاثنين رابع ربيع الأول سنة تسع وسبعين، فخلع عليه، واستقر خليفة بغير مبايعة ولا إجماع، ولقب المعتصم بالله. ثم في العشرين من الشهر كلم الأمراء أينبك فيما فعله مع المتوكل، ورغبوه في إعادته إلى الخلافة، فأعاده وخلع زكريا، فكانت خلافته خمسة عشر يوما. ثم لم يتم الشهر على أينبك حتى اتفق العساكر على خلافه والخروج عليه، فهرب ثم ظفر به في تاسع ربيع الآخر، فقيد وسجن بالإسكندرية وكان آخر العهد به.
وقال فيه الأديب شهاب الدين بن العطار:
من بعد عز أذل أينبكا ... وانحط بعد السمو من فتكا
وراح يبكي الدماء منفرداً ... والناس لا يعرفون أين بكر
واستمر المتوكل في الخلافة إلى رجب سنة خمس وثمانين. فبلغ الظاهر برقوقاً أنه واطأ جماعة أن يقتلوه إذا لعب الأكرة، ويقوموا بنصرة الخليفة واستبداده بالأمر، وإن الخليفة ذكر أنه ما فوض إليه السلطنة إلا كرهاً، وأنه لم يسر في ملكه بالعدل. فاستدعى برقوق بالقضاة ليفتوه في الخليفة بشيء فامتنعوا، وقاموا عنه، فخلع هو الخليفة بقوته وسجنه بالقلعة. ثم طلب عمر ابن إبراهيم بن المستمسك بن الحاكم، وبايعه بالخلافة ولقب الواثق بالله. ثم يف ذي القعدة من السنة، أخرج المتوكل من السجن، وأقام بداره مكرماً، واستمر الواثق في الخلافة إلى أن مات يوم الأربعاء تاسع عشري شوال سنة ثمان وثمانين.
فكلم الناس برقوقاً في إعادة المتوكل، فأبى وأحضر أخا عمر زكريا الذي كان أينبك ولاه تلك الأيام البسيرة، فبايعه ولقب المعتصم بالله، فاستمر إلى يوم الخميس ثاني جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين. فندم برقوق على ما صنع بالمتوكل، فخلع زكريا وأعاد المتوكل إلى الخلافة، وحلف القضاة كلا من الخليفة والسلطان للآخر على الموالاة والمناصحة. وأقام زكريا بداره إلى أن مات مخلوعا في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة. وقرئ تقليد المتوكل بالمشهد النفيسي في ثامن عشر الشهر بحضرة القضاة والأمراء، وقرر له السلطان داراً بالقلعة يسكنها، ويركب إلى داره بالمدينة متى شاء.
واستمر المتوكل في خلافته هذه إلى أن مات ليلة الثلاثاء ثامن عشري رجب سنة ثمان وثمانمائة.

(1/239)


قال المقريزي: وهو أول من أثرى من خلفاء مصر، وكثر ماله، ورزق أولادا كثيرة، يقال إنه جاء له مائة ولد، ما بين مولود وسقط، ومات عن عدة أولاد ذكور وإناث، ولي الخلافة منهم خمسة، ولا نظير لذلك؛ وأكثر اخوته ولوا الخلافة فيما تقدم، أربعة. واتفق للمتوكل هذا أنه عاد إلى الخلافة بعد خلعه مرتين، ولم يقع ذلك لأحد فيما تقدم إلا للمقتدر فقط.
ورأيت في تاريخ عالم حلب المحب أبي الوليد بن الشحنة أنه في سنة سبع وتسعين وسبعمائة، أرسل أبو يزيد بن عثمان إلى الخليفة المتوكل بهدايا وتحف في طلب تشريف منه بأن يكون سلطان الروم؛ فجهز له ذلك.وذكر الحافظ ابن حجر في أبناء الغمر، أن مولد المتوكل هذا في سنة نيف وأربعين وسبعمائة، وأنه لما تسلطن برقوق المرة الأولى حسن له جماعة من أهل الدولة وغيرهم طلب الملك؛ فكاتب الأمراء والعربان مصرا وشاما وعراقا، وبث الدعاة في الآفاق. فبلغ ذلك برقوقاً، فخلعه وسجنه، فخرج يبلغا الناصري على برقوق بسبب ذلك، فأفرج عنه برقوق، وأعاده إلى الخلافة، وفرح الناس به فرحاً كثيرا.
فلما انتصر الناصري، وزالت دولة برقوق قال الناصري للخليفة بمحضر من الأمراء: يا مولانا أمير المؤمنين، ما ضربت بسيفي هذا إلا في نصرتك؛ وبالغ في تعظيمه وتبجيله، فتبرم المتوكل من الدخول في الملك، وأشار بإعادة حاجي بن شعبان.
وكان المتوكل عهد الخلافة لولده أحمد، ولقبه المعتمد على الله، ثم خلعه وعهد إلى ابنه أبي الفضل العباسي؛ فاستقر في الخلافة بعده، ولقب المستعين بالله، فأقام إلى أن خرج شيخ علي ناصر فرج، وذلك في المحرم سنة خمس عشرة وثمانمائة، فاشهد على الخليفة بخلع الناصر من الملك، لما ثبت عليه من الكفريات والانحلال والزندقة، وحكم ناصر الدين بن العديم بسفك دمه.
واتفق رأي الأمراء على سلطنة الخليفة واستقلاله بالأمر، فلم يوافقهم الخليفة إلا بعد شدة وتوثق منهم بالإيمان، فبايعه الأمراء كلهم، وحلفوا له على الوفاء، ولم يغير لقبه، وجلس على كرسي الملك، وقام الكل بين يديه؛ وذلك بالشام، وقرر بكتمر جلق في نيابة الشام وقرقماس في نيابة حلب وسودون الجلب في نيابة طرابلس، وشيخ ونوروز في ركابه، يدبران الأمر، ونادى منادي الخليفة: ألا إن فرج بن برقوق قد خلع من السلطنة، ومن حضر إلى أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين فهو آمن. فتسلل الناس من الناصر. وكتب المستعين إلى القاهرة باجتماع الكلمة له. وعزل الجلال البلقيني عن قضاة الشافعية، وولى بدله شهاب الدين الباعوني، فحقدها عليه البلقيني، حتى فعل معه بعد ذلك ما فعل.
ثم أرسل المستعين كتاباً ثانياً إلى من بالقاهرة من الأعيان، فأرسل إلى الجامع الطولوني، فقرأه خطيبه ابن النقاش على المنبر، ثم أرسل إلى الجامع الأزهر، فقراه خطيبه الحافظ ابن حجر على المنبر، ثم فر الناصر إلى حلب، فقام ناس على الأسواق، فنادوا: نصر الله أمير المؤمنين، فلما سمع الرماة ذلك تخوفوا على أنفسهم ولم يغيثوه، ثم قبض على الناصر وقتل بحكم ابن العديم.
ثم إن المستعين صرف بكتمر جلق عن نيابة الشام وقرر فيها نوروز، وقرر بكتمر أميرا كبيرا بالقاهرة، وصدرت الكتب من المستعين إلى أمراء التركمان والعربان والعشير. ومفتتحها: من عبد الله ووليه الإمام المستعين بالله أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين وابن عم سيد المرسلين المفترضة طاعته على الخلق أجمعين، أعز الله ببقائه الدين، إلى فلان. ثم توجه هو والعسكر إلى القاهرة، فدخلوا في يوم الثلاثاء ثاني ربيع الآخر بعد أن تلقاهم الناس إلى قطيا وإلى الصالحية وإلى بلبيس، وحصل للناس من الفرح بذلك مالا مزيد عليه، ونادى في الناس برفع المظالم والمكوس.
وعمل الحافظ أبو الفضل بن حجر في المستعين قصيدته المشهورة وهي:
الملك أصبح ثابت الآساس ... بالمستعين العادل العباسي
رجعت مكانة آل عم المصطفى ... لمحاها من بعد طول تناس
ثاني ربيع الآخر الميمون في ... يوم الثلاثا حف بالأعراس
بقدوم مهدي الأنام أمينهم ... مأمون غيب طاهر الأنفاس
ذو البيت طاف به الرجاء فهل يرى ... من قاصد متردد في اليأس
فرع نما من هاشم في روضة ... زاكي المنابت طيب الأغراس
بالمرتضى والمجتبى، والمشتري ... للحمد للحالي به والكاسي

(1/240)


من أسرة أسروا الخطوب وطهرو ... مما يغيرهم من الأدناس
أسد إذا حضروا الوغى وإذا خلوا ... كانوا بمجلسهم ظباء كناس
مثل الكواكب نورهم ما بينهم ... كالبدر اشرق في دجى الأغلاس
وبكفه عند العلامة آية ... قلم يضيء إضاءة المقباس
فلبشره للوافدين مباسم ... تدعى وللإجلال بالعباسي
فالحمد لله المعز لدينه ... من بعد ما قد كان في إبلاس
بالسادة الأبرار أركان العلا ... من بين مدرك ثأره ومواس
نهضوا بأعباء المناقب وارتقوا ... في منصب العليا الأشم الراسي
تركوا العدى صرعى بمعترك الردى ... فالله يحرسهم من الوسواس
وإمامهم بجلاله متقدم ... تقديم " بسم الله " في القرطاس
لولا نظام الملك في تدبيره ... لم يستقم في الملك حال الناس
شطركم من أمير قبله خطب العلا ... وبجهده رجعته بالإفلاس
حتى إذا جاء المعالي كفؤها ... خضعت له من بعد فرط شماس
طاعت له أيدي الملوك وأذعنت ... من نيل مصر أصابع المقياس
فهو الذي قد رد عنا البؤس في ... دهر به لولاه كل البأس
وأزال ظلماً عم كل معمم ... من سائر الأنواع والأجناس
بالخاذل المدعو ضد فعال ... بالناصر المتناقض الآساس
كم نعمة لله كانت عنده ... فكأنها في غربة وتناس
ما زال سر الشر بين ضلوعه ... كالنار أو صحبته للأرماس
كم سن سيئة عليه أثامها ... حتى القيامة ماله من آس
مكراً بنى اركانه، لكنها ... للغدر قد بنيت بغير أساس
كل امرئ ينسى ويذكر تارة ... لكنه للشر ليس بناس
أملي له رب الورى حتى إذا ... أخذوه لم يفلته مر الكأس
وأدالنا منه المليك بمالك ... أيامه صدرت بغير قياس
فاستبشرت أم القرى والأرض من ... شرق وغرب كالعذيب وفاس
آيات مجد لا يحاول جحدها ... في الناس غير الجاهل الخناس
ومناقب العباس لم تجمع سوى ... لحفيده ملك الورى العباس
لا تنكروا للمستعين رياسة ... في الملك من بعد الجحود الناسي
فبنو أمية قد أتى من بعدهم ... في سالف الدنيا بنو العباس
وأتى أشج بني أمية ناشراً ... للعدل من بعد المبير الخاسي
مولاي عبدك قد أتى لك راجياً ... منك القبول فلا ترى من باس
لولا المهابة طولت أمداحه ... لكنها جاءته بالقسطاس
فأدام رب الناس عزك دائما ... بالحق محروسا برب الناس
وبقيت تستمع المديح لخادم ... لولاك كان من الهموم يقاسي
عبد صفا ودا وزمزم حادياً ... وسعى على العينين قبل الرأس
أمداحه في آل بيت محمد ... بين الورى مسكية الأنفاس
ولما دخل الخليفة القاهرة شقها والأمراء بين يديه، فاستمر إلى القلعة، فنزل بها ونزل شيخ الإصطبل بباب السلسلة.
ثم في ثامن ربيع الآخر صعد شيخ والأمراء إلى القصر، وجلس الخليفة على تخت الملك، فخلع على شيخ خلعة عظيمة بطراز لم يعهد مثلها، وفوض إليه أمر المملكة بالديار المصرية في جميع الأمور، وكتب له ان يولي ويعزل من غير مراجعة، وأشهد عليه بذلك؛ ولقب نظام الملك؛ فكانت الأمراء إذا فرغوا من الخدمة بالقصر، نزلوا في خدمة شيخ إلى الإصطبل؛ فأعيدت الخدمة عنده، ويقع عنده الإبرام والنقص، ثم يتوجه دواداره إلى المستعين، فيعلم على المناشير والتواقيع. ثم إنه تقدم إليه بالا يمكن الخليفة من كتابة العلامة إلا بعد عرضها عليه، فاستوحش الخليفة عليه، وضاق صدره، وكثر قلقله. فلما كان في شعبان سأل شيخ الخليفة ان يفوض إليه السلطنة على العادة، فأجاب بشرط أن ينزل من القلعة إلى بيته، فلم يوافقه شيخ على النزول، بل استنظره أياما.

(1/241)


ثم إنه نقل المستعين من القصر إلى دار من دور القلعة، ومعه أهله، ووكل به من يمنعه الاجتماع بالناس، فبلغ ذلك نوروز، فجمع القضاة والعلماء في سابع ذي القعدة، واستفتاهم عما صنعه سيخ بالخليفة، فأفتوه بعدم جواز ذلك؛ فأجمع على قتال شيخ، واستمر المستعين في القلعة إلى ذي الحجة سنة ست عشرة، وهو باق على الخلافة، فلما عزم شيخ إلى الشام خشي من عائلته، وأراد خلعه فراجع البلقيني في ذلك. وكان في نفسه من المستعين شي لكونه عزله، فرتب له دعوى شرعية، وحكم بخلعه من الخلافة، وبايع بالخلافة أخاه أبا الفتح داود، ولقب المعتضد بالله، وسير المستعين إلى الإسكندرية، فأقام بها إلى أن مات شهيدا بالطاعون، في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين.
واستقرت الخلافة باسم المعتضد، وكان من سروات الخلفاء، نبيلاً ذكيا فاضلا، يجالسه العلماء والفضلاء، ويستفيد منهم ويشاركهم فيما هم فيه، جواداً سمحاً، وطالت مدته في الخلافة نحو ثلاثين سنة، فلما حضرته الوفاة عهد بالخلافة إلى شقيقه أبي الربيع سليمان، ولقب المستكفي بالله؛ وكان والدي خصيصا به، فكتب له العهد بيده وهذه صورته: بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا ما أشهد على نفسه الشريفة حرسها الله وحماها، وصانها من الأكدار ورعاها، سيدنا ومولانا ذو المواقف الشريفة الطاهرة الزكية الأمامية الأعظمية العباسية النبوية المعتضدية، أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين، ووارث الخلفاء الراشدين، المعتضد بالله تعالى أبو الفتح داود، اعز الله به الدين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين؛ أنه عهد إلى شقيقه المقر العالي المولدي الأصليلي العريقي الحسيبي النسيبي السليلي سيدي أبي ربيع سليمان المستكفي بالله، عظم الله شأنه، بالخلافة المعظمة، وجعله خليفة بعده، ونصبه إماما على المسلمين، عهداً شرعياً، معتبراً مرضياً، نصيحة للمسلمين، ووفاء بما يجي عليه من مراعاة مصالح الموحدين، واقتداء بسنة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين.
وذلك لما علم من دينه وخيره، وعدالته وكفالته وأهليته، واستحقاقه بحكم أنه اختبر حاله، وعلم طوينه، وأنه الذي يدين الله به أتقى لله ممن رآه، وانه لا يعلم صدر منه ما ينافي استحقاقه لذلك، وإنه إن ترك الأمر هملا من غير تفويض للمشار إليه أدخل إذ ذاك المشقة على أهل الحل والعقد في اختيار من ينصبونه للإمامة، ويرتضونه لهذا الشأن، فبادر إلى هذا الشان، شفقة عليهم، وقصداً لبراءة ذمتهم ووصول الأمر إلى من هو أهله، لعلمه أن العهد كان غير محوج إلى رضا سائر أهله، ووجب على من سمعه وتحمل ذلك منه ان يعلم به، ويأمر بطاعته عند الحاجة إليه، ويدعو الناس إلى الانقياد له، فسجل ذلك على من حضره حسب إذنه الشريف، وسطر عن أمره قبل ذلك سيدي المستكفي أبو الربيع سليمان، المسمى فيه، عظم الله شانه قبولاً شرعياً.
ومات المعتضد يوم الأحد رابع ربيع الأول سنة خمس وأربعين واستقر المستكفي،وكان من صلحاء الخلفاء وعبادهم، صالحاً ديناً عابداً، كثير التعبد والصلاة والتلاوة، كثير الصمت، حسن السيرة. وكان الظاهر جقمق يعتقده، ويعرف له حقه، فأقام إلى أن مات ليلة الجمعة، سلخ ذي الحجة سنة أربع وخمسين، ولم يعهد بالخلافة لأحد.
وكان والدي خصيصا به جدا، فلم يعش بعده إلا أربعين يوما، ومشى السلطان في جنازة المستكفي إلى تربته، وحمل نعشه بنفسه.

(1/242)


وبايع بعده بالخلافة أخاه أبا البقاء حمزة، ولقب القائم بأمر الله، وكان سهماً صارما، أقام أبهة الخلافة قليلا، ثم إن الجند خرجوا على الأشرف إينال، فقام معهم، وحدثته نفسه بطلب الملك، فانهزم الجند، فلم يحصل من يدهم شيء. فغضب عليه الأشرف، وطلبه إلى القلعة، وعاتبه في ذلك؛ فحكى أن الخليفة قال: خلعت نفسي وعزلتك، وكان غلطة منه؛ فقال شيخنا قاضي القضاة علم الدين البلقيني - وكان حريصاً على جر الخلافة إلى أخي الخليفة يوسف، لكونه زوج ابنته؛ فقال: قد بدأ بخلع نفسه فانخلع، وثنى بخلع السلطان وهو غير خليفة؛ فلم ينفذ عزله، وحكم بصحة خلعه؛ وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، وبايع أخاه أبا المحاسن يوسف ولقب المستنجد بالله، وسير القائم إلى الإسكندرية إلى أن مات بها سنة ثلاث وستين ودفن عند شقيقة المستعين. ومن الاتفاق الغريب أنهما شقيقان، كل منهما رام السلطنة، وكل منهما خلع، وسكن الإسكندرية، ودفنا معا؛ وحكم بخلعهما قاضيان أخوان؛ ذلك خلعه الجلال البلقيني؛ وهذا أخوه العلم البلقيني.
واستمر المستنجد في الخلافة ساكنا بمنزل اخوته، إلى أن توفى الظاهر خشقدم، فدعاه إلى أن يسكن عنده في القلعة، واستمر ساكنا بها إلى أن مات يوم السبت رابع عشري المحرم سنة أربع وثمانين وثمانمائة.
وعهد بالخلافة إلى ابن أخيه سيدي عبد العزيز أبي العز يعقوب بن المتوكل على الله فلما كان يوم الاثنين سادس عشري المحرم طلع إلى القلعة، وحضر القضاة والأعيان، فأمضوا عهد عمه، ولبس تشريف الخلافة، ونزل إلى داره، والقضاة والأعيان بين يديه، وكان يوما مشهودا، وكان أراد أن يتلقب بالمستعز بالله، ثم وقع التردد بينه وبين المستعين أو المتوكل، واستقر الحال على أن لقب: " المتوكل على الله " ، وهو الآن عين بني العباس وشامتهم؛ لم يزل مشارا إليه، محبوباً في صدور الناس، وله اشتغال على والدي وغيره من المشايخ، وأجاز له باستدعائي جماعة من المسندين، وقد خرجت لهم عنه جزءاً حدث به. وألفت برسمه كتاب " الأساس في فضل بني العباس " ، وكتاب " رفع إلباس عن بني العباس " . أبقاه الله بقاء جميلا، وأدامه على رباع المسلمين ظلا ظليلاً! وتعفف عن أخذ ما يتحصل من مشهد السيدة نفيسة من النذور من شمع وزيت وغيرهما، وصرفه إلى مصالح المكان من عمارة وغيرها، وكان الخلفاء قبله يأخذون لأنفسهم غالبه، والباقي يفرقونه على من شاءوا من إلزامهم، فرفع ذلك من أصله.
فصل
قال بان فضل الله في المسالك: إن قاعدة الخلافة أول ما كانت المدينة شرفها الله مدة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما انتهت الخلافة إلى علي انتقل من المدينة إلى الكوفة، واتخذها قاعدة خلافته، وربما استوطن البصرة. وجاء ابنه الحسن والكوفة قاعدة خلافته على ما كان عليه أبوه، فلما ولي معاوية انتقلت قاعدة الخلافة إلى دمشق، واستقرت قاعدة لبني أمية؛ وإن كان هشام قد سكن الرصافة، وعمر بن عبد العزيز خناصرة، فأنهما لم يكونا قاعدتي خلافه، لأنهما سكناهما غير مفارقين لدمشق، بل هي القاعدة والمعتمدة بأنها مستقر الخلافة، ولم تزل كذلك إلى آخر الدولة الأموية. فلما ملك السفاح سكن الأنبار، فلما ولي المنصور بني الهاشمية وسكنها، ثم بغداد، فصارت قاعدة الخلافة له ولبنيه إلى المعتصم؛ فبنى سر من راى، فانتقلت قاعدة الخلافة إليها. ثم بنى ابنه هارون الواثق إلى جانبها الهارونية، فانتقلت قاعدة الخلافة إليها. ثم بنى أخوه جعفر المتوكل إلى جانبها الجعفرية، فانتقلت قاعدة الخلافة إليها، ثم عادت قاعدة الخلافة إلى بغداد في زمن المعتمد إلى المستعصم الذي قتلته التتار، فانتقلت قاعدة الخلافة إلى مصر.
قال: فأنظر كيف تنقلت قواعد الخلافة من بلد إلى بلد بتنقل الزمان، وقد كانت بخارى قاعدة السلطنة زمن بني ساسان، ثم صارت غزنة مكان محمود بن سبكتكين وبنيه، ثم همدان زمان الدولة السلجوقية، ثم خوارزم مكان الملوك الخوارزمية، ثم دمشق زمان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، ثم مصر من زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وإلى اليوم.
وإذا اعتبرت أحوال البلاد تجد السعادة قد نظرت هذه مرة، ثم تلك أخرى كما قال الشاعر:
وإذا نظرت إلى البقاع رأيتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد

(1/243)


وأعلم أن مصر من حين صارت دار الخلافة عظم أمرها، وكثرت شعائر الإسلام فيها، وعلت فيها السنة، وعفت منها البدعة، وصارت محل سكن العلماء، ومحط رحال الفضلاء، وهذا سر من أسرار الله أودعه في الخلافة النبوية حيث ما كانت يكون معها الإيمان والكتاب، كما أخرج . . . . . .
دل هذا الحديث على ان الإيمان والعلم يكونان مع الخلافة أينما كانت، فكانا أولاً بالمدينة زمن الخلفاء الراشدين، ثم انتقلا إلى الشام زمن خلفاء بني أمية، ثم انتقلا إلى بغداد زمن خلفاء بني العباس، ثم انتقلا إلى مصر حين سكنها خلفاء بني العباس؛ ولا يظن أن ذلك بسبب الملوك، فقد كانت ملوك بني أيوب أجل قدرا، وأعظم خطرا من ملوك جاءت بعدهم بكثير، ولم تكن مصر في زمنهم كبغداد، وفي أقطار الأرض الآن من الملوك من هو أشد بأسا، وأكثر جندا من ملوك مصر، كالعجم والعراق والروم والهند والمغرب، وليس الدين قائما ببلادهم كقيامه بمصر، ولا شعائر للإسلام في أقطارهم ظاهرة كظهورها في مصر، ولا نشرت السنة والحديث والعلم فيها كما في مصر، بل البدع عندهم فاشية، والفلسفة بينهم مشهورة، والسنة والأحاديث دائرة، والمعاصي والخمور واللواط متكاثرة.
ذكر سلاطين مصر الذين فوض إليهم خلفاء مصر العباسيون
فاستبدوا بالأمر دونهم
أولهم الملك الظاهر ركن الدين، أبو الفتح بيبرس الندقداري. ولما فوض إليه خليفة مصر لقبه قسيم أمير المؤمنين وهو أول من لقب بها، وكان الملوك قديماً يكتب أحدهم من جهة الخليفة: " مولى أمير المؤمنين " أي عتيقه، ويكتب هو إلى الخليفة " خادم أمير المؤمنين " فإن زيد في تعظيمه لقب " ولي أمير المؤمنين " ، ثم " صاحب أمير المؤمنين " ، ثم " خليل أمير المؤمنين " ، وهو أعلى ما لقب به ملوك بني أيوب، فلقب الظاهر هذا قسيم أمير المؤمنين؛ وهو أجل من تلك الألقاب، وكان في الظاهر محاسن وغيرها، وظلم أهل الشام غير مرة، وأفتاه جماعة بموافقة هواه، فقام الشيخ محيى الدين النووي في وجهه، وأنكر عليه، وقال: أفتوك بالباطل! وكان بمصر منقمعاً تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع ان يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن.
ومن محاسنه ما حكاه ابن كثير في تاريخه أنه حضر في يوم الثلاثاء تاسع رجب سنة ستين إلى دار العدل في محاكمة في بئر بين يدي القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، فقام الناس سوى القاضي، فإنه أشار إليه ألا يقوم، فقام هو وغريمه بين يدي القاضي وتداعيا، وكان الحق بيد السلطان، وله بينة عادلة به، فانتزعت البئر من يد الغريم وهو أحد الأمراء.
والظاهر هو الذي أكمل عمارة المسجد النبوي من الحريق، وكان الخليفة المستعصم شرع فيه بعد أن أحترق، فقتل قبل أن يتم، فجهز الظاهر في رمضان سنة إحدى وستين صناعاً وأخشاباً وآلات، وطيف بها بالديار المصرية فرحة بها، وتعظما لشانها، ثم ساروا بها إلى المدينة الشريفة، وأرسل منبراً فنصب هنالك، وحج في سنة سبع وستين، فغسل الكعبة بيده بماء الورد، وزار المدينة الشريفة، فرأى الناس يلتصقون بالقبر النبوي، فقاس ما حوله بيده، وأرسل في العام الذي يليه دارا بزيا من خشب، فأدير حول القبر الشريف.
وللظاهر فتوحات كثيرة، وملك الروم، وجلس بقيسارية على تخت آل سلجوق، ولبس التاج، وضرب باسمه الدينار والدرهم، وهو الذي جعل القضاة أربعة من كل مذهب قاض، ولم يعهد ذلك قبله في ملة الإسلام، وهو الذي جدد صلاة الجمعة بالجامع الأزهر وبجامع الحاكم، وكانا مهجورين من زمن العبيديين، فأساء في ذلك كل الإساءة كما سنبينه بعد هذا.
وأمر في أيامه بإراقة الخمور، وإبطال المفسدات والخواطيء وإسقاط المكوس المرتبة عليها، فأحسن في ذلك كل الإحسان.

(1/244)


وفي أيامه طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة وذلك في سنة خمس وسبعين، وكان يوما مشهودا، وهو أول من فعل ذلك بالديار المصرية. وكان له صدقات كثيرة؛ من ذلك كل سنة عشرة آلاف إردب قمح للفقراء والمساكين وأرباب الزوايا، وكان يخرج كل سنة جملة مستكثرة يستفك بها من حبس القاضي من المفلسين، وكان يرتب في أول رمضان مطابخ لأنواع الأطعمة برسم الفقراء والمساكين، ووقف وقفا على تكفين أموات الغرباء، وأجرى على أهل الحرمين وطرق الحجاز ما كان انقطع في أيام غيره من الملوك، وله أنواع من المعروف وأوقاف البر.
نقلت من خط شيخنا الإمام تقي الدين الشمني؛ قال: نقلت من خط الشيخ كمال الدين الدميري، نقل من خط الشيخ جمال الدين بن هشام، قال: من غريب ما رأيت على كراريس من تسهيل الفوائد بخط الشيخ جمال الدين بن مالك، في أواخرها صورة قصة رفعها الفقير إلى رحمة ربه محمد بن مالك: يقبل الأرض، وينهى إلى السلطان أيد الله جنوده وأيد سعوده، أنه اعرف أهل زمانه بعلوم القراآت والنحو واللغة وفنون الأدب. وأمله أن يعينه نفوذاً من سيد السلاطين، ومبيد الشياطين، خلد الله ملكه، وجعل المشارق والمغارب ملكه، على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين، وإفادة المسترشيدين؛ بصدقة تكفيه هم عياله، وتغنيه عن التسبب في صلاح حاله؛ فقد كان في الدولة الناصرية عناية تتيسر بها الكفاية؛ مع أن الدولة، من الدولة الظاهرية كجدول من البحر المحيط، والخلاصة من الوسيط والبسيط؛ وقد نفع الله بهذه الدولة الظاهرية الناصرية خصوصاً وعموما، وكشف بها عن الناس أجمعين عموما؛ ولم بها من شعث الدين ما لم يكن ملموماً، فمن العجائب كون المملوك من مزيد خيراتها وعن يمين عنايتها غائبا محروماً؛ مع انه من ألزم المخلصين الدعاء بدوامها، وأقوم الموالين بمراعاة زمانها؛ لأبرحت أنوارها الزاهرة، وسيوف أنصارها قاهرة ظاهرة، وأياديها مبذولة موفورة، وأعاديها مخذولة مقهورة، بمحمد وآله! وكان الشيخ محيى النووي يكثر المكاتبات غليه، ويعظه في أمور المسلمين. قال الشيخ علاء الدين بن العطار: كتب الشيخ محيى الدين ورقة إلى الظاهر بيبرس، تتضمن العدل في الرعية، وأزاله المكوس. وكتب فيها معه جماعة، ووضعها في ورقة كتبها إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بإيصال ورقة العلماء إلى السلطان، وصورتها: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي، سلام الله تعالى ورحمته وبركاته على المولى المحسن، ملك الأمراء بدر الدين. أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلغه من أقصى الآخرة، والأولى كل آماله، وبارك له في جميع أحواله؛ آمين وينهى إلى العلوم الشريفة، أن أهل الشام في هذه السنة في ضيق عيش وضعف حال، بسبب قلة الأمطار وغلاء الأسعار، وقلة الغلات والنبات، وهلاك المواشي وغير ذلك؛ وأنتم تعلمون انه تجب الشفقة على الرعية ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم؛ فأن الدين النصيحة. وقد كتب خدمة الشرع الناصحون للسلطان المحبوبون له كتابا يذكره النظر في أحوال رعيته، والرفق بهم؛ وليس فيه ضرر، بل هو نصيحة محضة، وشفقة وذكرى لأولى الألباب، والمسئول من الأمير أيده الله تعالى تقديمه إلى السلطان، أدام الله له الخيرات. ويتكلم عنده من الإشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدخراً اه عند الله تعالى )يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه(.
وهذا الكتاب أرسله العلماء أمانة ونصيحة للسلطان اعز الله أنصاره، فيجب عليكم إيصاله للسلطان أعز الله أنصاره، وأنتم مسئولون عن هذه الأمانة، ولا عذر لكم في التأخر عنها، ولا حجة لكم في التقصير عنها عند الله تعالى وتسألون عنها يوم القيامة )يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون(، )يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه(.
وأنتم بحمد الله تحبون وتحرصون عليه، وتسارعون غليه، وهذا من أهم الخيرات وأفضل الطاعات، وقد أهلتم له، وساقه الله إليكم، وهو فضل من الله ونحن خائفون ان يزداد الأمر شدة، عن لم يحصل النظر في الرفق بهم، قال الله تعالى: )إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون(، وقال الله تعالى: )وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم(.

(1/245)


والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا، فإذا فعلتم هذا فأجركم على الله )إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون(؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فلما وصلت الورقتان إليه، أوقف عليهما السلطان، فرد جوابهما رداً عنيفاً مؤلماً، فتكدرت خواطر الجماعة الكاتبين، فكتب رضى الله عنه لذلك الجواب وهذه صورته: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد. من عبد الله يحيى النووي، ينهى أن خدمة الشرع كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره، فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاح الكلام عند الحكام عند الحاجة إليه، فقال تعالى: )وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه(، فوجب علينا حينئذ بيانه، وحرم علينا السكوت. وقال تعالى: )ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم(.
وذكر في الجواب أن الجهاد ليس مختصاً بالأجناد؛ وهذا أمر لم ندعه، وكان الجهاد فرض كفاية، فإذا قرر السلطان له أجناداً مخصوصين، ولهم اخباز معلومة من بيت المال كما هو الواقع، تفرغ باقي الرعية لمصالحهم ومصالح السلطان والأجناد وغيرهم من الزراعة والصنائع وغيرهما، مما يحتاج الناس كلهم إليه، فجهاد الأجناد مقابل بالأخباز المقررة لهم، ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء من نقد أو متاع أو أرض أو ضياع تباع أو غير ذلك؛ وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان أعز الله أنصاره. متفقون على هذا، وبيت المال بحمد الله معمور، زاده الله عمارة وسعة وخيراً وبركة في حياة السلطان، المقرونة بكمال السعادة والتوفيق والتسديد، والظهور على أعداء الدين، وما النصر غلا من عند الله.
وإنما يستعان في الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى، واتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وما لزمه أحكام الشرع. وجميع ما كتبناه أولا وثانيا. هو النصيحة التي نعتقدها، وندين الله بها، ونسأل الله الدوام عليها حتى نلقاه. والسلطان يعلم أنها نصيحة له وللرعية، وليس فيها ما يلام عليه. ولم نكتب هذا السلطان إلا لعلمنا أنه يحب الشرع ومتابعة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق بالرعية، والشفقة عليهم وإكرامه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتبناه.
وأما ما ذكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفار كيف كانوا في البلاد؛ فكيف يقاس ملوك الإسلام وأهل الإيمان والقرآن بطغاة الكفار! وبأي شيء كنا نذكر طغاة الكفار وهم لا يعتقدون شيئاً من دينناً! وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا وتهديد طائفة العلماء؛ فليس هذا المرجو من عدل السلطان حلمه؛ وأي حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به! وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه! وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد، ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان؛ فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى، )إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار(، )وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد(، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نقول الحق حيث ما كنا، وألا نخاف في الله لومة لائم، ونحن نحب السلطان في كل الاحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه، ويكون سبباً لدوام الخيرات له، ويبقى ذكره على ممر الأيام، ويخلد به في الجنة، ويجد نفسه )يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً(.
وأما ما ذكر من تمهيد السلطان البلاد، وإدامته الجهاد، وفتوح الحصون، وقهر الأعداء؛ فهذا بحمد الله من الأمور الشائعة التي اشترك في العلم بها الخاصة والعامة، وطارت في أقطار الارض، فلله الحمد، وثواب ذلك مدخر للسلطان إلى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، ولا حجة لنا عند الله تعالى إذا تركنا هذه النصيحة الواجبة علينا، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وكتب إلى الملك الظاهر لما احتيط على أملاك دمشق:

(1/246)


بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: )وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين(. وقال الله تعالى: )وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه(، وقال تعالى: )وتعونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان(. وقد أوجب الله على المكلفين نصيحة السلطان أعز الله أنصاره ونصيحة عامة للمسلمين، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدين النصيحة لله وكتابه وأئمة المسلمين وعامته " ؛ ومن نصيحة السلطان وفقه الله تعالى لطاعته، وأولاه كرامته، أن ننهى غليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام، وأوجب الله تعالى الشفقة على الرعية، والاهتمام بالضعفة وإزالة الضرر عنهم، قال الله تعالى: )واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين(. وفي الحديث الصحيح: " إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم " وقال صلى الله عليه وسلم: " من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " . وقال صلى الله عليه وسلم: " من ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم، فأرفق اللهم به، ومن عشق عليهم، فأشفق اللهم عليه " ، وقال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .
وقد أنعم الله علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان أعز الله أنصاره، فقد أقامه لنصرة الدين، والذب عن المسلمين، وأذل له الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب منه في قلوب أعداء الدين وسائر الماردين، ومهد له البلاد والعباد، وقمع بسيفه أهل الزيغ والفساد، وأمده بالإعانة واللطف والسداد، فلله الحمد على هذه النعم المتظاهرة، والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها لنا وللمسلمين، وزيادتها في خير وعافية، آمين. وقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد الزيادة للشاكرين، فقال تعالى: )لئن شكرتم لأزيدنكم(. وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطلب منهم إثبات مالا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين، بل من في يده شيء فهو ملكه، لا يحل الاعتراض عليه، ولا يكلف بإثبات، وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع فيوصي نوابه، فهو أول من عمل به، والمسئول إطلاق الناس من هذه الحوطة، والإفراج عن جميعهم.
فأطلقهم أطلقك الله من كل مكروه، فهم ضعفة وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين والضعفة والصالحون، وبهم تنصر وتغاث وترزق، وهم سكان الشام المبارك، جيران الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم، وسكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات. ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد لاشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال، ولم يؤخرهم؛ ولكن لا تنهى إليه الأمور على جهتها.
فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار وتلف غلاتهم، فإن غالبهم ورثوا هذه الأملاك عن اسلافهم، ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء وقد نهبت كتبهم، وإذا رفق السلطان بهم حصل له دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رفق بأمته، ونصره على أعدائه، فقد قال الله تعالى: )إن تنصروا الله ينصركم(، ويتوفر له من رعيته الدعوات، وتظهر في مملكته البركات، ويبارك له في جميع ما يقصده من الخيرات، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " . ونسأل الله الكريم، أن يوفق السلطان للسنن الحسنة التي يذكر بها إلى يوم القيامة، ويحميه من السنن السيئة.
فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان، ونرجوا من فضل الله تعالى أن يلهمه فيها القبول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب إليه لما رسم بان الفقيه لا يكون منزلا في أكثر من مدرسة واحدة:

(1/247)


بسم الله الرحمن الرحيم، خدمة الشرع ينهون أن الله تعالى أمر بالتعاون على البر والتقوى، ونصيحة ولاة الأمور وعامة العلماء، وأخذ على العلماء العهد، وتبليغ أحكام الدين ومناصحة المسلمين، وحث على تعظيم حرماته، وإعظام شعائر الدين، وإكرام العلماء وأتباعه. وقد بلغ الفقهاء أنه رسم في حقهم بأن يغيروا عن وظائفهم، ويقطعوا عن بعض مدارسهم، فتنكدت بذلك أحوالهم، وتضرروا بهذا التضييق عليهم، وهم محتاجون، ولهم عيال، وفيهم الصالحون [والمشتغلون بالعلوم، وإن كان فيهم طائفة لا يلحقون مراتب غيرهم؛ فهم منتسبون إلى العلم] ويشاركون فيه. ولا يخفى مراتب أهل العلم وثناء الله تعالى عليهم وبيانه مزيتهم على غيرهم، وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله عليهم؛ فإن الملائكة عليهم السلام تضع أجنحتها لهم، ويستغفر لهم كل شيء حتى الحوت في الماء.
واللائق بالجناب العالي إكرام هذه الطائفة والإحسان إليهم ومعاضدتهم، ورفع المكروهات عنهم، والنظر بما فيه من الرفق بهم، فقد ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه قال: " اللهم من ولى من أمور أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به " . وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه، أنه كان يقول لطلبة العلم: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجالاً يأتونكم يتفقهون، فاستوصوا بهم خيراً " .
والمسئول ألا يغير على هذه الطائفة شيء، وتستجاب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة، وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم! " . وقد أحاطت العلوم بما أجاب به الوزير نظام الملك حين لا ترد سهامهم بالأسحار؛ فاستصوب فعله، وساعده عليه. والله الكريم يوفق الجناب دائما لمرضاته، والمسارعة إلى طاعته والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وقال بعضهم: لما خرج السلطان الظاهر بيبرس إلى قتال التتار بالشام، أخذ فتاوى العلماء بأنه يجور له أخذ مال من الرعية ليستنصر به على قتال العدو، فكتب له فقهاء الشام بذلك، فقال: هل بقى أحد؟ فقيل: نعم، بني الشيخ محيى الدين النووي، فطلبه فحضر، فقال: أكتب خطك مع الفقهاء، فامتنع فقال: ما سبب امتناعك. فقال: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال. ثم من الله عليك، وجعلك ملكاً. وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية، لكل جارية حق من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليك بالبنود الصوف بدلاً عن الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر من كلامه، وقال: اخرج من بلدي - يعني دمشق - فقال: السمع والطاعة! وخرج إلى نوى، فقال الفقهاء: عن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يقتدى به، فأعده إلى دمشق، فرسم برجوعه. فامتنع الشيخ، وقال: لا أدخلها والظاهر بها. فمات الظاهر بعد شهر.
قال الذهبي: كان الظاهر خليقاً بالملك، لولا ما كان فيه من ظلم. قال: والله يرحمه ويغفر له؛ فإن له أياماً بيضاء في الإسلام، ومواقف مشهودة وفتوحات معدودة.
واستمر الملك الظاهر إلى أن مات يوم الخميس سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة بدمشق.
وقام بعده في الملك ولده الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد، وسنه ثماني عشرة سنة، وكان أبوه عقد له في حياته، ولقبه هذا اللقب، واستنابه على مصر أيام سفره، فاستقل بالسلطنة من يوم موته، واستمر إلى سنة ثمان وسبعين، فاختلف عليه الأماء، وقاتلوه، فخلع نفسه من السلطنة، وأشهد على نفسه بذلك، وذلك في يوم سابع عشر ربيع الآخر.

(1/248)


وأقيم مقامه أخوه بدر الدين سلامش؛ ولقب الملك العادل، وعمره سبع سنين، وجعل اتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي الألفي - سمى بذلك لأنه اشترى بألف دينار - وضربت السكة باسمه على وجه، وباسم اتابكه على وجه. ودعى لهما معا في الخطبة، فأقام إلى يوم الثلاثاء حادي عشر رجب من هذه السنة، فاجتمع الأمراء بالقلعة، وخلعوا العادل. قال صاحب السكردان: وهو السادس من دولة الأتراك؛ فإن أولهم المعز أيبك، وكل سادس من الخلفاء والملوك لابد أنه يخلع. وأقاموا بعده قلاوون الصالحي، ففوض إليه الخليفة، ولقب الملك المنصور، وكتب له تقليد هذه صورته، من إنشاء القاضي محيى الدين عبد الظاهر: الحمد لله الذي جعل آية السيف ناسخة لكثير من الآيات، وناسخة لعقود أولى الشك والشبهات، الذي رفع بعض الخلق على بعض درجات، وأهل لأمور البلاد والعباد من جاءت خوارق تملكه بالذي إن لم يكن من المعجزات فمن الكرامات.
ثم الحمد لله الذي جعل الخلافة العباسية بعد القطوب حسنة الابتسام، وبعد الشجوب جميلة الاتسام، وبعد التشريد لها دار سلام أعظم من دار السلام. والحمد لله على ان أشهدها مصارع أعدائها، واحمد لها عواقب إعادة نصرتها وإبدائها، ورد شبيهتها بعد أن ظن كل أحد ان شعارها الأسود ما بقي منه إلا ما أصابته العيون في جفونها والقلوب في سويدائها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يتلذذ بذكرها اللسان، وتتعطر بنفحاتها الأفواه والآذان، وتتلقاها ملائكة القبول فترفعها إلى أعلى مكان.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكرمنا به وشرف لنا الأنساب، وأعزنا به حتى نزل فيينا محكم الكتاب؛ صلى الله عليه وآله الذين إنجاب الدين منهم عن أنجاب، ورضى الله عن صحابته الذين هم أعز صحاب؛ صلاة توفي قائلها أجره بغير حساب يوم الحساب.
وبعد حمد الله على أن أحمد عواقب الامور، واظهر الإسلام سلطانا اشتدت به من الأمة الظهور، وشفيت الصدور، وأقام الخلافة العباسية في هذا الزمن المنصور، كما أقامها فيما مضى بالمنصور، واختار لإعلان دعوتها من يحيى معالمها بعد العفاء ورسومها بعد الدثور، وجمع لها الآن ما كان جمح عليها فيما قبل من خلاف كل ناجم، ومنحها ما كانت تبشرها به الملاحم، وانفذ كلمتها في ممالك الدولة العلوية بخير سيف مشحوذ ماضي العزائم، ومازج بين طاعتهما في القلوب وذكرهما في اللسان؛ وكيف لا والمنصور هو الحاكم. وأخرج لحياطة الأمة المحمدية ملكا تنقسم البركات من يمينه، وتقسم السعادات بنور جبينه، ويقهر الأعداء بفتكاته، وتمهر عقائل العقائل بصفر راياته؛ ذي السعد الذي ما زال سعده يشف حتى ظهر، ومفخره يرف إلى أن بهر، وجوهره ينتقل من جيد إلى جيد حتى يملأ الجين، وسره يكمن في كل قلب حتى علم العلم اليقين.

(1/249)


والحمد لله الذي جعل بنا تمكينه في الأرض بعد حين، فاختاره الله على علم، واصطفاه من بين عباده بما جبله الله عليه من كرم وشجاعة وحلم، واتى الله به الأمة المحمدية في وقت الاحتياج غوثاً، وفي إبان الاستمطار غيثا، وفي حين عبث الأشبال في غير وقت الافتراش ليثاً، فوجب على كل من له في أعناق الأمة المحمدية بيعة الرضوان، وعند إيمانهم مصافحة الإيمان، ومن حيث وجبت باستحقاقه لميراث منصب النبوة، ومن تصح به كل رسمية شرعية يؤخذ كتابها قوة، ومن هو خليفة الزمان والعصر، ومن بدعواته تنزل عليكم معاشر كماة المسلمين ملائكة النصر، ومن نسبه بنسب نبيكم صلى الله عليه وسلم منتسج، وحسبه بحسبه ممتزج - أن يفوض له ما فوض الله إليه من أمر الخلق، ليقوم عنه بفرض الجهاد والعمل بالحق، وأن يوليه ولاية شرعية تصح بها الأحكام، وتنضبط أمور الإسلام، وتأتي هذه العصبة الإسلامية يوم تأتي كل أمة بإمامها من طاعة خليفتها بخير إمام. وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين شرفه الله أن يكون المقر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري أجله الله ونصره، وأظفره وأقدره وأيده وأبده، كلما فوضه مولانا أمير المؤمنين من حكم في الوجود، وفي التهائم والنجود، وفي الجيوش والجنود، وفي الخزائن والمدائن، وفي الظواهر والبواطن، وفيما فتحه الله تعالى وفيما سيفتحه، وفيما فسد بالكفر والرجا من الله أن سيصلحه، وفي كل جود ومن وكل عطاء، وفي كل هبة وتمليك، وفي كل تفرد بالنظر في أمور المسلمين بغير شريك، وفي كل تعاهد ونبذ، وفي كل عطاء تفرد بالنظر في أمور المسلمين بغير شريك، وفي كل تعاهد ونبذ، وفي كل عطاء وأخذ، وفي كل عزل وتولية، وفي كل تسليم وتخلية، وفي كل إرقاق وإنفاق، وفي كل إنعام وإطلاق، وفي كل استرقاق وإعتاق، وفي كل تقليل وتكثير، وفي كل تأثيل وتأثير، وفي كل تقليد وتفويض، وفي كل تجديد وتعويض، وفي كل حمد وتقريص، ولاية تامة محكمة، منضدة منظمة، لا يعقبها نسخ من بين يديها ولا من خلفها، ولا يعتريها فسخ يطرا عليها، يزيدها مر الليالي جدة يعقبها حسن شباب، ولا ينتهي عن الأعوام والأحقاب، ونعم تنتهي إلى ما نصبه الله تعالى للإرشاد، ومن سنة وكتاب؛ وذلك من شرع الله، أقامه للهداية علماً، وجعله إلى اختيار الثواب سلماً.
فالواجب أن يعمل بجزئيات أمره وكلياته، وألا يخرج أحد عن مقدماته.
والعدل، فهو الغرس المثمر، والسحاب الممطر، والروض المزهر، وبه تنزل البركات، وتخلف الهبات، وتربو الصدقات، وبه عمارة الأرض، وبه تؤدي السنة والفرض؛ فمن زرع العدل اجتنى الخير، ومن أحسن كفى الضرر والضير.
والظلم، فعاقبته وخيمة، وما يطول عمر الملك إلا بالمعدلة الرحيمة.
والرعية، هم الوديعة عند أولى الأمر، فلا يختص منهم زيد دون عمرو.
والأموال، فهي ذخائر العاقبة والمآل، فالواجب أن تؤخذ بحقها، وتنفق في مستحقها.
والجهاد براً وبحراً، فمن كنانة الله يفوق سهامه، وتؤرخ أيامه، وينتضى حسامه، وتجري منشآته في البحر كالأعلام وتنشر أعلامه، وفي عقر دار الحرب يحط ركابه، ويخط كتابه، وترسل ارساته، وتجوس خلالها فرسانه، فيلزم منه دنياديدنا، ويستصحب منه فعلا حسنا.
وجيوش الإسلام وكماته، وأمراؤه وحماته، فمنهم من قد علمت قدم هجرته، وعظم نصرته، وشدة بأسه، وقوة مراسه، وما منهم غلا من شهد الفتوحات والحروب، وأحسن في المحاماة عن الدين الدءوب، وهم بقايا الدول، وسجايا الملوك الأول، ولاسيما أولى السعي الناجح، والرأي الراجح، ومن له نسبة صالحية؛ فإذا فخروا بها قيل لهم: نعم السلف الصالح! فأوسعهم براً، وكم بهم براً، فهم مما يجب من خدمتك اعلم، وأنت بما يجب من حقهم أدرى.
والحصون والثغور، فهي ذخائر الشدة، وخزائن العديد والعدة، ومقاعد القتال، وكنائن الرجا والرجال؛ فأحسن لها التحصين، وفوض أمرها إلى كل قوي أمين، وغلى كل ذي دين متين، وإلى كل ذي عقل رصين.
ونواب الممالك ونواب الأمصار، فأحسن لهم الاختيار، وأجمل لهم الاختبار، وتفقد لهم الأخبار.
وأما ما سوى ذلك فهو داخل في حدود هذه الوصايا، ولولا أن الله تعالى أمر بالتذكير لكان ذلك سجايا المقر الأشرف السلطاني الملكي المنصور مكتفية بأنواره المضيئة الساطعة.

(1/250)


وزمام كل صلاح يجب أن يشغل به جميع أوقاته، هو تقوى الله تعالى، قال الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته(، فليكن ذلك نصب العين، وشغل القلب والشفتين.
وأعداء الدين من أرمن وتتار، فأذقهم وبال أمرهم في كل إيراد وإصدار، وخذ للخلفاء العباسيين ولجميع المسلمين منهم الثأر، وأعلم ان الله ينصرك على ظلمهم وما للظالمين من أنصار.
وأما غيرهم من مجاوريهم من المسلمين، فاحسن لهم باستنقاذك من العلاج، وطبهم باستصطلاحك فبالطب المنصوري والملكي ما زال يصلح المزاج، والله الموفق بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
واستمر قلاوون في السلطنة، فكان له مشاهد حسنة، وفتوحات، فمنها طرابلس وقد كانت في أيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة وإلى الآن. وهو الذي أحدث وظيفة كتابة السر، وأحدث اللعب بالرمح أيام إدارة المحمل وكسوة الكعبة، وغير ملابس الدولة عما كانوا عليه في دولة بني أيوب.
قال الصلاح الصفدي: كان الجند يلبسون فيما تقدم كلوتات صفر مضربة بكلبندات بغير شاشات، وشعورهم مضفورة دبابيق في أكياس حرير ملونة، وفي خواصرهم موضع الحوائص بنود ملونة، وأكمام أقبيتهم ضيقة وأخفافهم برغالي، ومن فوق قماشهم بحلق وإبزيم وجلواز كبير، يسع نصف ويبة أو كثر؛ فابطل المنصور ذلك كله بأحسن منه؛ وأقام في السلطنة إلى أن توفى يوم السبت سادس ذي القعدة سنة تسع وثمانين.
وأقيم بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل، فلما كان يوم الجمعة رابع عشر شوال سنة تسعين، سأل الأشرف الخليفة الحاكم بأمر الله، أن يخطب بنفسه الناس، وأن يذكر في خطبته انه قد ولي السلطنة الأشرف خليل بن المنصور، فلبس الخليفة خلعة سوداء، وخطب الناس بجامع القلعة، ورسم لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة من ثم أن يخطب بالقلعة عند السلطان، فخطب يوم الجمعة التي خطب فيها الخليفة، واستمر يخطب ويستنيب في الجامع الأزهر، ثم أمر الأشرف بقراءة ختمة عند قبر الملك المنصور في ليلة الاثنين رابع ذي القعدة، فحضرها القضاة والأمراء والأعيان، ونزل السلطان ومعه الخليفة إليهم وقت العراق، واستنقاذها من أيدي التتار، واستمر الأشرف في السلطنة إلى أن قتل بتروجة في ثالث المحرم سنة ثلاث وتسعين، ونقل فدفن في مدرسته التي أنشأها بالقرب من السيدة نفيسة، وقال ابن حبيب يرثيه:
تبا لأقوام لمالك رقهم ... قتلوا ومارقوا لحالة مترف
وافوه غدرا ثم صالوا جملة ... بالمشرفي على المليك الأشرف وأقيم أخوه ناصر الدين أبو الفتوح محمد، ولقب الملك الناصر، وعمره يومئذ تسع سنين، واستمر إلى حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين، فخله.
وتسلطن زين الدين كتبغا المنصوري من سبي التتار ولقب الملك العادل، فأقام إلى صفر سنة ست وتسعين، فخلع وتسلطن حسام الدين لاجين المنصوري، وشق القاهرة، وعليه الخلعة الخليفية، والأمراء بين يديه مشاة، وجاء في تلك السنة غيث عظيم، بعد ما كان تأخر، فقال الوادعي في ذلك:
يا أيها العالم بشراكم ... بدولة المنصور رب الفخار
فالله قد بارك فيها لكم ... فأمطر الليل وأضحى النهار
إلى أن قتل ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين، وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان منفياً بالكرك، فأحضر، وقلده الخليفة يوم السبت رابع جمادى الأولى، وشق القاهرة وعليه خلعة الخليفة، والجيش مشاة بين يديه، فأقام إلى سنة ثمان وسبعمائة، فخرج في رمضان قاصداً للحج، فاجتاز بالكرك، فأقام بها، ثم كتب كتابا إلى الديار المصرية، يتضمن عزل نفسه عن المملكة، فاثبت ذلك على القضاة بمصر، ثم نفذ على قضاة الشام.
وأقيم في السلطنة الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري، وذلك يوم السبت الثالث والعشرين من شوال، ورقب الملك المظفر، وقلده الخليفة، وألبسه الخلعة السوداء والعمامة المدورة، وركب بذلك وشق القاهرة، والدولة بين يديه والصاحب ضياء الدين النشائي حامل التقليد من جهة الخليفة في كيس أطلس أسود وأوله: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم.

(1/251)


ثم نفذ التقليد إلى الشام، فقرئ هناك، ثم عاد الملك الناصر من الكرك طالباً عوده إلى ملكه، وبايعه على ذلك جماعة من الأمراء، فبلغ ذلك المظفر بيبرس، فاستدعى بالشيخ زين الدين بن المرحل وبالشيخ شمس الدين بن عدلان، واستشارهما، فأشارا عليه بتجديد العهد من الخليفة وتخليف الأمراء ففعل ذلك، وكتب له عهد من الخليفة، صورته: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي الربيع سليمان العباسي لأمراء المسلمين وجيوشها، )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم(. وإني رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفر ركن الدين بيبرس نائبا عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية، وأقمته مقام نفسي لدينه وكفايته وأهليته، ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله، بعد علمي بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيناً علي، وحكمت بذلك الحكام الأربع. واعلموا رحمكم الله أن الملك عقيم ليس بالوارثة لأحد خالف عن سالف، ولا كابر عن كابر، وقد استخرت الله تعالى ووليت عليكم الملك المظفر، فمن أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى أبا القاسم ابن عمي صلى الله عليه وسلم. وبلغني أن الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور شق العصا على المسلمين، وفرق كلمتهم، وأطمع عدوهم فيهم، وعرض البلاد الشامية والمصرية إلى سبي الحريم والأولاد، وسك الدماء، فتلك دماء قد صانها الله تعالى من ذلك، وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمر على ذلك، وأدافع عن حريم المسلمين وأنفسهم وأولادهم بهؤلاء الأمراء والجيش العظيم، وأقاتله حتى يفيء إلى أمر الله. وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي، اللواء الشريف، فقد أجمعت الحكام على وجوب دفعه وقتاله عن استمر على ذلك، وأنا استصحب معي الملك المظفر، فجهزوا أرواحكم. والسلام.
وقرئ هذا العهد على منابر الجوامع بالقاهرة، وأما الناصر فإنه سار من الكرك بمن معه في أول شعبان سنة ثمان وسبعمائة، فأتى دمشق فانتظم أمره، ثم توجه إلى مصر، فلما بلغ ذلك المظفر بيبرس، أخذ جميع ما في الخزائن من الأموال، وتوجه إلى جهة أسوان، فدخل الناصر إلى مصر يوم عيد الفطر، وصعد القلعة، وجلس على سرير الملك، وحلقت له العساكر، ثم وجه إلى المظفر من أحضره واعتقله، ثم خنقه في خامس عشر شوال.
وقال العلاء الوداعي في عود الناصر إلى ملكه:
الملك الناصر قد أقبلت ... دولته مشرقة الشمس
عاد إلى كرسيه مثل ما ... عاد سليمان إلى الكرسي
وقال الصلاح الصفدي:
تثنى عطف مصر حين وافى ... قدوم الناصر الملك الخبير
فذل الجشنكير بلا لقاء ... وأمسى وهو ذو جأش نكير
إذا لم تعضد الأقدار شخصاً ... فأول ما يراع من النصير
وشرع يعاتب الناس في أمره، فقال للخليفة: هل أنا خارجي وبيبرس من سلالة بني العباس! وقال للقاضي علاء بن عبد الظاهر: وكان هو الذي كتب عهد المظفر عن الخليفة: يا أسود الوجه. وقال القاضي بدر الدين بن جماعة: كيف تفتي المسلمين بقتالي! فقال: معاذ الله، أن تكون الفتوى كذلك! وغنما الفتوى على مقتضي كلام المستفتي. ثم عزله عن القضاء، وعزل القاضيين: شمس الدين السروجي الحنفي والحنبلي، وأبقى المالكي، لكونه كان وصياً عليه من جهة أبيه قلاوون.
وقال للشيخ صدر الدين بن المرحل: كيف تقول في قصيدتك:
ما للصبي وما للملك يكفله ... شأن الصبي بغير الملك مألوف!
فخلف ابن المرحل ما قال هذا، وإنما الأعداء زادوا هذا البيت في القصيدة، والعفو من شيم الملوك؛ فعفا عنه.
وجاء الشيخ شمس الدين بن عدلان يستأذن، فقال الناصر للدوادار: قل له: أنت أفتيت انه خارجي، وقتاله جائز، مالك عندي دخول! ولكن عرفه أنه وابن المرحل بكفهما ما قال الشارمساحي في حقهما، وكان الأديب شهاب الدين أحمد بن عبد الدائم الشارمساحي الماجن قال:
ولي المظفر لما فاته الظفر ... وناصر الحق وافى وهو منتصر
وقد طوى الله من بين الورى فتنا ... كادت على عصبة الإسلام تنتشر
فقل لبيبرس إن الدهر ألبسه ... أثواب عارية في طولها قصر
لما تولى تولى الخبر عن أمم ... لم يحمدوا أمره فيها ولا شكروا

(1/252)


وكيف تمشي به الأحوال في زمن ... لا النيل أوفى، ولا وافاهم مطر
ومن يقوم ابن عدلان بنصرته ... وابن المرحل قل لي: كيف ينتصر!
وكان النيل لم يوف سنة تولى المظفر، وارتفع السعر.
قلت: الكل مظلمون مع الناصر، فإنهم أفتوا بالحق، ولكن جبروت وظلم وعسف، وشوكة وصباً وجهل، فمن يخاطب الإنسان! واستمر الناصر في السلطنة بلا منازع، فحج خفيفا في سنة اثنتي عشرة من طريق الكرك، وعاد إلى دمشق، ثم حج من القاهرة سنة تسع عشرة ومعه قاضي القضاة البدر ابن جماعة، والأمراء وغالب أرباب الدولة، وكان خروجه في سادس ذي القعدة، وأبطل في هذه السنة مكوس الحرمين، وعوض أميري مكة والمدينة عنها إقطاعات بمصر والشام، ومهد ما كان في عقبة إيلياء من الصخور، ووسع طريقها.
واتفق في هذه السنة أن كريم الدين ناظر الخاص حضر إلباس الكعبة الكسوة، فصعد الكعبة، وجلس على العتبة يشرف على الخياطين، فأنكر الناس استعلاءه على الطائفين، فسقط لوقته على رأسه، وصرخ الناس صرخة عظيمة تعجبا من ظهور قدرة الله، وانقطع ظهره، ولولا تداركه من تحته لهلك؛ وعلم بذنبه، فتصدق بمال جزيل.
ثم حج الناصر حجة ثالثة في سنة اثنتين وثلاثين، وهو الذي حفر الخليج الناصري الداخل من قنطرة قديدار، وعزم على ان يجري النيل تحت القلعة، ويشق له من ناحية حلوان، فثبطه عن ذلك فخر الدين ناظر الجيش، وقال إنه يحتاج إلى ثلاث خزائن من المال، ولا يدري: هل يصح أولا! فرجع عنه.
واستمر الناصر إلى أن مات يوم الأربعاء عاشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين. وهو أطول ملوك الترك مدة.
وأقيم بعده ولده سيف الدين أبو بكر، ولقب الملك المنصور، فأقام دون الشهرين، ثم خلع في يوم الأحد العشرين من صفر سنة اثنتين وأربعين، ونفي هو وأخوته إلى قوص، وتهتكت حريم أبيه الناصر، وكثر البكاء والعويل بالقاهرة. وكان يوماً من أشنع الايام، ثم قتل بقوص، وأقيم بعده أخوه علاء الدين كجك ولقب الملك الاشرف، وعمره دون ست سنين، فقال بعض الشعراء في ذلك.
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
فكيف يطمع من تغشاه مظلمة ... أن يبلغ السؤل والسلطان ما بلغا
فأقام خمسة أشهر، ثم خلع في أول شعبان، واعتقل بالقلعة إلى أن مات سنة ست واربعين، قال صاحب السكردان: والله أعلم كيف موته.
وأقيم أخوه شهاب الدين أحمد ولقب الملك الناصر، وكان قدم من الكرك، وكان الذي عقد المبايعة بينه وبين الخليفة الشيخ تقي الدين السبكي، وقد حضر من الشام إلى مصر، قال في السكردان: فأقام في الملك بمصر أربعين يوما، ثم رجع إلى الكرك، ولم يزل هناك حتى خلع يوم الخميس ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وأربعين، ثم قتل في أول سنة خمس وأربعين، وأقيم بعده أخوه عماد الدين إسماعيل ولقب الملك الصالح، فأقام إلى ان مات في رابع ربيع الآخر سنة ست وأربعين وعمره نحو عشرين سنة.
وقال الصلاح الصفدي يرثيه:
مضى الصالح المرجو للباس والندى ... ومن لم يزل يلقى المنى بالمنائح
فيا ملك مصر كيف حالك بعده ... إذا نحن أثنينا عليك بصالح
وأقيم بعده أخوه زين الدين شعبان، ولقب الملك الكامل. وقال الجمال بن ثيابه في ذلك:
طلعة سلطاننا تبدت ... بكامل السعد في الطلوع
فاعجب لها منه كيف أبدت ... هلال شعبان في ربيع
وقال أيضا:
شعبان سلطاننا المرجى ... مبارك الطالع البديع
يا بهجة البدر إذ تبدى ... هلال شعبان في ربيع
فأقام سنة وأياما، ثم خلع في جمادى الأولى سنة سبع وأربعين، وسجن وقتل. وكان من شرار الملوك ظلماً وعسفا وفسقا، فقال فيه الصلاح الصفدي:
بيت قلاوون سعاداته ... في عاجل كانت وفي آجل
حل على أملاكه للردى ... دين قد استوفاه بالكامل وأقيم بعده أخوه زين الدين حاجي، ولقب الملك المظفر؛ فأقام سنة وثلاثة أشهر، ثم خلع في يوم الأحد ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وذبح من ساعته، وقال فيه الصلاح الصفدي:
أيها العاقل اللبيب تفكر ... في المليك المظفر الضرغام
كم تمادى في البغي والغى حتى ... كان بعث الحمام حد الحمام
وقال أيضا:
حان الردى للمظفر ... وفي التراب تعفر

(1/253)